مع انطلاق المعادلات الأمنية الجديدة ما بعد الحرب الباردة، تضاعفت الحاجة لتأمين أعلى درجات الحماية للوحدات العسكرية العاملة في مناطق التوتر المختلفة. وقد تعزز هذا الاتجاه مع تطوير تقنيات هجومية، الغاية منها زعزعة الثقة ومنع الوحدات المذكورة من إتمام المهمات الموكلة لها. وحتى بمعزل عن هذا التطور، الذي يتأكد تباعاً منذ اوائل التسعينات، كانت مسألة السلامة بالمعنى العريض للكلمة، أحد مقومات العمل العسكري ومن معطياته الأساسية.
كما أن الثقة المتزايدة لدى أفراد القوات المسلحة تدعم التغطية الصحية واللوجستية، وتشكل عاملاً إيجابياً على المستوى النفسي حين يتطلب الوضع العسكري الدخول في مواجهات شاملة مباشرة أو غير مباشرة.
وتعتبر العناية الطبية المتقدمة، وتدابير الإنقاذ، جزءاً مركزياً من الآلية اللوجستية الشاملة وتطبيقاتها العملية، نظراً ما تمثله الخدمات الصحية على خلافها من واقع متحرك داخل المحيط القتالي ذاته. وقد ثبت في الحروب أن الإسناد الطبي يعتبر من الضروريات الأساسية في الحفاظ على الكفاءة القتالية والمعنويات لدى الأفراد المشاركين في المعارك.
والغرض من الرعاية الطبية الميدانية إنقاذ الجرحى والمحافظة على معنويات الأفراد وإيقاف النزيف وتسكين الألم لكي يستطيع المقاتل أن يعود إلى الجبهات القتالية بعد تقديم الرعاية الطبية له.
الفرق بين الطبيب العسكري والمدني
الطبيب المدني يتخرج ويعمل في المستشفيات المدنية ووزارة الصحة والعيادات الخاصة، أما الطبيب العسكري فيحمل رتبة عسكرية بعد تخرجه، ويعمل بمستشفيات القوات المسلحة.
الطبيب المدني يعامَل معاملة المدنيين في أي مكان، ويمارس حريته كشخص عادي، أما الطبيب العسكري فهناك مجموعة من القواعد واللوائح يلتزم بها في حياته ولا يستطيع مخالفتها.
الطبيب العسكري تتوفر له مجموعة من البدلات، والتي تناسب طبيعة عمله في المناطق النائية والحدود وأثناء الحروب.
الطبيب المدني لديه حرية كاملة في التطور بوظيفته عن طريق الحصول على شهادات عديدة من بلدان خارجية وإمكانية السفر بأي وقت والعمل في أي مكان، على عكس الطبيب العسكري والذي تحتم عليه القواعد العمل بالمؤسسة العسكرية طوال مدة خدمته.
الطبيب المدني يتم تقييمه على حسب خبرته وشهرته في المجال الذي تخصص فيه، أما الطبيب العسكري فيتم تقييمه على حسب الرتبة التي حصل عليها نتيجة تطوره الوظيفي.
وهنا يبرز السؤال: ما هي المؤهلات الأخرى غير الطبية المدنية التي يجب أن يتمتع بها الطبيب العسكري؟
تحتاج مهنة الطبيب العسكري إلى مؤهلات أخرى غير مؤهلاته الطبية المدنية، فهو يحتاج إلى التعرف على استخدام مهاراته العلاجية في الميدان بمعدات قد تكون محدودة للغاية. وليس لدى أي جيش الإمكانات في تدريب شخص ليصبح طبيباً كامل المؤهلات، ولكن في وسع الجيش أن يزود الطبيب المستخدم بالتدريب الإضافي اللازم لتأهيله بالمهام الخاصة أثناء المعركة وفي الخدمة العسكرية بوجه عام. ومثل هذا التدريب يجب أن يشمل إطلاع الطبيب المستجد على التشكيلات العسكرية والتكتيكات الأساسية، بحيث يمكنه اتخاذ القرارات الملائمة بالنسبة إلى الوضع وتحريك مراكز الإسعاف على مستوى الكتيبة وكذلك عربات الإسعاف الميدانية ومستشفيات الميدان والوسائط الطبية الأخرى. وكيف تدخل كل هذه الاشياء في البنية العسكرية. وعلى الأطباء أن يتفهموا أيضاً مشكلات إخلاء الإصابات من ساحات القتال ووسائله.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المرضى العسكريين وضحايا المعارك، يحتاجون إلى عمليات جراحية وليس مجرد علاج طبي عادي كالذي يُعالج به المرضى في الحياة المدنية. لهذه الأسباب مجتمعة يجب أن يكون الطبيب العسكري ذا خبرة جراحية تفوق تلك التي توفرها له ممارسة المهنة في الحقل المدني. وقد يقاتل الجنود في الأدغال أو المناطق الصحراوية فيصابون بأمراض غير مألوفة في بلد أطباء الوحدات المقاتلة، مما يتوجب إلحاق هؤلاء الأطباء بدورات دراسية قصيرة عن الطب في المناطق الاستوائية. كما قد يكون من الضروري تدريب الأطباء على فن القيادة في إحدى الكليات العسكرية، قبل أن يتولوا قيادة عناصر الوحدات الطبية، سواء في الثكنات أو في ساحات القتال.
مهام الخدمات الطبية
في الجيوش الحديثة
ركزت الطرق العلاجية للإصابات في الجيوش الحديثة بصفة عامة على الآتي:
الإسهام في المحافظة على الصحة الأساسية لأفراد القوات المسلحة وتوفير الإسناد الصحي لمستحقي العلاج من عسكريين ومدنيين في مجالات الطب الوقائي والتشخيص والعلاج والخدمات الاستشفائية والاختبارات الطبية.
السهر على نشر التثقيف الصحي داخل الوسط العسكري.
متابعة الوضع البيئي والعمل على حمايته داخل الوحدات العسكرية.
المتابعة الوبائية للأمراض داخل القوات المسلحة ودراسة البرامج الوقائية المتعلقة بها وإرساؤها ومتابعتها، وذلك بالتكامل والتنسيق مع المصالح المختصة التابعة لوزارة الصحة.
الإشراف على تحليل المواد الغذائية بالمختبرات.
اعتماد التدابير التنظيمية لتوفير الإسناد الصحي للوحدات التابعة للجيوش الثلاثة والإدارات والمصالح المشتركة، طبقاً لخصوصياتها.
إعداد مخططات التدخل الطبي خلال الكوارث والعمليات العسكرية وأخذ التدابير اللازمة لتطبيقها.
تدريب الأفراد والوحدات الصحية الميدانية في مجال الإسناد الصحي للجيوش خلال الكوارث والعمليات العسكرية.
إعداد البرامج المتعلقة باقتناء التجهيزات الطبية والمواد الصيدلانية وتوفير الإمدادات الصحية داخل القوات المسلحة والسهر على صيانة المعدات الطبية.
السهر على إعداد أفراد في الاختصاصات الطبية وشبه الطبية بما في ذلك تنظيم المؤتمرات العلمية والمؤتمرات الطبية العسكرية.
إن هيئة الخدمات الطبية المدربة في أي جيش مسؤولة عن العناية بالمصابين والمرضى حتى الشفاء التام. ولذلك، فإن تعلم أفراد القوات المسلحة جميعاً مبادئ الإسعافات الأولية بات من الأمور الجوهرية. ويجب أن يكون هذا التعلم جزءاً أساسياً من مناهج تدريب المجندين الأغرار، بغض النظر عن التخصص.
على الجنود أن يدركوا خطورة حالة من يصابون بصدمات عصبية جراء إصابتهم بحروق أو بنزيف حاد. ولذلك على كل جندي أن يحمل علبة ضمادات، وفي الأماكن المعزولة تكون معه زجاجة دواء مُسَكِّن. ومن المفروض أن يكون في استطاعته تضميد جرح أو تجبير أحد الأطراف أو إجراء عملية الإنعاش عند اللزوم.
العناية الطبية الميدانية المتقدمة
يعد الطب العسكري الميداني بمثابة ذراع الشؤون الصحية للجيوش الحديثة، التي تقدم مساعدات طبية مباشرة إلى الأفراد العسكريين في الميدان العسكري أثناء حالات الطوارئ الوطنية.
وتضطلع قيادة الطب العسكري الميداني بمهام توفير الخدمات الصحية القتالية لدعم العنصر التكتيكي للقوى، بالإضافة إلى تقديم التعليم والتدريب التقني لأفراد سلاح الخدمات الطبية.
وقد اهتمت الجيوش الحديثة بإنشاء المدارس العسكرية للعلوم الصحية للمساعدة في تدريب منتسبيها، ورفع كفاءتهم وتحسين أدائهم وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي، مع ضمان الاستفادة من الإمكانيات المتاحة من برامج التدريب والقدرات والكفاءات المتوافرة ما أمكن ذلك، ومع إتاحة الفرصة التدريبية لجميع المنتسبين، لاسيما المدربين وعدالة توزيع الفرص التدريبية للمنتسبين وفقاً للاحتياجات والتركيز على تطوير مهارات المطلوبة مع مراعاة الوقت والجهود، ويمكن تحقيق هذه الأهداف، وتمكنت من تنفيذ البرامج الآتية:
برنامج تطوير كفاءة هيئة التدريب.
برنامج الكفاءة السريرية.
برنامج تطوير الضباط في مجال تطوير مناهج التدريب.
برنامج تطوير هيئة المدربين في مجال المصطلحات الطبية.
برنامج التدريب العملي لبرنامج الكفاءة السريرية.
برنامج تطوير المدربين في مجال الدفاع الكيماوي.
إعداد الدورات التحضيرية لتمرين القيادة وذلك لاكتساب الخبرة.
ومن الأهمية بمكان ترشيح أفراد لدورات إدارية، وكذلك ترشيح أفراد لدورات التمريض العملي والأنظمة الآلية، وذلك لاكتساب أحدث المهارات.
الكتيبة الطبية
بناء على ما تقدم، يجب أن تقوم الكتيبة الطبية، بتوظيف سرايا الإخلاء والسرايا الطبية التابعة لها، لدعم ألوية المناورات التي توفر أغلب عناصر دعم الخدمات الصحية القتالية.
تقوم سرايا الإخلاء الطبية بتلقي حالات المصابين وتقوم بفرزها وعمل الإسعافات الطبية الطارئة لها لحين إخلائها إلى مرفق أكبر للرعاية الصحية.
تقوم هذه السرايا بالإخلاء الطبي للمرضى والمصابين والجرحى من الوحدات الطبية العسكرية إلى المستشفى الميداني المتنقل أو إلى أحد المرافق الطبية الثابتة.
وتقوم السرية أيضاً بإخلاء المرضى من المستشفى الميداني المتنقل إلى المستشفيات الإقليمية أو إلى أي من المرافق الطبية الأخرى.
كما تقوم سرية الإخلاء الطبي بتوفير العلاج الطبي، وتقوم بالإخلاء على حسب المكان، لكي تضمن عدم إخلاء أي جندي قبل أن يتلقى العلاج.
تقوم هذه الكتيبة، من خلال فصيلة الإحصاء الطبي التابعة لها، بتوفير الإمدادات الطبية من الدرجة الثانية وصيانة الأجهزة الطبية لدعم جميع الوحدات الطبية في منطقة العمليات.
تنظيم الدعم الطبي العسكري
عند تنظيم الدعم الطبي في الميدان، ينبغي أن يؤخذ تطور الطرق العلاجية التي تم تطويرها على مدى السنين بعين الاعتبار، إلى جانب التقدم في مجالي الطب والطرق العلاجية. ويركز المبدأ الأول لتلك الطرق المعتمَدَة في أغلب الجيوش الحديثة، على معالجة المصاب في مراكز طبية قريبة قدر الإمكان من ساحات القتال، ليعود المصاب إلى وحدته بعد الشفاء، أو يتم ترحيله بأمان إلى الداخل بإحدى طرق الإخلاء المعتمدة بحسب خطورة الإصابة.
والمبدأ الثاني المعروف بـ «بالجراحة ضمن الست ساعات»، قد ثبتت صحته عالمياً ويتلخص في أن الاصابات التي تحتاج إلى جراحة، وهي تمثل أكثرية إصابات الميدان، تكون فرصها في الشفاء أفضل إذا ما عولجت في غضون ست ساعات من حدوثها. وكما ثبت بشكل عام أنه لا يمكن تحريك المصابين الذين تُجرى لهم جراحات خطيرة بأمان لفترة تتراوح ما بين 7 إلى 10 أيام.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى مبدأين اثنين: المبدأ الأول يتطلب من الجراحين العمل في مناطق القتال المتقدمة، مع ما يتبع ذلك من صعوبة الحصول على التجهيزات اللازمة لهم في مناطق القتال الأمامية. أما المبدأ الثاني فيتيح الجراحة في المناطق الخلفية، حيث ظروف عمل الجراحين أفضل، وحيث لن يترتب على الوحدة التنقل كثيراً تلبية لظروف المعركة.
وفي مثل هذه الظروف، لا بد من اعتماد حل، وبالفعل اعتمد الحل الوسط بين المبدأين لوضع “خطوط للدعم الطبي”. والخط العلاجي الأول مرتبط بالوحدة، ويرتكز على مركز العون الطبي الميداني الذي يديره طبيب برتبة ضابط يعاونه في ذلك عدد قليل من المساعدين. ويقوم الخط الثاني بين التشكيلات العسكرية، بينما يشمل الخط الثالث مستشفيات الميدان على مستوى الجيوش، على أن تقام في مناطق عمل الجيش، ولكن وراء حدود المناطق الخلفية للفرق. أما الخط الرابع فيشمل كافة مستشفيات الدولة وقواعد الاستشفاء التابعة للقوات المسلحة فيها.
مستشفيات الحروب
لجات الجيوش العصرية إلى تصميم وإنتاج ملاجئ وخيم معدة للنشر في ساحات القتال المحتملة كمستشفيات ميدانية على اختلاف أحوال الطقس وعوامل المناخ، ونجحت بصناعة حجرات ومستوعبات خيم بمثابة مستشفيات ميدان نقالة قابلة للتوسع والامتداد حسب الحاجة وتطور الأوضاع. وتحويل ملجأ إلى مستشفى ميداني ناجح بحاجة إلى عناصر أساسية واعتماد وسائل متقدمة لتوفير العزل المطلوب بين الحجرات وتأمين شروط ممتازة ودائمة من حيث التبريد والتهوية والتدفئة والمحافظة أحياناً على نسب ثابتة من درجات الحرارة. ولا يخفى أن مطابقة وسائط من هذا النوع بصورة فعالة، يمكن أن يطرح إشكالات إضافية أحياناً، في بيئات معينة كالمحيط الاستوائي أو الصحراوي أو في مواقع تختلف فيها درجات الحرارة بين النهار والليل. واستناداً إلى خصائص الخيم متعددة الأغراض يمكن للواحدة منها بعد التوسع المفترض أن تستوعب لغاية ثلاثمئة مريض.
إن المستشفى الميداني، مهما كان شكله المستقل وحجمه ومداه، يجب أن يضم كافة المعدات الطبية عالية التقنية، وفي مقدمتها التي تسمح بالقيام بعمليات جراحية أو وضع المصاب في موقع من المراقبة أو العناية الفائقة. وهنا يتضح الفرق النوعي بين وسائل الإخلاء والإنقاذ كالحوامات والمركبات وسيارات الإسعاف وبين وضعية المستشفيات الميدانية.
سيارات إسعاف متطورة
شهدت الجيوش الحديثة اعتماد معايير عالية في تجهيز سيارات الإسعاف المخصصة لنقل الجرحى خلال العمليات العسكرية، كاعتماد نسبة تدريع حسب مقاييس ناقلات الجند المدرعة وإن كان يتم ذلك غالباً، على حساب حيّز المركبة. إلى ذلك يجب أن تجهز المركبات المعنية بوسائط حماية ضد الألغام، وربما لهذه الأسباب المباشرة وغيرها لجأت بعض القوات البرية إلى تحويل الدبابات المتقادمة إلى نوع من سيارات الإسعاف نظراً لطابع الحماية العالية التي تميزها. وهكذا يتضح لنا أن الخبرة يجب أن تحتوي أيضاً على تشكيلة واسعة من الخدمات المكملة للتجهيزات الطبية.
إذاً، هناك آليات متعددة تكمل بعضها بعضاً، لتوفير أشكال النقل والدعم لأغراض صحية تناسب السيناريوهات القتالية والأمنية الحديثة. وفي إدراك هذا الجانب وأهميته المتزايدة، تعمل القوات المسلحة على توفير أمانها الذاتي وتجنب العواقب السيئة.●
» الدكتور معين أحمد محمود (باحث عسكري واستراتيجي)