الموضوع الديني 582

المصري الفقيه.. الليث بن سعد «رحمه الله» (المتوفى سنة: 175ه)

فقهاء عظام في تاريخ الإسلام الجزء (7)

مفخرة مصر وإمامها، فقيه أرض الكنانة وشيخها، المفتي الكبير، الحافظ العالم، المفسر المحدث، الحكيم الخلوق، الكريم السخي، واصل العلماء والوعاظ، كنيته أبو الحارث، واسمه الليث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي القلقشندي، رحمه الله ورحم الله فقهاء المسلمين.

كان “رحمه الله” فقيهاً نبيلاً من فقهاء المسلمين، وإماماً كريماً من أئمة المؤمنين، وهذه إطلالة على أهم ملامح فقهه وإمامته “رحمه الله”:

1. الفقيه المفسر المحدث:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً مفسراً لكتاب الله محدثاً لأحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا أدل على ذلك من إيراد كتب التفسير لتفسيراته للآيات القرآنية ككتاب الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، ومما يدل على أنه من رواة الحديث الكبار ما قاله أبو نعيم الأصبهاني: «أسند الليث عن عدة من كبار التابعين: عن عطاء بن أبي رباح، وعبدالله بن عبيدالله بن أبي مليكة، ونافع مولى ابن عمر، وقيل: إنه أدرك نيفاً وخمسين رجلاً من التابعين، وأدرك من تابعي التابعين ومن دونهم مائة وخمسين نفساً، وحدث عن الليث من الأعلام: هشيم بن بشير، وعلي بن غراب، وحيان بن علي العنزي، وعبدالله بن المبارك، ومن المصريين ابن لهيعة، وهشام بن سعد، وعبدالله بن وهب» (حلية الأولياء: 7/323)، وروي عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: «الليث ثقة ثبت»، وروي عنه أيضاً قوله: «ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث»، وقوله: «الليث كثير العلم صحيح الحديث» (تهذيب التهذيب: 8/461)، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما قرابة (600) حديث عن الليث.

2. الفقيه المفتي الإمام:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان مفتياً عالماً كبيراً من علماء وأئمة المسلمين، بل صاحب مذهب ومنهج فقهي رائد، ومما يدل على سعة علمه ما روي عن عبدالملك بن شعيب عن أبيه قال: قيل لليث: «إنّا نسمع منك الحديث غير مكتوب في كتبك، أمتع الله بك. فقال: ليس كل ما في صدري في كتبي؛ لأنني لو كتبت ما في صدري، ما وسعه هذا المركب» (تاريخ ابن يونس المصري: 1/419)، وقد شهد الكثير من كبار الأئمة وعلماء الملة للإمام الليث بالفضل وسعة العلم، فيروى عن الشافعي قوله: «ما فاتني أحد أشد علي فواته من ابن أبي ذئب، والليث بن سعد، وقال: ليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به» (الإرشاد في معرفة علماء الحديث: 1/201)، وقال ابن سعد: «كان ثقة، كثير الحديث صحيحه، وكان قد استقل بالفتوى في زمانه بمصر» (الطبقات الكبرى: 7/517)، وروي عن ابن وهب قوله: «لولا مالك والليث لضل الناس» (تاريخ دمشق: 50/359)، وصفه الذهبي بقوله: «الإمام، الحافظ، شيخ الإسلام، وعالم الديار المصرية»، ووصفه أيضاً بقوله: «كان الليث رحمه الله فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، ورئيسها، ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث أن متولي مصر وقاضيها وناظرها، من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه، ومشورته، وقد أراده المنصور أن ينوب عنه على الإقليم، فاستعفى من ذلك»، (سير أعلام النبلاء: 8/136-137و143و161)، ووصفه أيضاً بقوله: «كبير الديار المصرية ورئيسها ومحتشمها وعالمها، وأمير من بها في عصره، بحيث أن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته» (تاريخ الإسلام: 4/710)، ويروى عن العلاء بن كثير قوله: «الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا» (سير أعلام النبلاء: 8/161)، ويروى عن يحيى بن بكير قوله: «ما رأيت أحداً أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، حسن المذاكرة» (تاريخ دمشق: 50/356).

3. الفقيه الكريم السخي:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً كريماً جواداً سخياً، فيروى عنه أنه «كان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز بالسكر» (تاريخ بغداد: 14/524)، ويروى عن محمد بن رمح قوله: «كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار، ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط» (تاريخ بغداد: 14/524)، والسبب في عدم وجوب الزكاة عليه راجع إلى أن الحول لا ينقضي إلا وقد أنفق أمواله وتصدق بها، وروي عن منصور بن عمار أنه قال: «أتيت الليث بن سعد، فأعطاني ألف دينار، وقال لي: صن بهذه الحكمة التي آتاك الله عز وجل» (المجالسة وجواهر العلم للدينوري: 4/27)، وروي عن حرملة قوله: «كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمائة دينار في السنة، فكتب مالك إليه: علي دين، فبعث إليه بخمس مائة دينار، فسمعت ابن وهب يقول: كتب مالك إلى الليث: إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر، فبعث إليه بثلاثين حملاً عصفراً، فباع منه بخمس مائة دينار، وبقي عنده فضلة»، ويروى عن قتيبة قوله: «أعطى الليث ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى مالكاً ألف دينار، وأعطى منصور بن عمار الواعظ ألف دينار، وجارية تسوى ثلاثمائة دينار، وقال: جاءت امرأة إلى الليث، فقالت: يا أبا الحارث، إن ابناً لي عليل، واشتهى عسلاً، فقال: يا غلام، أعطها مرطاً من عسل، والمرط: عشرون ومائة رطل»، ويروى عن شعيب بن الليث قوله: «خرجت حاجاً مع أبي، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، قال: فجعل على الطبق ألف دينار، ورده إليه»، وروي عن عبدالله بن صالح قوله: «صحبت الليث عشرين سنة، لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض» (سير أعلام النبلاء: 8/148-150)، ووصفه ابن خلكان بقوله: «كان من الكرماء الأجواد، ويقال إن دخله كان هو كل سنة خمسة آلاف دينار، وكان يفرقها في الصلات وغيرها»، (وفيات الأعيان: 4/127)، ويروى عن أسد بن موسى قوله: «كان عبدالله بن علي يطلب بني أمية فيقتلهم، فلما دخلت مصر، دخلتها في هيئة رثة، فدخلت على الليث بن سعد، فلما فرغت من مجلسه، خرجت فتبعني خادم له في دهليزه، فقال: اجلس، حتى أخرج إليك، فجلست، فلما خرج إلي وأنا وحدي دفع إلي صرة فيها مائة دينار، فقال: يقول لك مولاي أصلح بهذه النفقة أمرك ولم من شعثك، وكان في حوزتي هميان فيه ألف دينار، فأخرجت الهميان، فقلت: أنا عنها في غنى، استأذن لي على الشيخ، فاستأذن لي، فدخلت، فأخبرته بنسبي فاعتذرت إليه من ردها، وأخبرته بما معي، فقال: هذه صلة وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي عادة وأنا في غنى، فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقاً لها، فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها على جماعة» (تاريخ دمشق: 50/373-374).

4. الفقيه الحكيم الفطن:

من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً حكيماً فطناً ذكياً، فمما يدل على تمام حكمته وذكائه، ما روي عن لؤلؤ خادم هارون الرشيد قال: «جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون في عرض كلامه لها أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم واغتما جميعاً بهذه اليمين، ونزل بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد منها مخرجاً ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن يحمل إليه الفقهاء من بلدانهم… فقال: (أي الليث): يخليني أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك، فانصرف من كان بحضرة أمير المؤمنين من الفقهاء والناس، ثم قال له تكلم، فقال: يدنيني أمير المؤمنين، فأمر به فأدني حتى كان قريباً منه، قال: تكلم، قال: يخليني أمير المؤمنين، قال: فليس بالحضرة إلا هذا الغلام، وليس عليك منه عين، فقال: يا أمير المؤمنين أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما أمر به، قال: ذلك لك، قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع، فأمر به فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصفحه حتى يصل إلى سورة الرحمن، فأخذه وتصفحه حتى وصل إلى سورة الرحمن، فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ، فلما بلغ (ولمن خاف مقام ربه جنتان)، قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين والله، فاشتد على الرشيد وعلي ذلك، فقال له أمير المؤمنين: ما هذا، قال يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه، وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب، ثم رفع هارون رأسه إليه، فقال: والله، قال: الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله، قال هارون: إني أخاف مقام الله، فقال يا أمير المؤمنين، فهي جنتان، وليست بجنة واحدة كما ذكر الله في كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر، وقال هارون: أحسنت والله، بارك الله فيك» (تاريخ دمشق: 50/328-330)، ويروى عن الليث بن سعد قوله: «قال لي الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ قلت: بإجراء النيل، وبصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإن صفت العين، صفت السواقي، قال: صدقت» (سير أعلام النبلاء: 8/158).

ختاماً: رحم الله الإمام الكبير والفقيه النبيل الليث بن سعد، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي – أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض