الموضوع الديني 602

أبو عبيدة عامر بن الجراح (أمين الأمة)

سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:

أبو عبيدة عامر بن عبدالله بن الجراح الفهري القرشي، صحابي وقائد مسلم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بأمين الأمة، حيث قال: «إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة: أبو عبيدة بن الجراح».

شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر والمشاهد كلها، وكان من الذين ثبتوا في ميدان المعركة عندما بُوغت المسلمون بهجوم المشركين يوم أُحُد. وفي عهد أبي بكر الصديق، كان أبو عبيدة أحد القادة الأربعة الذين عينهم أبو بكر لفتح بلاد الشام، ثم أمر أبو بكر خالد بن الوليد أن يسير من العراق إلى الشام لقيادة الجيوش الإسلامية فيها، فلما ولي عمر بن الخطاب الخلافةَ عزل خالد بن الوليد، واستعمل أبا عبيدة، فقال خالد: «وَلِيَ عليكم أمين هذه الأمة»، وقد نجح أبو عبيدة في فتح دمشق وغيرها من مدن الشام وقراها. وفي عام 18هـ توفي أبو عبيدة بسبب طاعون عمواس في غور الأردن ودُفن فيه.

قيادة جيوش فتح الشام

بعد أن اتخذ أبو بكر القرار بفتح الشام وإرسال الجيوش لمحاربة الروم، أرسل إلى أربعة من الصحابة هم: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان.

سار أبو عبيدة من المدينة حتى مرَّ بوادي القرى، ثم طلع إلى الحِجر (وهي مدائن صالح) ثم إلى ذات المنار، ثم إلى زيزا، ومنها سار إلى مآب، فتصدت له قوة من الروم التحم بهم المسلمون، حتى أدخلوهم مدينتهم وحاصروهم فيها، فطلب أهل مآب الصلح، فكانت أول مدن الشام يُصالح أهلُها المسلمين، ثم سار أبو عبيدة إلى الجابية، ودنا منها.

وبلغت أخبار هذه التحركات هرقل ملك الروم وهو بفلسطين، ثم خرج هرقل من فلسطين، واتجه إلى أنطاكية بأقصى بلاد الشام واتخذها مقراً، وبعث إلى الروم يطلب حشودهم، فجاءته منهم أعداد غفيرة، وبلغت أخبار حشود الروم أبا عبيدة.

مسيرة جيش خالد بن الوليد من العراق إلى الشام

قرر الخليفة أبو بكر الصديق أن يضم جيش خالد بن الوليد في العراق إلى جيوش الشام، فكتب إلى خالد: «أما بعد، فإذا جاءك كتابي فدع العراق، وامض حتى تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومَن معه من المسلمين». وكتب خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح: «لقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام، وبالمقام على جندها والتولّي لأمرها… ووالله ما طلبت ذلك ولا أردته ولا كتبت إليه فيه، وأنت رحمك الله، على حالك التي كنت بها، لا يُعصى أمرُك ولا يُخالف رأيُك، ولا يُقطعُ أمرٌ دونَك، فأنت سيدٌ من سادات المسلمين، لا يُنكر فضلُك ولا يُستغنى عن رأيك».

تولية أبي عبيدة جيوش الشام

بعد وفاة أبي بكر الصديق في 21 جمادى الآخرة سنة 13هـ، أمَرَ عمر بن الخطاب بتولية أبي عبيدة أميراً على الجيوش وعلى الشام، فكتب إلى أبي عبيدة: «قد ولّيتك جماعة المسلمين، فبثَّ سراياك… وانظر في ذلك برأيك ومَن حضرك من المسلمين… ومَن احتجتَ إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن يُحتبس خالدٌ بنُ الوليد فإنه لا غنى بك عنه».

وقد وصل كتاب عمر بن الخطاب إلى المسلمين في الشام في أثناء اجتماعهم في معركة، وكانوا إذا اجتمعوا ولَّوا عليهم أميراً عاماً، فقال خالد بن الوليد: «بُعث عليكم أمين هذه الأمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»، وقال أبو عبيدة: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خالد سيف من سيوف الله».

فتح دمشق

توجه أبو عبيدة بن الجراح بجيوش المسلمين من الأردن إلى دمشق فحاصرها من جميع جهاتها أربعة أشهر، استولى المسلمون أثناءَها على غوطة دمشق، ونزل خالد بن الوليد أمام الباب الشرقي، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية غربي المدينة، ونزل يزيد بن أبي سفيان على الباب الصغير إلى باب كيسان (باب يونس قبل الفتح)، ونزل عمرو بن العاص على باب توما في الشمال، ونزل شرحبيل بن حسنة على باب الفراديس، وتم الفتح في شهر رجب سنة 14هـ.

ولما كان فتح دمشق في بواكير فصل الشتاء، فقد أمضى المسلمون بقية الفصل البارد في دمشق، وبعد انقضاء فصل الشتاء توجه أبو عبيدة وخالد بن الوليد ومن معهما من جيش المسلمين إلى حمص لفتحها، وسلكوا إليها طريق سهل البقاع مرواً بمدينة بعلبك، ثم جوسيه إلى حمص، ففتحوا بعلبك، وكتب أبو عبيدة لأهلها كتاب أمان، ووصلوا إلى حمص فتمّ فتحها من دون مقاومة صلحاً.

معركة اليرموك

عندما خرج أبو عبيدة من دمشق إلى حمص، استخلف على دمشق يزيد بن أبي سفيان، وعلى فلسطين عمرو بن العاص، وعلى الأردن شرحبيل بن حسنة، وعندما كان أبو عبيدة في حمص قدمت إليه العيون والجواسيس فأخبروه أن الروم قد جمعوا جموعاً لا حصر لها، وأنهم متجهون إلى جنوب الشام، فجمع أبو عبيدة رؤوس المسلمين لمشاورتهم، واتّخذ القرار بالانسحاب من حمص والعودة إلى المناطق المفتوحة من بلاد الشام.

وحّد أبو عبيدة جيوش المسلمين تحت قيادة خالد بن الوليد، فوضع خالد خطة القتال، ونظَّم جندَ المسلمين بإزاء الروم، وقيل إنه قسّم الجيش ميمنة وميسرة وقلباً، واتّبع أسلوباً جديداً في تعبئة الجيش هو طريقة الكتائب، وقسّم الجيش إلى كتائب مشاة وكتائب خيالة، فحوّل الجيش إلى ست وثلاثين كتيبة، وجعل أبا عبيدة وشرحبيل بن حسنة قائدين لكتائب القلب، وعمرو بن العاص على كتائب الميمنة، ويزيد بن أبي سفيان على كتائب الميسرة، وبقي خالد في الوسط، وحشد الرماة على الجانبين، واضعاً النساء خلف الجيش، ودامت المعارك ستة أيام، وكانت خطة المسلمين فصل مشاة الروم عن خيَّالتهم لإبقاء المشاة تحت سيطرة المهاجمين المسلمين، وتقهقر الروم شمالاً باتجاه المخاضة في وادي الرقاد (رافد نهر اليرموك) على المنحدر الشرقي منه، فتناولهم رماة المسلمين قتلاً وأسراً.

انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للروم، وبنصر باهر للمسلمين، وكانت أكبر كارثة حلَّت بالإمبراطورية البيزنطية، انهار على إِثْرِها الحكمُ البيزنطي في بلاد الشام، وغادر هرقل أنطاكية وهو يقول: «وداعاً يا سوريا وداعَ مَن لا يعود إليكِ».

فتح بيت المقدس

بقيت بيت المقدس من آخر المعاقل التي تحصَّن الروم وراء أسوارها، وتم فتحها في خلافة عمر بن الخطاب، وفي إمارة أبي عبيدة بن الجراح على الشام. وقد كان أبو عبيدة قد فرغ من فتح شمال الشام، ثم عاد إلى فلسطين، وكان عمرو بن العاص يحاصر القدس، حيث صارت جيباً معزولاً محاصراً فوق الجبال، فلما وصل أبو عبيدة طلب أهل القدس أن يصالحهم على مثل صُلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتوليَ لعقد الصلح عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب برغبة أهل بيت المقدس، فلبَّى عمر وحضر إلى الشام، فتمَّ فتح القدس في شهر ربيع الأول سنة 16 ه.

طاعون عمواس ووفاته

روى الطبري بإسناده: لما اشتعل الوجع (الطاعون) قام أبو عبيدة في الناس خطيباً فقال: «أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيّكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يَقسم له منه حظَّه»، فأصابه الطاعون فمات.

قبره وضريحه

ضريح أبي عبيدة بن الجراح في بلدة دير علا في منطقة الأغوار الوسطى شمال غرب الأردن، ويوجد حاليّاً «مزار أبي عبيدة» في «غور البلاونة» على الطريق العام الذي يقطع غور الأردن من الشمال إلى الجنوب، وعلى بعد أربعين كيلومتراً من مدينة السلط. وكان الظاهر بيبرس قد بنى على قبر أبي عبيدة مَشهداً، وأوقف عليه وقفاً، ريعه للمؤذّن والإمام.

إعداد: نادر نايف محمد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض