OLYMPUS DIGITAL CAMERA

الصقر القائد.. عبدالرحمن الداخل «رحمه الله»

القادة العظام في تاريخ الإسلام الجزء (9)

مؤسس الدولة الأموية في الأندلس وباني نهضتها، سليل ملوك بني أمية، القائد الفذ، الملك المقاتل، الأمير الفارس، المقدام الحذر، الطموح الماجد، السائس الداهية، الشجاع الحازم، القوي الصارم، الحليم المنتصر، العاقل الخبير، الباني المحنك، الأديب البليغ، لقب بصقر قريش وعبدالرحمن الداخل وعبدالرحمن الأول، كنيته أبو المطرَّف، واسمه عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الأموي القرشي “رحمه الله ورحم الله قادة المسلمين الأبطال”.

كان رحمه الله أميراً عظيماً من أمراء المؤمنين، وبطلاً حازماً من أبطال المسلمين، وقائداً طموحاً من قادة الأمويين، وهذه إطلالة على أهم ملامح قيادته رحمه الله:

1. لقائد الصقر الهمام:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً ذا همة عالية وعزيمة نافذة وسياسة حسنة وإرادة صلبة، فقد أقام ملكاً وحده، وحكم الأندلس قرابة (33) سنة، وحكم من جاء بعده من أبنائه وأحفاده من بني أمية قرابة (272) سنة، حتى لقبه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بصقر قريش، فيروى أن أبا جعفر المنصور قال يوماً لبعض جلسائه: «أخبروني: من صقر قريش من الملوك؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين الذي راضَ الملوك، وسكَّن الزلازل، وأباد الأعداء، وحسم الأدواء! قال: ما قلتم شيئاً! قالوا: فمعاوية؟ قال: لا! قالوا: فعبدالملك بن مروان؟ قال: ما قلتم شيئاً! قالوا: يا أمير المؤمنين! فمن هو؟ قال: صقر قريش عبدالرحمن بن معاوية، الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلداً أعجمياً، منفرداً بنفسه؛ فَمَصَّرَ الأمصار، وَجَنَّدَ الأجناد، وَدَوَّنَ الدواوين، وأقام ملكاً عظيماً بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة شكيمته – أي عزمه وقوته – إنّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذلّلا له صعبه؛ وعبدالملك ببيعة أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين بطلب عترته، واجتماع شيعته، وعبدالرحمن منفردٌ بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحبٌ لعزمه، وطّد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين! فقال الجميع: صدقت، والله، يا أمير المؤمنين!» (البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب: 2/59-60).

2. القائد الحازم المهاب:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً حازماً صارماً شجاعاً، فقد ثارت عليه خلال حكمه للأندلس قرابة خمسة وعشرين ثورة، فأخمدها كلها، حتى وصفه الحافظ بن مُفَرِّج الأموي بقوله: «كان الأمير عبدالرحمن بن معاوية، راجح العقل، راسخ العلم، ثابت الفهم، كثير الحزم، فذَّ العزم، بريئاً من العجز، مستخفاً للثِّقل، سريع النهضة، متّصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد بإبرامها برأيه.

وعلى ذلك فكان شجاعاً، مقداماً، بعيد الغُور، شديد الحذر، قليل الطّمأنينة، بليغاً، مفوَّهاً، شاعراً محسناً، سمحاً، سخياً، طلق اللسان، فاضل البنان، يلبس البياض، ويعتمُّ به ويؤثره. وكان أعطي هيبةً من وليِّه وعدوِّه لم يُعطَها واحد من الملوك في زمانه»، وقال غيره: «وألفى الأمير عبدالرحمن الأندلس ثغراً من أنأى الثغور القاصية، غُفْلاً من سمَة الملك، عاطلاً من حِلْية الإمامة، فأرهب أهله بالطاعة السلطانية، وحرَّكهم بالسِّيرة الملوكية، ورفعهم بالآداب الوسطية، فألبسهم عمّا قريب المودّة، وأقامهم على الطريقة، وبدأ يدوّن الدواوين، وأقام القوانين، ورفع الأواوين، وفرض الأعطية، وأنفذ الأقضية، وعقد الألوية، وجنّد الأجناد، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عُدَّته» (الإحاطة في أخبار غرناطة: 3/468).

3. القائد الباني المحنك:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً بانياً محنكاً، فقد بنى بلاد الأندلس ووضع لبنات نهضتها الحضارية الإسلامية العربية، فبنى قصراً جميلاً حسناً في أول أيام حكمه بشمال قرطبة، ليتخذه مكاناً لإمارته وسكنه وتنزهه أكثر وقته، وسماه منية الرصافة، تشبهاً برصافة الشام التي بناها جده هشام بن عبدالملك، وأحاط القصر بالحدائق الزاهرة التي جلب لها الغروس وغرائب الفردوس والزروع وكرائم الشجر والنوى والحبوب الغريبة من الشام وغيرها من الأقطار، فأثمرت الفواكه العربية في أرض الأندلس وانتشرت كالتمور والرمان المعروف بالرمان السفري، والتي لم تكن معروفة من قبل في الأندلس، حتى أصبحت رصافة الأندلس معلماً حسناً وجناناً جميلة، وفي عام (150ه) هـ بنى سوراً لتحصين مدينة قرطبة استمر العمل فيه لعدة أعوام، والذي عرف بسور قرطبة الكبير، وفي عام (170ه) بنى المسجد الجامع في قرطبة، المتقن في صنعته وحسن معماره والمبني على طراز المسجد الأموي بدمشق، والذي بلغت تكاليف بنائه (80) ألف دينار وقيل (100) ألف دينار، وتوالى خلفاء بني أمية في الأندلس بعد الأمير عبدالرحمن الداخل على الزيادة في المسجد إلى أن كمل الجامع على يد نحو ثمانية من الخلفاء، حتى أصبح الجامع بعد (300) سنة معلماً للجمال والحسن والبهاء والعظمة، فجدار محرابه أجري الذهب فيه على الفسيفساء وبلغت أعمدته (1293) عموداً رخاماً، وثرياته (280) ثرية، وكؤوسه (7425) كأساً، وأبوابه (21) باباً، وعدد من يخدم فيه (159) شخصاً، وبني منبره في (7) سنين، واحتوى على (4) برك للوضوء، كما أنشأ داراً لسك العملة والتي اعتبرت الأولى من نوعها في الأندلس، تضرب فيها النقود بحسب ما كانت تضرب في دمشق في عهد بني أمية وزناً ونقشاً، كما عمل على تأسيس جيش الأندلس وتنظيمه، بتخصيص ميزانيات خاصة له من ميزانية الدولة، وتقسيمه إلى ثلاثة أقسام ما بين فرسان ومشاة ومهندسين، وتأسيس أسطول بحري للدفاع عن الأندلس من غزوات الأعداء، وإنشاء مصانع لصنع الأسلحة من سيوف ومجانيق.

4. القائد الشاعر اللبيب:

من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً أديباً، شاعراً لبيباً، ذا حس مرهف، وشاعرية بليغة، وقريحة عذبة، فمما يروى من شعره حين حنّ لوطنه واشتاق لمسقط رأسه الشام، أنشد قائلاً:

أيهـــــــا الـــــــرَّاكِب المــيمـــــم أرضي أقـــر مـــــــن بعضي السلام لبَعضي

إن جسمي كما علمتَ بأرض وفـــــؤادي ومــــــــالــــــكـــــــــيــــــــــــه بـــــــأرْضِ

قُـــــــــدِّرَ البـين بيننــــــــــــا فافترقنـــــا وطوى البين عن جفوني غمضي

قد قضى الله بالفراق علينا فعسى بـــاجتماعنا سوف يقضي

ينظر: (جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، ص: 9).

ويروى أنه أول نُزُوله منية الرصافة بقرطبة واتخاذه لها، نظر إلى نخلة مفردة فهاجت شجنه وتذكر بلد المشرق فقال بديهاً:

تبــدَّت لــــــنــــــــا وســــــــــط الرصافـــــــــــة نخلةٌ تناءت بأرض الغرب عن بلد النخلِ

فقلــــــــــــت: شـــــــــبيهي في التغـــــــرب والنوى وطــــــــول التنـــــــائي عن بني وعن أهلي

نشـــــــأتِ بــــــأرْض أنـــت فيهـــــــا غـــــــــــــريبةٌ فمثـلُك في الإقــــصــــــــــاء والمنتأى مثلي

سقتك غوادي المزن من صوبها الذي يســــــــــــــحُّ ويستمري السماكين بالوَبــــــــلِ

ويروى أنه قال أيضاً عن النخل:

يا نخـــــــلُ أنتِ غريبةٌ مثــــــــلي في الغـــــربِ نــــائيةٌ عــــن الأصلِ

فأبكي، وهل تَبْكي مُكَبَّسةٌ عجمــــــــــاءُ لــم تُطبعْ على خَبْلِ

لو أنَّهــــــــا تبـــكي، إذاً لبـــــكـــــتْ مــــــــــاءَ الفُـــــراتِ ومنْبِـتَ النَّخلِ

لكِنَّهـــــــــا ذَهَلَـــــــــــــــــــتْ وأذهلــــــــــني بغضي بني العبَّاس عن أهلي

ويروى أن بعض قرابته من قريش جحد فضله فكتب إلى الإمام عبدالرحمن يعاتبه ويسأله الزيادة له والتوسعة عليه في الجزاء والأعطية، فرد عليهم قائلاً:

شتان من قامَ ذا امتعاضٍ منتضي الشفـــرتين نصلا

فجــــــــــــــاب قفراً، وشق بحراً مُسَـــــــــاميــــــاً لجـــــــــةً ومَحْلا

فشــــــاد مجــــــداً وبَــــــــز مُلكاً ومنـــــــــبراً للخطـــــــــــــاب فصلا

وجَنَّـــــــــــد الجنــــدَ حين أوْدى ومصَّر المصــــرَ حين أخلى

ثــــــــــمَّ دعــــا أهلــــــــــــه جميعاً حَيْثُ انتأوْا أَنْ: هَلُمَّ أهلا

فجــــــــــــــاء هـــــــذا طــــــريدَ جوعٍ شريــــــــــــدَ سيــــــــــفٍ أباد قتلا

فنــــــــــال أمناً، ونــــــــــال شِبعاً وحــــــازَ مـــــــالاً، وضم شملا

ألم يكـــــــــــن حــــقُّ ذا على ذا أعظـــــمَ مــن منعمٍ ومولى؟

ويروى أنه أتاه في بعض غزواته آت ممن كان يعرف كلفه بالصيد، يعلمه عن غرانيق واقعة في جانب من عسكره ويحضه على اصطيادها، فأنشد قائلاً:

دَعْنِي وصيد وقعِ الغــــــرانــــــقِ فـــــــإن هـــــــــمي في اصطيـــــــــاد المارقِ

في نفقٍ إن كانَ أو في حـــــــالقِ إذا التظـت لوافـــــــــــــحُ الضــــــــــــوائقِ

كانَ لِفَاعي ظلَّ بندٍ خــــــــــــافقِ غَنِيتُ عن روضٍ وقصرٍ شاهقِ

بالقفرِ والإيــــــــــــــطانِ بالسرادقِ فقــــــــــــل لمــــــن نَـــــــام على النمــــــــــــارق

إن العلا شُـــــــــدَّتْ بهـــمِّ طارقِ فأركـــــــبْ إليهــــــــا ثَبَــــــــج المضــــــــــائق

أَو لا فأنت أرذل الخلائقِ

ينظر لكل ما سبق من الأبيات: (الحلة السيراء لابن الأبار البلنسي: 1/ 37-42).

وختاماً: رحم الله الملك الحقيقي والقائد البطل عبدالرحمن الداخل، الذي أسس لحضارة المسلمين في الأندلس، وأقام مجداً عظيماً نفع به الإسلام والمسلمين وأعزهما بين الأمم، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي – كبير باحثين بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بإمارة دبي

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض