الدكتور ممدوح مختار – )دكتوراه واستشاري الطب السلوكي(
انتاب العالم أجمع الهلع لاجتياح الفيروس الجديد “كوفيد 19” المعروف باسم كورونا. وبات الجميع يبحث عن حلول فاعلة تؤدي إلى الوقاية من هذا الفيروس أو مواجهته وعلاجه إن أمكن. وقد أربك هذا الفيروس الأنظمة الاقتصادية العالمية، بعدما تفشى في معظم بلدان العالم، ويعكف العلماء والأطباء والصيادلة على إيجاد الأمصال واللقاحات المستأصلة للمرض إن شاء الله.
وقد فكرت ملياً أن أيضاً شريحة علماء النفس وأطباءها، لا بد وأن يساعدوا المجتمع الطبي والمجتمعات عموماً في سبل الوقاية، ووجدت لتخصصي موضع قدم، أستطيع أن أقدم وزملائي المعونة والمساعدة الواجبة على كل متخصص في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا المعاصر.
يخطئ من يظن أن انتقال العدوى بالفيروسات بكل أشكالها وتصنيفاتها ينتقل من إنسان إلى آخر أو بأي وسيلة من وسائل الانتقال المعروفة لدى العامة، كما هي راسخة الوجود لدى الخاصة من الأطباء والعاملين في المجالات الصحية كافة. هذا الانتقال يقف فقط على الجانب المادي أو الطبيعي لأشكال انتقال العدوى، بل هناك علم حديث يدعى علم المناعة النفسية العصبية Psycho-neuro immunology ويرمز له اختصاراً (PNI). حيث نجد علوماً من قبل علم النفس، والأعصاب، والمناعة، والغدد الصماء، والوراثة، والفسيولوجيا الجزئية، والبيولوجية الجزئية – لتكون هذا العلم الحديث يهتم في المقام الأول بالوقاية، حيث إن أجهزة المناعة المختلفة تتأثر بالحالة النفسية العصبية السلوكية للإنسان، ومن ثم تتعدل وتتغير معدلات إفراز الغدد الصماء من الهورمونات المختلفة، الأمر الذي يلقب بدورة في صياغة اضطرابات الأجهزة المناعية إلى الحد الذي قد يشمل توقف عمل هذه الأجهزة أو لنقل التقليل من كفاءة عملها ومن ثم قد تُفتح الجسم على مصراعية للاصابات الفيروسية والعدوى.
وآلية عمل هذه الأجهزة الهامة تقع ضمن التوتر- الاسترخاء فكلما كان الانسان متوتراً يعاني من ضغوطات الحياة، فشل الجهاز المناعي في القيام بوظائفه التي هي في غاية البساطة، منع الفيروسات القاتلة التي يمكن أن يصاب بها الإنسان.
وعلى النقيض من ذلك، كلما كان الانسان أكثر استرخاء وإيجابية، كان أداء هذه الوظائف غاية في التنسيق، ومن ثم الوقوف في وجه كل عدو غدار يهاجم هذا الجسم أو آلية اكتساب العدوى. لا شك أن الإنسان الذي يحيا بمزيد من أمراض القلق والتوتر والغضب والمشاعر السلبية والحزن والاكتئاب، أكثر عرضة بثلاثة أضعاف ممن يحيا في نمط صحي سلوكي جيد دعائمه الصحة النفسية والسكون والاسترخاء والتفاؤل والنظرة الإيجابية للحياة وكل ما من شأنه رفع قيمة الذات مع المحافظة على الإيمانيات المطلقة والمعتقدات السائدة… أي أن كل ما يصيبنا هو مقدر من عند الله سبحانه وتعالى، أي التسليم بإرادة الله، مع الأخذ بالأسباب علاجاً ووقاية.
فعندما يفشل الفرد في التحكم في المصادر التي تسبب له إزعاجاً ضغوطاً سلبية ، فإن جسمه يمر بحالة تعرف بالمواجهة أو الهرب (Fight or Flight) وعلى إثر ذلك تزداد ضربات القلب، ويتحول الدم من الأطراف إلى العضلات الداخلية، وتتسع حدقة العين، ويُرى الأدرنالين والدهون في الدم، ويتحول النفس الصدر، وهذه عمليات حيوية غير طبيعية تقود بالضرر على الجسم وتنكهه ومن ثم يزداد إفراز الهورمونات في الدم مباشرة، مما يعطل عمل الأجهزة المناعية ومن ثم تحدث الاصابات بالعدوى بأي فيروس بعد إلحاق ضرر بهذه الأجهزة وغالباً ما يساعد على إلحاق الضرر بأجهزة المناعة، مرور الشخص بضغوط حياتية صادمة من قبيل الطلاق، وفاة أحد الزوجين أو الأعزاء وفقد العمل وحالات الكآبة وتوترات الحياة المختلفة. وتؤكد الدراسات يوماً بعد آخر أن هناك عنصراً مهماً بجانب أن يعيش الانسان بعيداً عن الهموم والتوترات والضغوطات، ما أمكنه ذلك، والعيش في وسط اجتماعي متماسك، حيث إن المساندة الاجتماعية تعد عاملاً مهماً في الوقاية وتنمية الصحة بجوانبها النفسية والعضوية، حيث ثبت أن الأشخاص الذين لا يقيمون علاقات اجتماعية طيبة مع الآخرين ولا يتلقون مساندة اجتماعية هم أكثر عرضة من غيرهم للإصابة باضطرابات فسيولوجية وتثبيط جهاز المناعة ومن ثم الإصابة بالعدوى الفيروسية. وهناك دراسات عديدة في هذا الصدد، لعل من أهمها على الإطلاق، دراسة كونسطبل ورس 1986- التي انتهت إلى أن المساندة الاجتماعية والعاطفية إحدى الوسائل المهمة في التخفيف من الضغوط الحياتية والإصابة أو التسبب بأمراض العصر، هذه الدراسات تسمى الدراسات الوبائية الإكلنيكية.
وللتأكيد على دور المساندة الاجتماعية ووجود الفرد داخل أسرة ولديه أبناء وزوجة، قام أحد العملاء سنة 1991 كوهين وتاير بل في جامعة كارنجي ميلون في ولاية بنسلفينيا بأمريكا بإجراء بحث مطول، حيث طلب من المتطوعين جميعاً حقنهم بفيروس البرد العادي (Rhinovirus) وقد قُسِّمَ هؤلاء المتطوعون إلى ثلاث مجموعات، الأولى تعاني توترات وضغوطات حياتية كثيرة منذ أكثر من 6 أشهر، ومجموعة ثانية مرتبطة أسرياً وعاطفياً وهذه مساندة اجتماعية، إلا أنهم يعانون من بعض التوترات، ومجموعة ثالثة كان لديها أفضل مواجهة لهذا الفيروس العادي عن طريق إزالة التوترات والضغوط، بالإضافة إلى تلقي مساعدة ودعم معنوي اجتماعي من أسرهم، وكانت النتائج أن المجموعة الثالثة الأخيرة استطاعت مقاومة فيروس البرد بواقع 69% أما المجموعة الثانية فقاومت البرد بواقع 27% أما المجموعة الأولى فلم تستطع أن تقاوم فيروس البرد العادي. أي كلما زاد التوتر عند الفرد، كانت قدرته المناعية على مقاومة الفيروس أو المرض ضعيفة، بعبارة أخرى فإن الضغط النفسي يضعف الجهاز المناعي الذي بدوره ينجز عن حماية الجسم من مخاطر صحية محتملة. وسوف نقدم في العدد القادم، كيف يمكن تعلم الاسترخاء النفسي بأنواعه المختلفة، حيث بعد أن نوهنا بأهمية العامل النفسي والصحة النفسية في الوقاية، سنقدم متطلبات أخرى في العلوم السلوكية والنفسية للتدخل والعلاج والمواجهة.