الموضوع الديني

عبد الرحمن الداخل.. صقر قريش

سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد..

عبد الرحمن بن معاوية بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، هو أول خليفة أموي في الأندلس، وأحد عظماء التاريخ الإسلامي. اشتهر بلقب صقر قريش لفطنته وشجاعته وحكمته في إنقاذ نفسه من مذبحة العباسيين التي اجتثت الأمويين في دمشق، وفي إعادة إحياء الخلافة الأموية في بلاد جديدة هي الأندلس.

هروب عبد الرحمن الداخل من الموت ولد عبد الرحمن الداخل في عام 113 هـ/731 م في مدينة دمشق، والده هو الخليفة العاشر للدولة الأموية. نشأ في بيئة ملكية، وتلقى تعليماً عالياً في الدين واللغة والأدب والفروسية والحرب.

كان شاباً ذكياً ووسيماً وشجاعاً، وأحبه الناس لطيب خلقه وكرمه. كما كان يحظى بثقة جده عبد الملك وعمه هشام، اللذين أوصياه بالخلافة بعد موت أبيه.

في عام 132 هـ/750 م، اندلعت ثورة العباسيين ضد الأمويين، بزعامة أبو العباس السفاح، وتمكن العباسيون من هزيمة جيش الأمويين في معركة الزاب في عام 132 هـ/750 م، فهرب الأمويون واختفوا عن أنظار العباسيين، وكان عبد الرحمن ممن تمكن من الفرار من دار أجداده واتجه إلى نهر الفرات، حيث كان يختبئ أقاربه من بني أمية. لكن في طريقه، تعرضوا لكمين من قبل فرسان العباسيين، فقفز إلى نهر الفرات، ونجا من الماء بأعجوبة، وظل يسير ليل نهار في صحراء سوريا، متخفياً في قرى ووديان. ثم اتجه إلى فلسطين، ومنها إلى مصر، ثم إلى برقة في شمال إفريقيا. في كل مكان كان يطارده خصومه، ويرسل رسائل إلى أصدقائه وأنصاره، يطلب منهم المساعدة والنصرة.

وصول صقر قريش إلى الأندلس

بعد أن قضى عبد الرحمن الداخل خمس سنوات في شمال إفريقيا، وهو يبحث عن ملجأ آمن ومخرج من محنته، سمع بأن في الأندلس أقارب له من بني أمية، وأن هناك أهل سُنَّة وجماعة يحبونه ويتوقون إليه. فقرر أن يغامر بالسفر إلى الأندلس، التي كانت تحت حكم الولاة العرب والبربر، الذين كانوا يتبعون خلافة العباسيين في بغداد. وكانت الأندلس تعاني الفتن والحروب الأهلية بين الولاة والقادة والجماعات المختلفة، التي كانت تسعى إلى الاستقلال.

في عام 138 هـ/755 م، أبحر عبد الرحمن من بَرَقَة بصحبة 300 رجل من أصدقائه وأتباعه، واستقر في جزيرة ألبوران قبالة سواحل الأندلس. ثم أرسل رسائل إلى قادة وولاة الأندلس، يعرض عليهم نفسه كخليفة أموي شرعي، ويطلب منهم المبايعة والولاء. فاستجاب له بعضهم، خصوصاً من كانوا من بني أمية أو من كانوا يكرهون حكم العباسيين. ومن بين هؤلاء كان عبدالله بن خالد بن عثمان، والي قرطبة، الذي دعا عبد الرحمن إلى مدينته، ووعده بالمساعدة.

فلما وصل عبد الرحمن إلى قرطبة في رجب من عام 138 هـ/756 م، فوجئ بأن عبدالله قد خانه، وأغلق أبواب المدينة في وجهه، وأرسل جيشاً لمحاربته.

فقاتل عبد الرحمن جيش عبدالله بشجاعة، وانتصر عليه، وفتح قرطبة بالقوة. ثم دخل المدينة مظفراً، وصعد المنبر، وألقى خطبة تاريخية، يعلن فيها نفسه خليفة للمسلمين في الأندلس. فبايعه الناس بكل فئاتهم وطوائفهم، فرحين بقدومه ممتثلين لأمره. وكان ذلك في رمضان من عام 138 هـ/756 م.

تأسيس عبد الرحمن الداخل للدولة الأموية في الأندلس

بعد أن أعلن عبد الرحمن الداخل نفسه خليفة للمسلمين في الأندلس، بدأ في تنظيم شؤون الدولة وتوحيد البلاد تحت رايته. فقام بتعيين ولاة وقضاة وجنرالات من أهل الثقة والكفاءة، وبإصلاح الإدارة والمالية والجيش والقضاء، وبإنشاء المؤسسات والمشاريع والخدمات العامة، وبإحياء العلوم والفنون والثقافة. كما قام ببناء قصور وجوامع وحدائق ومكتبات، من أشهرها قصر الرصافة وجامع قرطبة، التي جعلها عاصمة لخلافته.

لم تكن حياة عبد الرحمن هينة أو مستقرة، فقد كان يواجه تحديات ومخاطر كثيرة من داخل الأندلس وخارجها. فمن داخل الأندلس، كان يتصارع مع بعض الولاة والقادة المتمردين على سلطته، أو المتحالفين مع خصومه، أو المتطرفين في مذاهبهم، مثل الخوارج والشيعة.

فكان يضطر إلى قمع التمردات بالحزم والحكمة، وإلى توزيع المكافآت والعطايا على المطيعين والمؤيدين. كما كان يحاول إرضاء جميع فئات المجتمع، من عرب وبربر وروم ويهود، بإعطائهم حقوقهم وحرياتهم، مع مراعاة التوازن بينهم.

ومن خارج الأندلس، كان يتعرض لهجمات مستمرة من قبل الفرنجة (الأوروبيين) من الشمال، والخلافة العباسية من الشرق، والإمبراطورية البيزنطية من الجنوب.

فكان يدافع عن حدود دولته بشجاعة، ويحارب أعداءه ببسالة، ويرسل سفاراته إلى دول أخرى لإقامة علاقات سلام أو تحالف معها. كان أبرز انتصاراته هو معركة تور دو نوير في عام 177 هـ/793 م، حيث هزم جيشاً ضخماً بقيادة شارلمان، ملك فرنسا.

أعماله

اتبع عبد الرحمن الداخل سُنَّة أسلافه من الأمويين في نظام الحكم، فاهتم بجيشه الذي كان الدعامة التي ساعدته في السيطرة على مقاليد الأمور طوال حكمه، فبلغ جيش عبد الرحمن الداخل مائة ألف جندي، كما أنشأ في أواخر عهده عدداً من قواعد بناء السفن.

بنى عبد الرحمن قصر الرصافة في أول حكمه، وأحاطه بالحدائق الزاهرة التي جلب لها الغروس والزروع والنوى من الشام وإفريقيا. وفي عام 150 هـ، أقام سور قرطبة الكبير، الذي حصّن به قرطبة، واستمر العمل به لأعوام. وفي عام 170 هـ، أسس المسجد الجامع في قرطبة.

ولما كثرت عمارة قرطبة، ضاق المسجد على مرتاديه، فابتاع الشطر الثاني من النصارى بمائة ألف دينار، فأسس عليه الجامع، وأمر ببنائه على طراز المسجد الأموي بدمشق.

وقد بلغت مساجد قرطبة في عهده 490 مسجداً، كما أنشأ داراً لسك العملة، تضرب فيها النقود بحسب ما كانت تضرب في دمشق في عهد بني أمية وزناً ونقشاً.

بعد أن فشلت حملة شارلمان على شرق الأندلس، وهزيمة جيشه في معركة باب الشرزي. دعاه عبد الرحمن الداخل إلى السلم، لتوطيد العلاقة بين الدولتين، فأجابه شارلمان ووافق على طلبه.

صفته وشخصيته

قال عنه ابن حيان القرطبي: «كان كثير الكرم، عظيم السياسة، يلبس البياض ويعتمُّ به، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويصلي بالناس في الجمعة والأعياد، ويخطب بنفسه».

نقش خاتمه: «عبد الرحمن بقضاء الله راض»، وقيل «بالله يثق عبد الرحمن، وبه يعتصم». وقد عرف بلقب «صقر قريش»، ذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يوماً في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راضَ الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء».

قال: «ما صنعتم شيئاً»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي ركب البحر، حتى دخل بلداً أعجمياً. فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكاً بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة عزمه».

كان عبد الرحمن بن معاوية وافر العزم والدهاء والحزم والصرامة، وكان يقعد للعامة ويستمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم. وكان من عاداته، أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه. كما كان ليِّن الجانب مع النصارى، يسير معهم بسياسة الاعتدال والمهادنة، فجعل لهم رئيساً يسمى «القُمص»، يقيم إلى جواره في قرطبة ويستشيره في كثير من الأمور.

وفاة صقر قريش وإرثه

عاش عبد الرحمن الداخل حياة طويلة مليئة بالأحداث والمغامرات. وحكم الأندلس لمدة 32 سنة، من 138 هـ/756 م إلى 172 هـ/788 م.

توفي عبد الرحمن الداخل في رجب من عام 172 هـ/788 م، عن عمر يناهز 57 سنة، في قصره بقرطبة. ترك خلفه خلافة قوية ومستقرة، تضم معظم أجزاء شبه الجزيرة الإيبيرية، وتحظى بسمعة طيبة بين دول العالم. كما ترك أيضاً إرثاً عظيماً في تاريخ الإسلام والحضارة.

فهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس، التي استمرت لأكثر من ثلاثة قرون، وأنجبت علماء وفنانين وأبطالاً مشهورين. كان عبد الرحمن رجلاً فذاً، صبر على المصائب، وحارب في سبيل الحق، وأقام دولة عادلة، فكان حقاً صقر قريش.

إعداد: نادر نايف محمد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض