تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة هذه الأيام بيوبيلها الذهبي وذكرى مرور خمسة عقود على قيام اتحادها المبارك في الثاني من ديسمبر عام 1971، وهي لحظة فارقة في تاريخها، تريد قيادتها السياسية الحكيمة أن تكون بمثابة التأسيس الثاني للدولة، ونقطة انطلاقها نحو المستقبل المشرق الذي تخطط له وتحقيق هدفها الطموح بأن تكون الدولة رقم واحد في جميع المؤشرات التنموية والحضارية على مستوى العالم.
ضمن هذا السياق، ستعرض هذه الورقة باختصار شديد لأبرز ملامح مسيرة الإنجازات الإماراتية خلال نصف القرن الماضي، وآفاق الخمسين عاماً المقبلة في ضوء المبادئ العشرة التي حددتها «وثيقة الخمسين»، والتي ستكون بمثابة المرجع الأساسي لكافة مؤسسات الدولة في وضع خططها المستقبلية لتحقيق الأهداف الرئيسية لهذه الوثيقة والمتمثلة في تعزيز أركان الاتحاد وبناء اقتصاد مستدام وتسخير جميع الموارد لمجتمع أكثر ازدهاراً وتطوير علاقات إقليمية ودولية لتحقيق مصالح الدولة العليا ودعم أسس السلام والاستقرار في العالم، كما أشار إلى ذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في إحدى تغريداته.
أولاً: إمارات الخمسين..
قصة نجاح ملهمة
تمثل دولة الإمارات وتجربتها التنموية الرائدة قصة نجاح ملهمة في العديد من المجالات التي يصعب حصرها هنا، وربما تحتاج لمجلدات لرصد تفاصيلها، لكنها في تفاصيلها رسخت من مكانة الإمارات بوصفها «دولة نموذج» ومصدر إلهام لكثير من الدول والشعوب، بعد أن تمكنت خلال عقود قليلة أن تحقق معجزة تنموية تعتبر فريدة من نوعها في حياة الأمم، وأن تعزز من صورتها الإيجابية في العالم كله بوصفها وطناً للخير والتسامح والإنسانية والسلام.
ملامح هذه «الدولة النموذج» تتعدد بتعدد مجالات التطور الإنساني، فعلى المستوى السياسي، تقف تجربة اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة باعتبارها نموذجاً مهماً لكيفية تحقيق الوحدة والاندماج السياسي على المستويين العربي والإقليمي، فهذا الاتحاد الذي أرسى دعائمه المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه من القادة المؤسسين، والذي بني قبل خمسين عاماً على الإرادة الطوعية والرغبة في العمل الموحد بين جميع إمارات الدولة، استطاع أن يقاوم كل الهزات التي شهدتها المنطقة وأن يرسخ وجوده ومكانته بوصفه أنجح تجربة وحدوية في منطقة الشرق الأوسط وربما العالم كله.
كما نجحت الإمارات خلال نصف القرن الماضي في أن تبني نموذجاً فريداً خاصاً بها في التماسك المجتمعي والتلاحم الوطني قلما تجد له نظيراً في أي مكان في العالم، وهذا النموذج يلاحظه بسهوله أي شخص تطأ قدمه أرض الإمارات، فهناك شعب يدين بالولاء لقيادته ويلتف حولها ولا يترك فرصة إلا ويستغلها للتعبير عن انتمائه لوطنه وحبه لقيادته. في المقابل هناك قيادة حكيمة، تضع مصلحة المواطنين ورفاهيتهم وسعادتهم في قمة أولوياتها وتعتبرها بوصلتها التي تتحرك من أجلها، ليخلق هذا الانسجام الفريد بين القيادة والمواطنين، والذي عبر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان بمقولته المأثورة «البيت متوحد».
الإدارة الحكومية: تقدم دولة الإمارات نموذجاً رائداً في الإدارة الحكومية الرشيدة والناجحة، وهو نموذج لا يكتفي بالأداء المبني على الكفاءة وتوفير الوقت والجهد وغياب البيروقراطية والروتين عبر سلسلة متصلة لا تتوقف من المبادرات المبتكرة التي تستهدف مواكبة التطورات العالمية وتحقيق الريادة الإماراتية، بل يحرص أيضاً على إدخال أحدث النظم الإدارية والتكنولوجية في المؤسسات الحكومية ومنظومة الخدمات العامة، بشكل جعل كثيراً من دول العالم تطلب من الإمارات الدعم والمساعدة في تحديث أجهزتها الحكومية، وجعل الإمارات تتبوأ المركز الثاني عالمياً في محور «الكفاءة الحكومية» ضمن تقرير التنافسية، تقرير «الكتاب السنوي للتنافسية العالمية» لعام 2019. ويرتبط بذلك، ثقافة الابتكار والتطوير الدائم التي رسختها القيادة الإماراتية الرشـيدة، والتي جعلت من الإمارات أرض الفرص لكل الباحثين عن التميز والريادة، والوجهة المفضلة لجذب المواهب الإبداعية وراود الأعمال في المنطقة والعالم كله، والنموذج الذي يحاول الكثيرون استلهامه والاقتداء به.
السياسة الخارجية: أرست دولة الإمارات خلال الخمسين عاماً الماضية مدرسة دبلوماسية متفردة خاصة بها ترتكز إلى أسس ثابته تقوم على دعم قضايا الحق والعدل والسلام والتنمية في كل ربوع العالم. وقد نجحت هذه المدرسة في أن تجعل من دولة الإمارات الصديق الوفي لجميع الدول والشعوب، وأن تعزز من مكانة الإمارات وصورتها الإيجابية في العالم كله من خلال بناء جسور الصداقة والتعاون مع دول العالم المختلفة، ومد يد العون والمساعدة لكل ملهوف في أي بقعة من بقاع الأرض، والتحرك الجاد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة والعالم عبر جهود الوساطة ومحاولة احتواء الأزمات والمشاركة الفاعلة في قوات حفظ السلام الدولية وتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية لدول الصراعات، إلى جانب الدور المهم للدولة في مجال مكافحة جرائم الكراهية والعنف والإرهاب، ونشر قيم التسامح والتعايش والإخوة الإنسانية والذي تنامي بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة.
وهذه السياسة الخارجية الفاعلة والمتوازنة التي انتهجتها الدولة جعلت القبول الدولي بها لا يضاهيه أي دولة أخرى، وسهَّل مهمة الدولة في كسب معاركها الدبلوماسية والتنموية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر فوز دولة الإمارات في يونيو 2009 باستضافة مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «إرينا»، وفوزها باستضافة معرض «إكسبو 2020» الدولي في دبي، بعد منافسة دولية قوية حُسمت لمصلحة الإمارات، وفوزها بعضوية مجلس الأمن الدولي مرتين، وأخيراً فوزها بحق استضافة مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ «كوب 28» (COP28) في عام 2023. كما تجسد هذا القبول الدولي الواسع في تصدّر الدولة للمؤشـرات الدولية المعنية بقياس القوة الناعمة للدول على المستويين الإقليمي والدولي، حيث حلّت دولة الإمارات في المركز الأول عربياً والـ17 عالمياً في «مؤشـر القوة الناعمة» وفقاً لنتائج «التقرير العالمي لمؤشـر القوة الناعمة 2021»، كما حقق جواز السفر الإماراتي المرتبة الأولى عالمياً من حيث القوة بحسب مؤشـر Passport index في أكبر دليل على قبول العالم بالإمارات وأبنائها وسياساتها.
المستوى الاقتصادي والتنموي: نجحت دولة الإمارات خلال مسيرة نصف القرن الماضي في تقديم نموذج تنموي رائد إقليمياً وعالمياً، وهو نموذج يقوم على تحقيق الرفاه ويسعى إلى مواجهة التحديات التنموية باستراتيجيات تستعد للمستقبل. وقد أثبت هذا النموذج نجاعته للعالم كله، حيث حقق الاقتصاد الإماراتي قفزات نوعية في عقود قليلة، ونجحت الدولة في تحقيق مستوى عال من الرفاهية ومستوى المعيشة لمواطنيها كافة والمقيمين على أرضها، وتحولت إلى مركز إقليمي للتجارة والتمويل والاستثمار والسـياحة، بعد أن أصبحت ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم العربي، وأحد أهم القوى الاقتصادية الصاعدة في منطقة الشرق الأوسط والعالم.
ونجحت الدولة خلال العقود الخمسة الماضية في تطوير بيئة أعمال اقتصادية نشطة ومزدهرة وجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشـرة، حتى أصبحت من أنجح دول العالم في جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث تتبوأ المكانة الأولى عربياً كما تحتل مكانة متقدمة على مستوى العالم، وفقاً لتقرير صدر عن البنك الدولي، ومجلتي «فوربس»و«سـيوورلد» العالميتين في العام 2020، كما حلت في المرتبة الأولى إقليمياً والرابعة عالمياً في المؤشـر العالمي لريادة الأعمال 2020، بحسب التقرير الصادر عن المرصد العالمي لريادة الأعمال في فبراير 2021، متقدمة على العديد من الاقتصادات العالمية الكبرى.
وبرزت قوة النموذج التنموي الإماراتي في تصدر الدولة للعام الرابع على التوالي بلدان منطقة الشـرق الأوسط وشمال إفريقيا في تقرير الكتاب السنوي للتنافسـية العالمية 2020، الصادر عن مركز التنافسـية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية بمدينة لوزان السويسـرية، والذي صنف الدولة في المرتبة التاسعة عالمياً بين الدول الأكثر تنافسـية في العالم. وحافظت دولة الإمارات على مكانتها ضمن أفضل عشـر دول تنافسـية في العالم خلال العام 2020، متقدمة على دول مثل الولايات المتحدة، وايرلندا، وفنلندا، ولوكسمبورج، وألمانيا، والمملكة المتحدة، لتظل بذلك دولة الإمارات هي الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في حجز موقعها ضمن نادي العشـر الكبار في تقرير الكتاب السنوي للتنافسـية العالمية، وذلك لأربع سنوات متتالية، منذ انضمامها لقائمة العشـر الأوائل في العام 2017. ووفقاً لنتائج التقرير، تبوأت دولة الإمارات العربية المتحدة المرتبة الأولى عالمياً في 23 مؤشـراً ومحوراً فرعياً، فيما حلّت ضمن المراكز الخمس الأولى عالمياً في 59 مؤشـراً، وضمن المراكز العشـر الأولى عالمياً في 106 مؤشـرات، من إجمالي 338 مؤشـراً تناولها التقرير.
المستوى الثقافي والحضاري: نجحت دولة الإمارات في بناء نموذج متعايش مع الاختلافات الثقافية التي تمثل هاجساً مزمناً للعديد من دول المنطقة، حيث تعيش أكثر من 200 جنسـية في دولة الإمارات بانسجام وتناغم. وتقدمت خطوات للأمام بإطلاق وثيقة الأخوة الإنسانية في 2019، وهي الوثيقة التاريخية التي تبنت الأمم المتحدة يوم توقيعها في أبوظبي باعتباره يوماً دولياً للأخوة الإنسانية، فيما تعمل الدولة حالياً على بناء «بيت العائلة الإبراهيمية»، كمنصة فريدة تجمع قيادات الأديان الإبراهيمية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، لتكون منارة للتسامح والتعايش. ومن خلال منظومتها القيمية الرائدة، أصبحت الإمارات تمثل نموذجاً رائداً عالمياً في نشر قيم التسامح والإخاء الإنساني والانفتاح البناء على الآخر وبناء الجسور مع كل الشعوب حتى غدت بمثابة عاصمة دولية للتسامح، وواحة للتعايش والسلام في المنطقة والعالم.
خلاصة الأمر أن حصيلة نصف قرن من عمر دولة الإمارات، أنتجت بفضل حكمة قيادتها الرشيدة، «دولة نموذج» أصبحت تشكل مصدراً للإلهام لجميع دول العالم وشعوبه.
ثانياً: وثيقة «مبادئ الخمسين» والانطلاق نحو المستقبل
دولة الإمارات العربية المتحدة باعتبارها دولة مستقبل تسعى دائماً لتحقيق الريادة والتميز إقليمياً وعالمياً لا تقنع قيادتها بما يتحقق من إنجازات رغم عظمها، فهذه القيادة تدرك أن العالم في حالة حركة دائمة من التنافس من أجل تحقيق التفوق والريادة وأن عدم الدخول في هذا السباق أو إبطاء الحركة فيه سيترتب عليه التخلف عن ركب التقدم البشري والحضاري، ولهذا تعمل باستمرار من أجل تحقيق خططها الطموحة للمستقبل، وعلى رأسها هدفها الأول بأن تكون الدولة رقم واحد بحلول العام 2071.
ضمن هذا السياق، أرادت القيادة الإماراتية بأن تكون احتفالات عام الخمسين بمثابة التأسيس لنقطة انطلاق كبرى جديدة نحو المستقبل الذي تنشده، فجاء الإعلان عن وثيقة «مبادئ الخمسين» التي وجه بها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة «حفظه الله»، واعتمدها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله» وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آلِ نهيان ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في سبتمبر الماضي لتكون بمثابة خارطة الطريق التي تحدد المسار الاستراتيجي الذي ستسلكه الدولة لتحقيق رؤيتها المستقبلية الطموحة بحلول العام 2071.
وتتضمن هذه الوثيقة عشرة مبادئ أساسية، تكشف بوضوح عمق الرؤية المستقبلية التي تتبناها القيادة الإماراتية وشمولها لمجالات التقدم البشري المستقبلية، والتي ترتكز على محاور أساسية، هي اقتصاد المعرفة، والاستثمار في الكوادر البشرية المحلية، بالتوازي مع استقطاب المبدعين، وترسيخ مكانة الإمارات كعاصمة للمواهب والشركات والاستثمارات في المجالات العلمية والتقنية والرقمية، فضلاً عن التركيز على التكنولوجيا وبناء بيئة تكنولوجية حاضنة للابتكار، والعمل على تعزيز السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي باعتبار أن الأمن والتنمية وجهان لعملة واحدة.
وبشكل عام يمكن تضمين هذه المبادئ العشرة في أربعة محاور أساسية ستعمل عليها دولة الإمارات من أجل تحقيق ريادتها المستقبلية، وهي كما يلي:
1 تقوية الاتحاد وترسيخ أركانه: كان تأسيس دولة الاتحاد عام 1971 هو الأساس الذي انطلقت منه قصة نجاح الإمارات، ونقطة الارتكاز التي بُنيت عليها جميع الإنجازات التي تحققت خلال العقود الخمسة الماضية، فعندما يكون «البيت متوحد» وتكون قيم التضامن والتناغم الداخلي بين القيادة والشعب راسخة وقوية، فهذا يعني تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز التلاحم المجتمعي الذي يمثل الشرط الأول لأي نهضة تنموية حاضرة أو مستقبلية. ومن هنا جاء المبدأ الأول ليؤكد أن الأولوية الرئيسية الكبرى ستبقى تقوية الاتحاد، كمؤسسات وتشريعات وصلاحيات وميزانيات، وتطوير مناطق الدولة كافة، عمرانياً وتنموياً واقتصادياً. ولا يتعلق الأمر بالمبدأ الأول، فباقي المبادئ العشرة تعكس جميعها روح الاتحاد وقيمه السامية، التي تقوم على التسامح والتعايش والخير والسلام والعطاء الإنساني والارتقاء بالقدرات البشرية المواطنة، التي شكلت ركائز أساسية في مسيرة دولة الإمارات التنموية خلال نصف القرن الماضي وستظل كذلك خلال الخمسين عاماً المقبلة.
2 ترسيخ وتعزيز التجربة التنموية الإماراتية: من خلال بناء الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم، ومواصلة الاستثمار في تطوير وتنمية رأس المال البشري، عبر تطوير التعليم، واستقطاب المواهب، والحفاظ على أصحاب التخصصات، والبناء المستمر للمهارات باعتباره الرهان للحفاظ على تفوق دولة الإمارات وريادتها، إلى جانب التركيز على بناء الاقتصاد المعرفي والاستثمار في التقنيات الحديثة التي تحقق التفوق الرقمي والتقني والعلمي لدولة الإمارات بما يجعلها العاصمة القادمة للعالم في هذه المجالات الحيوية التي ستعيد رسم ملامح المشهد التنموي والاقتصادي العالمي في المستقبل.
ويشغل تطوير الاقتصاد الحيز الأبرز من الاهتمام ضمن مبادئ الوثيقة، فالكثير من المبادئ العشرة تصب في خدمة تحقيق هدف بناء الاقتصاد الأفضل عالمياً، حتى أن الوثيقة اعتبرت أن الهدف الاساسي للسياسة الخارجية الإماراتية في المرحلة المقبلة سيكون هو خدمة الاقتصاد الذي يهدف بدوره إلى توفير أفضل حياة لشعب الاتحاد.
3 تعزيز الصورة الإيجابية البراقة لدولة الإمارات العربية المتحدة في الخارج: من خلال الحفاظ على وتعزيز منظومة القيم الراسخة في الدولة والقائمة على الانفتاح والتسامح وحفظ الحقوق وترسيخ دولة العدالة وحفظ الكرامة البشرية واحترام الثقافات وترسيخ الأخوّة الإنسانية واحترام الهوية الوطنية، وهي المنظومة التي جعلت اسم الإمارات يقترن دائماً بهذه القيم الإنسانية السامية في كل ربوع العالم، إلى جانب مواصلة وتعزيز الدور الإنساني للإمارات عالمياً من خلال دبلوماسية المساعدات الإنسانية والتنموية التي جعلت أيادي الإمارات البيضاء تصل لكل بقعة في الأرض بصرف النظر عن اعتبارات الدين والجنس والثقافة أو أي اعتبارات أخرى. وتعتبر الوثيقة بوضوح أن هذه المهمة هي مهمة وطنية تتحملها المؤسسات الإماراتية كافة، فالكل معني بالعمل على ترسيخ السمعة العالمية الإيجابية للإمارات وصورتها البراقة في العالم كله.
4 السياسة الخارجية للدولة وجهودها لتحقيق السلام والاستقرار العالميين: ولم تختلف المبادئ التي جاءت بها الوثيقة في هذا الصدد على الأسس التي قامت عليها السياسة الخارجية الإماراتية منذ بدايات التأسيس الأولى والتي أرسى دعائمها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث أكدت الوثيقة على مبدأ حسن الجوار كأساس للاستقرار، معتبرة أن المحيط الجغرافي والشعبي والثقافي الذي تعيش ضمنه الدولة يمثل خط الدفاع الأول عن أمنها وسلامتها ومستقبل التنمية فيها، وأن تطوير علاقات سياسية واقتصادية وشعبية مستقرة وإيجابية مع هذا المحيط يعتبر أحد أهم أولويات السياسة الخارجية للدولة، ويدخل ضمن هذا السياق الدور الإماراتي الرائد في منظومتي العمل الإقليمي الخليجي والعربي، والسعي الإماراتي لبناء علاقات طيبة وودية مع باقي دول الإقليم أساسها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وبوصفها دولة سلام، أكدت مبادئ الخمسين أن الدعوة للسلم والسلام والمفاوضات والحوار لحل كافة الخلافات هو الأساس في السياسة الخارجية لدولة الإمارات، وأن السعي مع الشركاء الإقليميين والأصدقاء العالميين لترسيخ السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي يعتبر محركاً أساسياً للسياسة الخارجية. كما شددت على أن الدولة ستبقى داعمةً عبر سياستها الخارجية لكل المبادرات والتعهدات والمنظمات العالمية الداعية للسلم والانفتاح والأخوّة الإنسانية.
وبشكل عام، يلاحظ على المبادئ العشرة التي تضمنتها الوثيقة بصفتها عامة، أمرين مهمين، الأول هو أن هذه المبادئ لا تنفصل عن المبادئ والثوابت والقيم الراسخة التي وضعها القادة المؤسسون الأوائل وعلى رأسهم المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، والتي سارت على هديها الدولة والقيادة الرشيدة خلال الخمسين عاماً الماضية، بل تبني عليها، وتعمل على ترسيخها بمنظور جديد يأخذ في الاعتبار التطورات التي سيشهدها العالم من حولنا في المستقبل. الأمر الثاني هو أن نشر هذه المبادئ يتيح المجال لكافة المؤسسات الوطنية المعنية من أجل استلهام مضامينها والعمل على تطبيقها ما يسرع من نجاح هذه المؤسسات في تحقيق الأهداف التي تنشدها مبادئ الخمسين.
الخاتمة
مع انطلاق احتفالات دولة الإمارات بعامها الخمسين، تضع الدولة أقدامها على بداية مسيرة جديدة من التميز والريادة والنهضة الشاملة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق هدف طموح بأن تكون الدولة الأفضل في العالم، وهو هدف ليس بالسهل في ظل المنافسة العالمية المستعرة، ومع ذلك فإنه لا يوجد هنا أدنى شك في قدرة الإمارات وقيادتها الرشيدة على تحقيق هذا الهدف الطموح بحلول مئوية الإمارات عام 2071، وربما قبل ذلك بكثير، فالدولة حالياً وبالفعل تتصدر العالم في عشرات المؤشرات التنموية، كما أنها تضع باستمرار الخطط والاستراتيجيات التي تساعدها على تحقيق أهدافها الطموحة في المستقبل وتعمل على متابعة تنفيذها. هذا الأمر لا يرتبط فقط بوثيقة مبادئ الخمسين، ولكنه فلسفة عامة تحكم عمل الدولة وقيادتها وكافة مؤسساتها منذ التأسيس وحتى اليوم. وهذا ما يمكن أن نلمسه بوضوح من خلال العشرات من الخطط والاستراتيجيات الطموحة التي وضعتها للمستقبل خلال العقدين الماضيين مثل: استراتيجية الحكومة الرقمية لدولة الإمارات 2025، واستراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي، واستراتيجية الإمارات للثورة الصناعية الرابعة، والاستراتيجية الوطنية لاستقطاب واستبقاء المواهب، والاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي 2051، والاستراتيجية الوطنية للفضاء 2030. وغيرها الكثير من الخطط المستقبلية التي تضعها الدولة لتحقيق هدفها في الريادة والتميز في المستقبل، والتي تدخل أيضاً ضمن حيز المبادئ العشرة لوثيقة الخمسين.
وما يعزز التفاؤل، هو أن الدولة قد بدأت بالفعل في وضع وتنفيذ المشروعات الطموحة التي تحقق تلك الرؤية، ومن ذلك على سبيل المثال الذي إعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا أو ما يعرف باسم «مشروع 300 مليار» كاستراتيجية حكومية هي الأشمل من نوعها، للنهوض بالقطاع الصناعي في الدولة وتوسيع حجمه ونطاقه، ليكون رافعة أساسية للاقتصاد الوطني. كما أطلقت الإمارات برنامجاً ناجحاً لارتياد الفضاء، وصلت به إلى محطة الفضاء الدولية وإلى كوكب المريخ، فيما أعلنت عن خطط طموحة لاستكشاف كوكب الزهرة في السنوات المقبلة، وأنجزت أيضاً عملية إنشاء وتشغيل أول مفاعل نووي عربي، وهو مفاعل براكة الذي جعل الإمارات أول دولة عربية تدخل عالم التكنولوجيا النووية، وغير ذلك الكثير من المشروعات والاستراتيجيات التي تؤكد أن الإمارات بدأت بالفعل تنفيذ رؤيتها للخمسين عاماً المقبلة.
لا خلاف على أن وثيقة «مبادئ الخمسين» بمبادئها العشرة ستمثل خريطة طريق واضحة المعالم نحو بناء المستقبل الأفضل لدولة الإمارات وشعبها خلال الخمسين عاماً المقبلة، وستسهم في ترسيخ قوة النموذج الإماراتي باعتباره أكثر النماذج إلهاماً للدول والشعوب في تحقيق التنمية والرخاء والازدهار والسلام.
» د. فتوح هيكل
مدير الأبحاث في تريندز للبحوث والاستشارات