Analyses1 581 A

الاستعداد الحربي لجيوش الناتو

يعد أساس وجوهر منظمة حلف شمال الأطلسي، العمل كتحالف أمني جماعي بهدف توفير الدفاع الجماعي المتبادلبين الدول الأعضاء عبر الوسائل العسكرية والسياسية في حال تعرضأي بلد عضو في الحلف لأي تهديد خارجي. إن «الناتو» الذي يعرف باسم حلف الشمال الأطلسي، هو تحالف عسكري حكومي تكوَّنَ على أساس معاهدة شمال الأطلسي التي تم التوقيع عليها في 4 أبريل عام 1949. حيث وافقت الدول الأعضاء على مبادلة الدفاع رداً على هجوم أي طرف خارجي.

لقد أصبح سبب وجود «الناتو» بعد تفكك الاتحاد السوفييتي من أكثر الموضوعات تناولاً على جدول أعمال الأمن الدولي، وسبب هذا هو أن تأسيس الاتحاد كان من أجل منع سيطرة الاتحاد السوفييتي على قارة أوروبا التي دُمّرت في الحرب العالمية الثانية. أما العوامل الأخرى التي وَضعت حجر الأساس لتأسيس الـ«ناتو»، فهي القضاء طويل الأمد على النزعة العسكرية الألمانية التي سببت الحربين العالميتين ووضع الولايات المتحدة التي تعتبر مزودة للأمن، أمام التزامات التحالف. بعبارة أخرى، كان الهدف إبقاء الألمان في الأسفل والأمريكيين في الداخل والروس في الخارج. وقد تحققت كل هذه الأهداف وظهرت بيئة أمنية دولية مختلفة تماماً في يومنا هذا، ويبدو أن هناك ثلاث مسائل رئيسية يجب على الـ«الناتو» حلها في الفترة المقبلة، وهي عودة التحالف إلى مبدأ الدفاع المشترك وهو الوظيفة الأساسية له، وتخلي الولايات المتحدة عن استخدام الناتو كوسيلة لاستراتيجية الهيمنة الليبرالية وإدخالها فكرة الاستقلال الاستراتيجي في حيز التنفيذ على محور الناتو بالإضافة إلى وفائها بالالتزامات الدفاعية للاتحاد الأوروبي. ويشكل استعراض القوة الذي تجريه روسيا حالياً في الأراضي الأوكرانية وحدودها تحدياً واضحاً لردع الـ«الناتو» ، حيث يقف التحالف مكتوف الأيدي حيال الاحتلال الروسي بالرغم من التزاماته، وهو بالطبع ما يدفع إلى التشكيك في فعالية التحالف ومستقبله.

Secretary of State Dean Acheson signs the Atlantic defense treaty for the United States, April 4, 1949 in Washington. Vice President Alben W. Barkley, left, and President Harry Truman converse during the signing. (AP Photo)

هيمنة الاستراتيجية الأمريكية بالاستخدام السياسي للناتو
في بحثها عن استراتيجية كبرى جديدة، صاغت أمريكا التي ظلت القوة العظمى الوحيدة في النظام الدولي بعد الحرب الباردة، تصورها للحفاظ على السلامة والاستقرار الدوليين، في إطار انتشار الليبرالية والديمقراطية، وطورت سياساتها الخاصة وفقاً لذلك، كما اعتبرت أيضاً الناتو أداة لتنفيذ هذه السياسات.
وقد بدأ تطبيق استراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية لنشر الليبرالية في أوروبا وروسيا، خاصة في فترتي رئاسة بيل كلينتون (2001-1993) وفي عهد الرئيس جورج بوش (2009-2001) بتوسع أكبر إلى الدول خارج أوروبا مثل أفغانستان والعراق، وتحول الناتو إلى إحدى الوسائل الرئيسية في هذا المنهج الاستراتيجي بسبب سيطرة الولايات المتحدة على مستوى عالٍ على التحالف، بينما كان يحاول الاتحاد الأوروبي بالفعل تطبيق الأجندة الليبرالية المعنية.
وعلى هذا النحو، تغيرت المفاهيم الاستراتيجية للناتو تغيراً كبيراً بالمقارنة مع حقبة الحرب الباردة، وقد ضمّت إدارة الأزمات والأمن التعاوني إلى مبدأ الدفاع المشترك. فقد ألحق توسيع مفهوم الدفاع والأمن بهذا الشكل الضرر بعنصر إدراك التهديد المشترك، وتسبب في صراعات المصالح بين الدول الأعضاء. حتى أن الكثير من الدول الأعضاء للتحالف امتنعت عن الاشتراك في مهمات الناتو الجديدة، فتمت محاولة التعويض عن هذا الأمر بمبادرات أحادية الجانب من الولايات المتحدة.
وقد أدى هذا الوضع إلى مشكلات كبيرة بين الدول الأعضاء في الناتو، كما يُرى، خاصة في العلاقات بين تركيا وأمريكا في القضية السورية.

الاستقلال الاستراتيجي للناتو
إن نجاح التحالفات الدفاعية يعتمد قبل كل شيء على إدراك التهديد المشترك، فإن العامل الرئيسي الذي يجب أن يأخذ الوضع الحالي ومنظور المستقبل بعين الاعتبار هو طريقة إدراك التحالف للبيئة الأمنية الدولية بأكملها. وبهذا المعنى، فقد أدى ظهور فجوة بين وظيفة الناتو الأصلية والدور المنوط به منذ نهاية الحرب الباردة، واتساع هذه الفجوة، إلى بروز التزامات غير مهمة وتضييق نطاق عمله.
وقد تسبب فقدان مبدأ الدفاع المشترك أهميته وحلول خطاب ليبرالي محله في ضرر بالبعد العسكري للتحالف، وجعله مادة لمناقشات سياسية سطحية في العملية المذكورة.
وفي تلك العملية، عرف الناتو البيئة الأمنية على نطاق واسع للغاية، مغيراً إدراكه السابق للأمن، بشكل قطعي، وأطلق في الوقت ذاته سياسة التوسع. وقد جعل توسيع نطاق مفهوم الأمن الوظيفة الرئيسية للتحالف غامضة، بينما جعلت الاختلافات القومية تحقيق أهداف جديدة وشاملة صعباً. وبهذا المعنى، فإن المناهج المختلفة للدول الأعضاء المتعلقة بالبيئة الأمنية أسفرت عن تحييد دور التحالف في مكافحة الإرهاب وفي أهداف تشغيلية التي أصبحت غامضة مثل إدارة الأزمات. وفي هذا السياق أصبحت بيئات الصراع في البوسنة وكوسوفو وأفغانستان وليبيا سبباً لازدياد الضغوطات على التحالف من خلال كونها ساحة اختبار مستمرة للناتو، وازدادت تكلفة توفير عناصر مثل المصداقية والسمعة والدفاع والردع.
بطريقة مماثلة، تأسس مسار التوسع شرقاً على افتراضات ليبرالية تتجاهل المنفعة العسكرية/تحليل التكلفة، بالتوازي مع حلول عناصر مثل القيم الليبرالية والديمقراطية محل المهام العسكرية تدريجياً.
وفي هذا السياق، فقد لوحظ أن دولاً مثل إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، التي تم قبولها في التحالف قبل 10 سنوات من سياسات روسيا التعديلية التي ظهرت في العام 2014، لم يكن هناك تصور كامل للطريقة التي سيجري بها الدفاع عنها عند أي تهديد روسي محتمل في تلك الفترة، وقد تناولت مراكز الأبحاث الرائدة مثل RAND وIISS المشكلة المعنية في دراساتها للمحاكاة فقط بعد ضم روسيا غير القانوني لشبه جزيرة القرم. وبصورة مماثلة، رفع بيان الناتو بأن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوتين في التحالف من سقف التوقعات في تلك الدول، وأثار التهديد المتصور لروسيا.


إن عدم قبول عضوية أوكرانيا وجورجيا في التحالف منذ العام 2008 بسبب الاضطهادات الروسية، وإن طُرحت مشاكل الديمقراطية والفساد، يطرح السؤال التالي: ماذا كان سيحدث لو كان ثمة تهديد روسي لدول البلطيق في العام 2004، ألم تكن هذه الدول لتنضم إلى التحالف؟
والإجابة عن هذا السؤال على الأرجح: نعم. أما النتيجة التي يمكن استنتاجها من هنا، فإن توسع الناتو لم يتم حسب التصور المشترك للتهديد، بل على العكس من ذلك، فإن وجود تهديد يمنع التوسع.
لذلك، على عكس بعض التوقعات القائلة إن انتشار الليبرالية والديمقراطية سيسهم في تهدئة سلوكيات السياسة الخارجية، ظهرت معضلة أمنية بسبب تصور التهديد لروسيا، فضلاً عن ظهور نقاط الضعف في الدفاع بسبب توسع الناتو. وقد اتضح ثمن هذا الإهمال أولاً في العام 2008 في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ثم في العام 2014 في شبه جزيرة القرم. وحالياً يستمر باعتراف روسيا باستقلال المناطق الانفصالية في دونيتسك ولوهانسك وهجماتها داخل أوكرانيا بما فيها العاصمة كييف.
وفي النهاية، فإن احتمال شن الناتو الحرب على روسيا التي تظهر إرادة الحرب بوضوح ليس مطروحاً في الوقت الراهن، والوضع الحالي يشير إلى الفجوة بين خطاب الناتو وسياساته بعد الحرب الباردة وإرادته في العمل. وهو ما يؤكد حاجة حلف الناتو الضرورية للعودة لوظيفته الرئيسية.

وعود الناتو والوضع القائم
إن لفكرة الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي جذوراً ممتدة في الماضي، وهي تعتمد على شكوك في إمكانية عدم وفاء الولايات المتحدة بالالتزامات الأمنية. وهذه الفكرة التي تدافع فرنسا خاصة عنها بإصرار، تصف استطاعة أوروبا العمل باستقلال في العديد من المتطلبات العسكرية، لا سيما التخطيط والتوريد الدفاعي. في الواقع، بالنظر إلى الإمكانات الاقتصادية والبنية التحتية التكنولوجية والقوى العاملة للاتحاد الأوروبي، يمكن القول إنه يستطيع تحقيق القدرة على الاستقلال الاستراتيجي وموازنة روسيا وردعها، فالإمكانات المادية لروسيا بعيدة كل البعد عن فترة الاتحاد السوفييتي، وأوروبا متقدمة بفارق كبير عما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية.
ولكن الخبرة المكتسبة حتى الآن تشير إلى عكس هذا الوضع، فعلى الرغم من أن تشكيل الاتحاد الأوروبي سياسة الدفاع المشترك والأمن يمكن اعتباره ضمن نطاق الاستقلال الاستراتيجي، فإنه لم يتمكن من ااتخاذ أي إجراء للتدخل في مناطق الصراع فكان التدخل على الناتو. بصورة مماثلة، لقد كانت المهام التي يطلب إنجازها مثل الحفاظ على السلامة ومنع الأزمات في الاتحاد الأوروبي محدودة وتم المساعدة غالباً على الوظائف التي يقودها الناتو.
من ناحية أخرى، أسفر إخفاق منصات الأسلحة الفرنسية في احتلال مكان المنتجات الأمريكية بالرغم من حملات المبيعات الحازمة، عن حفاظ الأسلحة الأمريكية على أهميتها في جيوش الدول الأعضاء. وبدلاً من هذا، فُضّلت الطائرات الفرنسية مثل طائرات رافال من قبل بعض الدول غير الأوروبية التي لا تستطيع شراء المنتجات الأمريكية أو الروسية بسبب العقوبات الأمريكية غالباً أو الخوف من العقوبات.
ضياع الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي
إن المانع الأساسي أمام وصول الاتحاد الأوروبي إلى الاستقلال الاستراتيجي وردع روسيا في نفس الوقت عن السلوكيات العدوانية هو عدم رفع مقدار النفقات الدفاعية للدول الأعضاء إلى مستوى كاف. فرغم أن هناك ازدياد في السنوات الأخيرة مع الاضطهادات الأمريكية الكثيفة، فإن دول الاتحاد تصرف حالياً حوالي 1.5% من ناتجها المحلي الإجمالي من أجل الدفاع. وقد أدى هذا الأمر إلى أن تكون مستويات الاستعداد الحربي لجيوش الدول الأعضاء منخفضة، وتخلفها في الدراسات التكنولوجية العسكرية. لذا، فإن الاتحاد الأوروبي لم يستطع الوصول وحده إلى منزلة العامل المؤثر والرادع، بل استمر اعتماده على القيادة الأمريكية.
وفي هذا السياق، من المهم جداً أن يتم قبول دول أوروبا الشرقية ودول البلطيق مثل جمهورية التشيك والمجر ولاتفيا وإستونيا في الاتحاد الأوروبي بعد عضويتها في الناتو.
وهناك سؤال محير ومهم ولا يمكن الإجابة عنه وهو: هل كانت روسيا ستقوم بالتدخل عسكرياً في جورجيا وأوكرانيا إذا لم يتبن الناتو سياسة توسعية؟ لأنه على الرغم من وعد أوكرانيا بعضوية الناتو في العام 2008، فمن غير المعروف بالضبط سبب انتظار روسيا حتى العام 2014 ثم حتى العام 2022. ولكن كما ذكرنا من قبل، فإن الواقع الحالي الآن يظهر فجوة بين وعود الناتو والوضع القائم بالفعل، ويضر التحالف.

الخاتمة
مكن القول إن الناتو على الرغم من كونه أنجح منظمة دفاعية في التاريخ، سيكون استمراره على هذا الوضع وبقاؤه عاملاً عسكرياً رادعاً وثيق الصلة بحل المشاكل المذكورة أعلاه. وبهذا المعنى فالأمر يكاد يكون أقرب إلى المستحيل.
كما أن رجوع الناتو إلى تعريف أضيق للأمن حول مبدأ الدفاع المشترك وتخلي استراتيجية أمريكا الكبرى عن استخدام الناتو كوسيلة سياسية، ووصول أوروبا إلى الاستقلال الاستراتيجي، سيفيد في حل المشكلات بشكل فعال.
ولا يعني تحقيق هذه الأمور تشويه وجود الناتو بوصفه منظمة دفاعية، فإن المجالات العسكرية الجديدة للتعاون بين الدول الأعضاء وإمكانية تعميق التعاون الحالي عالية. ويمكن منها حساب عدد من العوامل مثل مكافحة الهجمات الإلكترونية، وزيادة مستويات الاستعداد للحرب، ومشاريع الدفاع المشتركة التي سيتم طرحها في إطار مبدأ التشغيل البيني، وتحسين المرونة الاجتماعية من خلال التعاون التكنولوجي.

 

» الفريق أول أركان حرب (م) الدكتور أمير عثمان (خبير أمني واستراتيجي)

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض