جاء اتفاق تحالف “أوبك+” الأخير، بشأن خفض إنتاجه النفطي بنحو 10%، ليضع أسواق النفط العالمية على بداية الطريق لاختبارِ معطياتٍ جديدةٍ. فهذا الاتفاق يأتي بعد أن عانت الأسواق طوال أسابيع من ضغوطٍ شديدةٍ، تركزت في فقدانها التوازن بين جانبي العرض والطلب، بسبب التراجع الشديد في الطلب الناتج عن التبعات الاقتصادية السلبية لفيروس كورونا المستجد من ناحية، والزيادة الكبيرة في المعروض بسبب الخلاف الناشب بين روسيا والسعودية، بجانب التمادي الأمريكي غير المحسوب في زيادة الإنتاج من ناحية أخرى.
الخطوة الجديدة لتحالف «أوبك+» تسعى إلى استعادة الحالة التوازنية في الأسواق من جديد، فهل يفلح هذا المسعى في تحقيق مراده؟
خطوة غير مسبوقة
تغلبت الدول الأعضاء في تحالف «أوبك+» على خلافاتها، بتوصلها لاتفاق تاريخي، يوم الأحد 12 أبريل 2020، يقضي بتخفيض إنتاجها بمقدار 9.7 مليون برميل يومياً، وبما يناهز 19.5% من إنتاجها مجتمعة. وأكدت دول التحالف أن اتفاقها يستهدف الموازنة بين توفير إمدادات نفطية مستدامة للاقتصاد العالمي، وتحقيق عائد مجدٍ على رأس المال المستثمر بقطاع النفط، لتمكين المنتجين من مواصلة دورهم.
وقد واجهت دول التحالف صعوبات كبيرة حتى الوصول إلى الاتفاق، حيث استمرت المحادثات فيما بينهم أربعة أيام كاملة، حيث بدأت المحادثات الفعلية يوم الخميس الماضي، 9 أبريل، وأعلن التحالف بنهاية ذلك اليوم توصله لاتفاق مبدئي، بتخفيض الإنتاج بمقدار 10 مليون برميل يومياً. لكن قوبل الاتفاق ببعض الاعتراضات، ولاسيما على كميات الخفض المطلوبة، من قبل بعض منتجي النفط من خارج التحالف، وهذا ما تسبب في تقليص حجم الخفض الكلي من 10 مليون برميل إلى 9.7 مليون برميل، وسيتم توضيح ذلك بتفصيل أكثر في أجزاء تالية. لكن برغم كل ذلك فيعتبر اتفاقاً غير مسبوق في ظل عدة معطيات تاريخية، فلم يسبق لمنتجي النفط أن اتفقوا على خفضٍ للإنتاج بهذه الكمية؛ فحتى إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008، التي شهدت أكبر تخفيض جماعي للإنتاج في تاريخ منظمة «أوبك»، قلصت المنظمة إنتاجها حينذاك بمقدار 4.2 مليون برميل يومياً فقط، وبنسبة تقل عن نصف الخفض الأخير المتفق عليه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أكبر اقتطاع في حجم الإنتاج النفطي العالمي، قبل اتفاق أوبك+ الأخير، كان ناتج عن حروب، كما أنه كان محدوداً مقارنة بالخفض الحالي. فلدى اندلاع الحرب بين العراق وإيران عام 1980، هبط إنتاج البلدين معاً بنحو 5.5 مليون برميل يومياً. كما اقتطعت حرب الكويت عام 1990 كمية مماثلة من إنتاج الكويت والعراق معاً.
الأمر الثاني المهم المتعلق باستثنائية الاتفاق الأخير هو مدته البالغة عامان، حيث يبدأ الخفض في مايو 2020 وينتهي في أبريل 2022، حيث يتم خفض الإنتاج بـ9.7 مليون برميل يومياً خلال مايو ويونيو المقبلين، وأن يتم تقليص الخفض إلى 8 ملايين برميل يومياً في يوليو 2020، ولمدة 6 أشهر؛ ليتم تقليصه مجدداً إلى 6 ملايين برميل يومياً في الفترة يناير 2021-أبريل 2022. وهذه المدة الطويلة يتوقع أن يكون لها دور مهم في زيادة فاعلية الاتفاق في جلب التوازن إلى السوق، لاسيما إذا انتهت أزمة كورونا.
صعوبات على الطريق
هناك العديد من الأسئلة التي تتعلق بمستقبل اتفاق خفض الإنتاج الجديد، ويأتي في مستهل هذه الأسئلة وعلى رأسها، السؤال المتعلق بإمكانية اتمام الاتفاق، ومن ثم المضي قدماً في تنفيذه. برغم أهمية اتفاق «أوبك+» الجديد، فإن هناك قيود تحد من إمكانية تنفيذه. فقد تضمن الاتفاق بنداً ينص على «دعوة منتجي النفط الكبار الآخرين، خارج التحالف، للمشاركة في الجهود الرامية إلى تحقيق الاستقرار في الأسواق».
وبرغم أن الاتفاق المبدئي لم ينص صراحة على هوية المنتجين الآخرين، وكذلك حجم الخفض المطلوب منهم، لكن يمكن القول إن الولايات المتحدة والمكسيك وكندا والبرازيل هي الدول المنتجة الأخرى، باعتبارها أكبر منتجة للنفط خارج التحالف. وبرغم ذلك، فلا يبدو انضمام تلك الدول لجهود استقرار أسواق النفط ستكون سهلة، فالدول الأربع دُعِيَت لاجتماع «أوبك+» الذي انعقد الخميس الماضي، لكن لم تحضر منهم سوى المكسيك.
وبرغم الحضور، فقد كانت موقف المكسيك متشدداً فيما يتعلق بكمية الخفض المطلوبة منها. فبينما طلب منها التحالف تخفيض إنتاجها اليومي بمقدار 300 ألف برميل، فقد أعلنت منذ البداية أنها ستخفض إنتاجها 100 ألف برميل فقط.
وتسبب الموقف المكسيكي في نشوب خلاف بين وزراء الطاقة لمجموعة العشرين في اجتماعهم يوم الجمعة 10 أبريل ، حيث رفضت السعودية ودول أخرى موقف المكسيك، لاسيما وأن موافقة المكسيك وضعت كشرط من شروط اتمام اتفاق أوبك+. وقد كان ذلك سبباً في عدم توصل اجتماع الوزراء لأي اتفاق بشأن التخفيضات، وأشار بيانهم الختامي بدلاً من ذلك إلى «التزام باتخاذ الإجراءات الضرورية والفورية لضمان استقرار سوق الطاقة».
وكان الموقف المكسيكي هو السبب الرئيسي لعقد دول التحالف لاجتماع آخر للتفاوض، يوم 12 أبريل، وبرغم الضغوط التي مورست عليها، لكنها ظلت على موقفها، ما اضطر دول التحالف إلى التصويت على استثناء المكسيك من شرط الالتزام بالخفض الكلي، وتقليص كمية الخفض المطلوبة منها إلى 100 ألف برميل، ومن ثم تقليص الخفض الكلي لدول التحالف إلى 9.7 مليون برميل بدلاً من 10 ملايين برميل. ومن أجل الخروج بنتيجة إيجابية، وافقت دول التحالف على ذلك، كحل وسط، وتفادياً لإدخال أسواق النفط في نفق مظلم في حال فشل الاتفاق.
وقد تضمن البيان الختام لاتفاق «أوبك+، أنها تريد من منتجين خارج المجموعة، مثل الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والنرويج، خفضاً قدره 5 مليون برميل يومياً، أو نحو 5% من الإنتاج العالمي .
لكن لا يبدو أن الدول الأربع، من خارج التحالف، والمدعوة للخفض، ستكون راغبة في القيام بالخفض المطلوب منها. ففي هذا الإطار، أعلنت الولايات المتحدة أن إنتاجها النفطي تراجع بالفعل وسيتراجع بسبب انخفاض الأسعار، وأنها على استعداد لخفض إنتاجها بمقدار 250 ألف برميل يومياً إضافية، لمساعدة المكسيك على المشاركة في الاتفاق. وبينما يبلغ إنتاج الولايات المتحدة للنفط 12.4 مليون برميل يومياً، فإن كمية الخفض المزمعة من قبلها لا تتجاوز 2% من إنتاجها، ما يقلل من فاعلية مشاركتها وأهميتها أيضاً بالنسبة لأسواق النفط.
وبالنسبة لكندا فإنها على ما يبدو غير راغبة في المشاركة في الخفض الجديد، فقد أعلنت حكومة مقاطعة ألبرتا، منتج الرئيسي للنفط بكندا، إن إنتاجها انخفض بالفعل بسبب تراجع الأسعار؛ وذكرت أيضاً «إن أوبك لم تطلب منها المزيد». وبالرجوع لحجم الانخفاض الذي حدث بالفعل في إنتاجها بسبب الأسعار توضح بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، الإنتاج الكندي تراجع نحو 100 ألف برميل يومياً، وإذا اقتصر الأمر على ذلك، فلن يكون الأمر جيداً بالنسبة لسوق النفط، لاسيما أن الخفض اللازم القيام به من جانب كندا هو 450 ألف برميل يومياً، انطلاقاً من إنتاجها الحالي البالغ 4.5 مليون برميل يومياً.
وتنطبق نفس القاعدة على البرازيل، أحد أكبر منتجي النفط خارج أوبك+، فبينما هي تنتج 3.2 مليون برميل يومياً، لكنها لم تبد موقفاً واضحاً من الاتفاق؛ باعتبار أن إنتاجها تراجع بسبب انخفاض الأسعار. وفي هذا الإطار تشير تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، إلى أن إنتاج النفط البرازيلي تراجع بنحو 100 ألف برميل يومياً عام 2020.
لكن، إذا اقتصرت الجهود البرازيلية على ذلك فهي لن تكون كافية، كما أنها لن ترض تحالف أوبك+، لاسيما أن الكمية المقتطعة من الإنتاج البرازيلي –بسبب تراجع الأسعار- أقل كثيراً من الخفض اللازم القيام به، والمقدر بنحو 320 ألف برميل.
وبرغم أن النرويج قبلت المشاركة في تلك الجهود، لكنها لم توضح حجم الخفض المزمع. ومع الأخذ في الاعتبار أن إنتاجها يبلغ 1.9 مليون برميل يومياً، فالخفض الواجب عليها القيام به هو 190 ألف برميل، لكن من المستبعد قيامها بذلك، بالاسترشاد بمواقف الدول الأخرى، كالولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
كفاية الخفض المنتظر
هناك سؤال آخر محوري في هذه المرحلة، يتعلق بمدى كفاية الخفض المتفق عليه لمعالجة الخلل الذي تعانيه السوق. وبرغم صعوبة الإجابة على هذا السؤال، في ظل الضبابية التي تحيط بالمشهد العام، سواءً في أسواق النفط أو في الاقتصاد العالمي، لكن هناك معطيات يمكن الاسترشاد من خلالها على طريق الإجابة.
لكن قبل التطرق إلى ذلك، من الضرورة الإشارة إلى أن هناك بعض المصادر من داخل تحالف «أوبك+»، تتوقع وصول تخفيضات إنتاج النفط الفعلية إلى نحو 20 مليون برميل يومياً، عند احتساب التخفيض المتفق عليه 9.7 مليون برميل، ومساهمات غير الأعضاء 5 ملايين برميل، إضافة إلى ما أسموه «تخفيضات طوعية أعمق من بعض أعضاء التحالف ومشتريات للمخزونات الاستراتيجية»، ما يعني أنهم يتوقعون وصول هذين البندين الأخيرين إلى 5 ملايين برميل يومياً.
لكن في الحقيقة لا يبدو الوصول إلى هذا الحجم الكبير من التخفيضات سيكون أمراً سهلاً، بل إن هناك صعوبة كبيرة في الوصول إلى الحد الأقصى لخفض الإنتاج، البالغ نحو 14.7 مليون برميل يومياً، بواقع 9.7 مليون برميل من قبل دول التحالف، و5 مليون برميل من المنتجين الآخرين، في ظل مواقف هؤلاء المنتجين الآخرين، والتي سبق توضيحها بإسهاب.
وفيما يتعلق بالخفض الطوعي لدول تحالف «أوبك+» فإن هذا الخفض ستكون نقطة الأساس الخاصة به هي مستويات إنتاجهم في منذ بداية شهر أبريل الجاري، أي بعد أن توسعت معظم دول التحالف في إنتاجها بعد انتهاء أمد اتفاق الخفض السابق بينهم بنهاية شهر مارس. بجانب ذلك، فهناك محاذير كثيرة سيتم توضيحها فيما يلي بشأن قدرة المستهلكين على الاستمرار في شراء النفط بغرض التخزين.
ثاني المعطيات هو حجم الخفض مقارنة بحجم الفائض في السوق، فبافتراض حدوث الخفض البالغ 14.7 مليون برميل يومياً، فيظل أمر كفايته لتحقيق توازن السوق محلاً للشك في ظل الوضع الاقتصادي العالمي غير المطمئن جراء فيروس كورونا، الذي سبب تراجعاً شديداً في الطلب على النفط. فبعد أن تراجع الطلب كان محدوداً في الربع الأول من العام الجاري، ولم يتجاوز 2.5 مليون برميل يومياً وفق الوكالة الدولية للطاقة؛ لكن اتساع نطاق إغلاق الأنشطة الاقتصادية حول العالم، ووضع نحو 40% من سكان العالم تحت «العزل المنزلي»، منذ منتصف شهر مارس الماضي، أدى إلى زيادة تراجع الطلب؛ وقد توقعت الوكالة ارتفاع هذا التراجع إلى 20 مليون برميل يومياً خلال الربع الثاني من العام .
من خلال ذلك، يتضح أن خفض الإنتاج المقترح، قد لا يكون كافياً لإزالة آثار التراجع الحادث في الطلب، بل سيستمر منتجو النفط في ضخ نحو 5 مليون برميل يومياً زائدة عن حاجة السوق كل يوم، وهذه الكمية الزائدة ستبقي ضاغطة وبشكل متزايد على أسعار النفط. كما أن تقبل الأسواق لهذا الفائض لن يستمر طويلاً، مع استنفاد الدول للطاقة القصوى لخزاناتها النفطية، لاسيما بعد التراكم المستمر لتلك المخزونات على مدار الشهور الماضية، فقد بلغت المخزونات النفطية العالمية 2,918 مليون برميل بنهاية عام 2019. وواصلت المخزونات الزيادة في يناير لتبلغ 2,930 مليون برميل بنهاية شهر يناير، بزيادة 12 مليون برميل في ذلك الشهر. كما أن المخزونات النفطية العائمة على متن الناقلات النفطية في البحار ، بلغت 80.2 مليون برميل في فبراير، وهي تشهد زيادة شهرية بمعدل 1.9 مليون برميل. لكن برغم كل ذلك، وفي ظل التطورات المتسارعة حول العالم، وفي مختلف القضايا، ولاسيما الاقتصادية منها، فليس من الممكن الجزم بعدم حدوث انفراجة بشكل أو بآخر، سواءً تعلق الأمر بعلاقة منتجي النفط ببعضهم بعضاً، أو بحدوث نهاية سريعة وغير متوقعة لأزمة كورونا، ومن ثم عودة الأنشطة الاقتصادية والطلب العالمي على النفط إلى النمو والازدهار من جديد، بما يخرج الأسواق من هذه المعضلة بأسرع مما هو متوقع.
علي أبوالخير )باحث في شؤون الاقتصاد الدولي(