متى تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا

متى تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً لأسباب إنسانية؟

أثارت الطريقة، التي تعاملت بها إدارة باراك أوباما، الرئيس الأمريكي، مع الهجوم الكيميائي بسوريا في شهر أغسطس 2013، تساؤلات عن الاستراتيجية الأمريكية تجاه التدخُّل العسكري لأسباب أخلاقية أو إنسانية بشكل عام؛ فهل كانت سـياسة أوباما المتذبذبة في الأزمة السورية استثنائيَّة؟ أم أن هناك إدارات أمريكية سابقة أيضًا، تصـرَّفت بتردُّد حين طُلِب إليها التدخل عسكريًّا لأسباب إنسانية؟ وهل لدى الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية واضحة للتدخل عسكريًّا لأسباب إنسانية، أم لا؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فما هذه الاستراتيجية؟

ومع أن المناخ الدولي لمدَّة ما بعد الحرب الباردة، التي اتسمت بشدة الغموض، وانبثاق عصـر الأحادية القطبية الأمريكي، ولَّدا الاعتقاد بإمكانية استخدام الولايات المتحدة الأمريكية قوتها العسكرية لما فيه خير الشعوب؛ فإن القادة الأمريكيين تجنَّبوا التدخل لحماية أرواح الأبرياء وحقوقهم في الخارج؛ فعلى سبيل المثال رفضت الولايات المتحدة، طوال أكثر من ثلاث سنوات، التدخُّلَ في حرب البوسنة بين عامي 1992 و1995؛ إذ أسفر التطهير العرقي عن مقتل 100 ألف شخص، ونزوح مليونَين آخرين. كما قاومت إدارتا الرئيس جورج بوش الأب وبيل كلينتون، الضغوط السـياسـية المكثفة الداعية إلى تدخُّل عسكري أمريكي في البلقان. وقدَّمت الإدارتان معًا إشارات محيِّرة ومتناقضة بشأن دور أمريكا، ومدى التزامها المهمَّات الإنسانية. وفي عالم ما بعد الحرب الباردة ما زالت عبارة الأمل أنه “لن يحدث ذلك مرة أخرى أبداً” تنقلب، في أحيان كثيرة، إلى عبارات تعبّر عن أحداث “تُكرَّر من جديد”؛ فإن كانت أمريكا تملك، في الواقع، مثل هذه الاستراتيجية الموضوعة مسبَقًا، التي تُجنبها مخاطر إرسال قوات عندما تحدث أزمات إنسانية؛ فكيف يمكن تفسـير سلوكها؟

هذا ما تحاول هذه الدراسة مناقشته عن طريق تفحُّص الأساليب التفسـيرية التي استُخدِمَت في الماضـي لتفسـير سـياسة أمريكا الحذِرة حيال التدخل الإنساني؛ إذ تتوسع الدراسة في شـرح “نموذج هاغان” الذي يقدم تفسـيرًا أكثر شموليَّةً لسلوك القادة تجاه الأزمات الإنسانية؛ وهو ما يُعرَف بـ”منطق التفسـير السـياسـي”. كما تعرض الدراسة حدَثين إنسانيَّين استخدمت الولايات المتحدة فيهما التدخل العسكري؛ لتوضـيح كيف يقدم نموذج هاغان أفضل تفسـير للسـياسة الأمريكية في هذا السـياق؛ والهدف هو شـرح الاستجابة الأوليَّة للحدَثين، والتحول الذي حصل لاحقًا في هذه السـياسة. والواضح أن استراتيجية صانعي السـياسة الأمريكيين تقوم، أولًا، على تَجنُّب الجدل حيال تورُّط محفوف بالمخاطر؛ وفي حالة فشل هذه الاستراتيجية يتحول متخذو القرار إلى استراتيجية شـرعنة خيارات سـياستهم، و/أو عزل السـياسة الخارجية عن الضغط السـياسـي الداخلي.

وتتمثل دراستا الحالة في هذه الدراسة ببعثة “حلف شمال الأطلسـي” (ناتو) لحفظ السلام، بقيادة الولايات المتحدة، في البوسنة عام 1995، والتدخل في ليبيا عام 2011. وقد اختارت الدراسة حالة البوسنة، على الرغم من أنها مجرد حالة من خمس حالات تدخُّل إنسانية شهدها عقد التسعينيات من القرن العشـرين (التدخلات الأخرى هي: التدخل لمصلحة الأكراد في العراق، والتدخل في كل من الصومال، وهايتي، وكوسوفو)؛ لأنها توضح تراجع صانعي السـياسة الأمريكيين عن خطابهم المعلَن بشأن تبنيهم استراتيجية عدم التدخل (التجنُّب) قبل اتخاذهم القرار الأخير بالتدخل. كما توضح حالة البوسنة مدى إصـرار القادة على التمسُّك باستراتيجية التَجنُّب على الرغم من الضغوط الداخلية والخارجية الهائلة من أجل التغيير، وتكشف أن تعديل الاستراتيجية لا يعود إلى الضغوط الدولية، بل إن المخاوف من فقدان اللعبة السـياسـية المزدوجة في الداخل هي التي تحفّز القادة على تغيير السـياسة؛ وخصوصًا عندما تغدو مصداقيتهم وبقاؤهم السـياسـي في موضع شك. وقد اختيرت دراسة الحالة الثانية؛ لأن التدخل في ليبيا يُعَدُّ الانتشار المهم الوحيد للقوة العسكرية الأمريكية لأسباب إنسانية طوال السنوات الخمس عشـرة الماضـية. وعلى شاكلة حالة البوسنة توضح الحالة الليبية تجنُّب القادة التدخل على الرغم من كثافة الضغوط الداخلية والخارجية.

إن طرح التفسـيرات للاستراتيجية الأمريكية في البوسنة وليبيا يساعد على فهم استجابة أوباما الضعيفة للهجمات الكيميائية بسوريا في أغسطس عام 2013. ومع أن المصالح الوطنية والمصالح الأمنية قد تكون لها الغلبة؛ فإن المخاوف الأخلاقية والمصالح الإنسانية تؤثر في النشاط الخارجي الأمريكي، ولن يكفَّ القادة الأمريكيون عن تأكيد أن سـياستهم الخارجية ذات أساس معياري. وسـيستمر المرشحون لرئاسة الولايات المتحدة أيضًا في إدارة حملتهم على أساس استعادة الزعامة الأخلاقية لأمريكا في العالم، وعلى أساس أنه من مسؤولية أمريكا الحؤول دون حصول أعمال وحشـية جماعية. ولكن المرشحين لا يكترثون كثيرًا لوضع آليات لتنفيذ هذه السـياسة، بل إن ما يشغلهم هو الفوز في الانتخابات، وحين يتبوَّؤون مناصبهم يصـرون على تجنُّب التدخل لإنقاذ حياة غير الأمريكيين.

ومع أن الواقعية فسـَّرت في الماضـي هذا الإحجام عن التدخل؛ فإن نموذج هاغان (1993، 1995) يقدم تفسـيرًا أكثر شموليةً لسلوك القادة تجاه الأزمات الإنسانية؛ لأنه يقدّر دور البيئة المحلية، وعلى وجه الخصوص دور معارضة الرئيس؛ ومن ثمَّ تضـيف هذه الدراسةُ إلى مجموع الأدبيات الموجودة استكشافَ العلاقة بين البيئة المحلية والسـياسة الخارجية. كما توضح الدراسة أن المعارضة والرأي العام يظلان من المكونات الأساسـية في عملية اتخاذ القرار في السـياسة الخارجية؛ وهذا يجعل النوعية التأكيدية لنموذج هاغان أكثر دقةً من أطُر تفسـيرية أخرى.

المؤلفة: روبرتا هار

تعمل روبِرتا هار Roberta Haar محاضِـرة في العلاقات الدولية بجامعة ماستريخت في هولندا، وتشمل ميادينُ خبراتها السـياسةَ الخارجية الأمريكية، والعلاقات عبر الأطلسـي، وتحليل السـياسة الخارجية، وأسباب الصـراع. وهي تحمل درجة الدكتوراه من جامعة ولاية بنسلفانيا، كما أنها مؤلّفة كتابNation States as Schizophrenics: Germany and Japan as post–Cold War Actors [الدول القومية المصابة بالفصام: ألمانيا واليابان بصفتهما قوتين فاعلتين بعد الحرب الباردة] (Praeger Publishers 2001)؛ وكتبت كثيرًا من المقالات والفصول عن السـياسة الخارجية الأمريكية والعلاقات عبر الأطلسـي أيضًا.

الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية – سنة النشر: 2017

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض