الموضوع الديني 592

طارق بن زياد.. فاتح الأندلس

سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:

طارق بن زياد قائد عسكري مسلم، قاد الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية خلال الفترة الممتدة بين عاميّ 711 و718م، بأمر من موسى بن نصير والي إفريقيا في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك.

يُنسب إلى طارق بن زياد إنهاء حكم القوط الغربيين لإسبانيا، وإليه أيضاً يُنسب “جبل طارق” وهو الموضع الذي وطئه جيشه في بداية فتحه للأندلس. يُعتبرُ طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخ الإسلامي، وتُعدّ سيرته العسكرية من أنجح السير التاريخية.

ترك طارق بن زياد إرثاً كبيراً بعد وفاته تمثَّل ببقاء شبه الجزيرة الإيبيرية تحت حكم المسلمين زهاء 8 قرون، وفي وقتٍ لاحق خلال القرن العشرين أُطلق اسمه على عدد من المواقع في البلدان الإسلامية وبالأخص في المغرب العربي.

نشأته وبداياته العسكرية

يتَّفق أغلب المؤرخين المسلمين المعاصرين، أن طارق بن زياد كان مولى موسى بن نصير والي إفريقيا، وكان موسى بن نصير قد خرج غازياً من إفريقيا إلى طنجة، ووصل موسى وجيشه إلى السوس الأدنى وهو بلاد درعة، حيث مضارب قبيلة نفزة الجبلية، فلما رأى البربر الجيوش الإسلامية استأمنوا وأطاعوا، فولى عليهم والياً، ووضع طارق بن زياد والياً على طنجة، وما والاها في سبعة عشر ألفاً من العرب واثني عشر ألفاً من البربر، وأمر موسى بن نصير العرب بأن يعلموا البربر القرآن الكريم وأن يفقهوهم في الدين، وترك البقية لطارق بن زياد في تولية أمور المسلمين في المغرب الأقصى.

فتح الأندلس

بعد نجاح العمليات العسكرية لطارق بن زياد، تمَّ لموسى بن نصير السيطرة على كامل المغرب الأقصى، وامتد النفوذ الإسلامي إلى تلك المناطق، وأصبحت من حينها جزءاً من العالم الإسلامي، غير أنه بقيت فقط سبتة التي كان يحكمها حاكم قوطي يدعى يوليان خارج نطاق سيطرة المسلمين.

مُقدمات وأسباب الفتح

كانت عادة أشراف القوط أن يرسلوا أولادهم إلى بلاط ملكهم للتعليم والتنشئة هناك. وحدث أن اغتصب لذريق ملك القوط ابنة يوليا حاكم سبتة، مما أغضب الأخير، وقرر أن ينتقم بدعوة المسلمين لغزو القوط. كما يبدو أنَّ يوليان هذا كان يمتلك بعض الإقطاعات في جنوبي إيبيريا، وهو على صلات حسنة مع حكَّام البلاد السابقين آل غيشطة، وتحالف مع أخيلا المُطالب بالعرش الإسباني للتخلّص من حكم لذريق، كما كان رسول آل غيشطة إلى المسلمين. ولمَّا تاخم المسلمون حدود بلاده وجد في قوَّتهم خير من يُساعده في تحقيق هدفه، كما أراد أن يُقدمَ إليهم خدمة جليلة بعد أن أضحوا أسياد المنطقة، فقرر أن يؤدي دور الوسيط في تشجيعهم على العبور إلى إسبانيا، فراسل موسى بن نصير، وقيل طارق بن زياد، يدعوهم لعبور المضيق وغزو القوط، وأعدّ لهم السفن اللازمة للعبور، وبيَّن لهم حسن البلاد وفضلها وما تحتويه من الخيرات، وهوَّن حال رجالها ووصفهم بالضعف.

فتح إيبيريا

في 5 رجب 92هـ الموافق 29 أبريل 711م، أرسل موسى بن نصير طارق بن زياد على رأس جيشٍ وصل تعداد أفراده إلى نحو 7,000 رجل معظمهم من البربر. عبر طارق بن زياد وجيشه المضيق الفاصل بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، ونزل في رأس شبه الجزيرة الإيبريَّة في الموضع الذي يعرف اليوم بجبل طارق، وسيطر على ذلك الموقع بعد أن اصطدم بالحامية القوطيَّة.
أقام القائد المسلم عدَّة أيام في قاعدة الجبل نظَّم خلالها جيشه، وأعدَّ خطَّة لفتح القلاع القريبة، والتوغّل في عمق إسبانيا، ونجح في فتح بعض القلاع والمدن منها قرطاجنة والجزيرة الخضراء، ثمَّ تقدم باتجاه الغرب حتى بلغ خندة جنوبي غربي إسبانيا التي يقطعها نهر برباط عبر وادي لكة الشهير، وعسكر هناك.

انسحاب الجيش القوطي

عندما علم لذريق بعبور جيش طارق، جمع جيشاً بلغ نحو 100,000 رجل وسار لقتالهم، وعلم طارق بن زياد بأنباء الحشود الضخمة التي حشدها لذريق، فراسل موسى بن نصير يستمده، فأرسل له 5,000 رجل آخر. تقابل الجيشان في 28 رمضان 92هـ الموافق 19 يوليو 711م عند وادي لكة، على بعد أميال إلى الشرق من قادش، وجرت بينهما معركة طاحنة، أسفرت عن انتصار حاسم لجيش طارق بن زياد، وتمَّ القضاء على الجيش القوطي ومعه الملك، وتشير بعض المصادر إلى أنَّ طارق بن زياد هو من قتل لذريق بيده، إذ رماه برمحه فأرداه قتيلًا على الفور، وجعل يصيح: “قتلت الطاغية.. قتلت لذريق”.

حرق السفن

عُرف عن طارق بن زياد حرقه للسفن التي عبر عليها للأندلس ليقطع طريق العودة على جنوده، ويدفعهم للاستبسال في القتال أمام العدو، وقبل بدء المعركة، خطب طارق بن زياد في جنوده خطبة مازال صداها ومعناها يترددان إلى الآن، ومما قال فيها: “أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام على مائدة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حَمَلْتُكُمْ على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقِّ قليلاً، استمتعتم بالأرفَهِ الألذِّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي، وقد انتخبكم الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين من الأبطال، ثقة منه بارتياحكم للطعان، ليكون حظُّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة.

واعلموا أنني أول مُجيب لما دعوتكم إليه، وأني عند مُلتقى الجمعين حامل نفسي على طاغية القوم لذريق، فقاتله إن شاء الله، فاحملوا معي، فإن هلكت بعده، فقد كفيتكم أمره، وإن هلكت قبل وصولي إليه، فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من الاستيلاء على هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخذلون.

شخصيته

يُشير عدد من الباحثين والمؤرخين المسلمين إلى أن طارق بن زياد كان إنساناً متواضعاً راضياً وقنوعاً، تجلَّت إنسانيَّته في الكثير من المواقف البارزة. فقد رضي على الدوام أن يكون الرجل الثاني بعد موسى بن نصير، ولم تظهر منه أي علامة صراع من أجل الدنيا، وكان بربرياً عربياً مسلماً مثالياً، أي كان الإسلام قوميَّته وكان المسلمون على اختلاف قوميَّاتهم شعبه. كما أشار هؤلاء إلى أن طارق بن زياد كان وفياً لكل من وقف معه، ولم ينكث عهده أبداً.

ميراثه

يُعتبر طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين المُسلمين في التاريخ، ومن أهمهم على الإطلاق، وهو من أكثر الشخصيَّات الوطنيَّة إجلالاً في المغرب العربي، في كل من الجزائر والمغرب بشكلٍ خاص، وعند العرب والأمازيغ على حدٍ سواء، وقد سُمِّيت باسمه الكثير من المواقع تكريماً له وتخليداً لذكراه، في البلدان الإسلاميَّة وخارجها.

إعداد: نادر نايف محمد

Youtube
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض