في أعقاب الصعوبات التي واجهت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى لتعبئة اقتصادها للحرب، أنشأ الكونجرس الأمريكي الكلية الصناعية العسكرية (مدرسة أيزنهاور للأمن القومي واستراتيجية الموارد حالياً)، والتي بدأت فعلياً في عام 1924، بغية تعبئة القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية لأي حرب مقبلة، وبالفعل أثبتت هذه الكلية فاعليتها خلال الحرب العالمية الثانية في تعبئة الاقتصاد الأمريكي للحرب، إلا أنه بعد نحو قرن من إنشاء هذه المدرسة، يبدو أن الولايات المتحدة بحاجة ملحة لاستعادة دروس هذه المدرسة في التعبئة الصناعية لصراعات القوى العظمى.
وقد كشفت الحرب الروسية – الأوكرانية عن كثير من أوجه القصور المتعلقة بالقدرة الصناعية الدفاعية للولايات المتحدة الأمريكية، وقد ذهبت بعض التحليلات إلى الاعتماد على استراتيجية «الإنتاج في الوقت المحدد» «Just-in-Time» لتفسير هذه المحدودية، وعدم اندفاع واشنطن نحو إعادة ملء مستودعاتها، بعدما عمدت إلى إرسال كميات كبيرة من الأسلحة لأوكرانيا. وهو ما يثير جملة من التساؤلات المتعلقة بماهية استراتيجية «الانتاج في الوقت المحدد»، ومدى انعكاساتها الفعلية على القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية، ناهيك عن حدود الجاهزية لهذه القاعدة.
الإنتاج في الوقت المحدد
تشير استراتيجية «الإنتاج في الوقت المحدد» Just-in-Time (JIT) إلى فلسفة جديدة في إدارة وأداء الشركات، تستهدف بالأساس تحقيق كفاءة استخدام الموارد، وتخفيض تكلفة العديد من الوظائف الخاصة بالتوريد والتخزين والإنتاج، بخلاف الطريقة التقليدية للإنتاج، والتي تعتمد على جمع كميات كبيرة من المواد من قبل الموردين، وإعادة تحويل هذه المواد إلى منتجات نهائية، يتم الدفع بها إلى الأسواق، ولكن من دون معرفة حقيقية لاحتياجات السوق وعملائه.
وكانت شركة «تويوتا» اليابانية هي التي ابتكرت استخدام هذه الاستراتيجية لتتلاءم مع «التصنيع الهزيل Lean Manufacturing» وخطوط الإنتاج كبيرة الحجم، من خلال إرسال الأجزاء الفرعية والمواد الأولية إلى موقع المصنع، حيث تكون هناك حاجة فورية لها، ولا تحتاج هذه الأجزاء إلى أي تعديلات إضافية عقب وصولها للمصنع، بل تكون جاهزة لدمجها في المنتج النهائي.
وبناء عليه، ترتكز هذه الاستراتيجية على فكرة «إنتاج كل جزء من أجزاء المنتج في إحدى محطات التشغيل على خط الإنتاج في نفس الوقت الذي تحتاج فيه المحطة التالية وتكون مستعدة لاستلامه، حيث يكون طلب العميل هو نقطة الانطلاق لكافة العمليات على خط الإنتاج، بشكل متسق ومنضبط بين مراكز ومحطات التشغيل، بما يضمن تدفق المنتجات بشكل يناسب طلب العميل، مع تحقيق انخفاض كبير في مستوى المخزون».
وهناك جملة من المحددات الرئيسية التي تعتمد عليها هذه الاستراتيجية، تتمثل أبرزها في تقليص سلسلة الموردين، بما يعزز من مستوى الثقة، وتحقيق أدنى مستوى من التخزين للمواد خلال مراحل الإنتاج، مع ضرورة توافر نوعية خاصة من العمالة التي تتسم بالمهارات المتعددة، فضلاً عن تقليص وقت التصنيع وحجم دفعات الإنتاج، وكذا الاعتماد على الصيانة الوقائية. وبالتالي، تساعد استراتيجية «الإنتاج في الوقت المحدد» في توفير كثير من التكاليف، سواء من خلال الاعتماد على مساحة تخزين أقل للأجزاء التي سيتم استخدامها في الإنتاج، أو الاعتماد على عدد أقل من العمال لإدارة هذه الأجزاء ونقلها، بالإضافة إلى تقليص حجم الأجزاء المهدرة أو التي ربما تحتاج إلى صيانة.
مأزق القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية
لعبت الصناعة الدفاعية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية دوراً محورياً في دعم الجهود الحربية لدول الحلفاء، حيث أطلق الرئيس الأمريكي السابق «فرانكلين روزفيلت» على هذا الدور اسم «الترسانة من أجل الديمقراطية»، وقد استغرق الأمر أكثر من خمس سنوات لواشنطن من أجل الوصول إلى القاعدة الصناعية الدفاعية ذات الاستعداد الكامل للمجهود الحربي، بيد أن الوصول لهذا المستوى بات الآن يشكل تحدياً كبيراً بالنسبة للولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، أخبر وزير الدفاع الأمريكي «لويد أوستن»، في مارس 2023، لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، أن البنتاغون يسعى لضخ استثمارات ضخمة بقيمة تتجاوز الـ 30 مليار دولار من أجل توسيع القاعدة الصناعية الدفاعية للولايات المتحدة.
ولطالما أثارت المخزونات غير الكافية من الأسلحة الأمريكية الدقيقة مخاوف البنتاغون والكونغرس الأمريكي، حتى قبل اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، بيد أن المعطيات الراهنة زادت من حدة هذه المخاوف لدى صناع السياسات الأمريكية، ورغم أن قانون «تفويض الدفاع الوطني الأمريكي لعام 2023» يسمح بإمكانية زيادة اقتناء ذخائر جديدة، غير أن الوصول إلى العدد المستهدف ربما يستغرق سنوات في ظل معدلات الإنتاج الحالية، وهو ما دفع كثيراً من التحليلات إلى إعادة طرح فكرة زيادة مستويات الإنتاج كمخرج لهذه الإشكالية، بل إن هناك مساعٍ لدى وزارة الدفاع الأمريكية لاتخاذ خطوات تدعم هذا الأمر.
لكن، تصطدم هذه التوجهات بمعضلة أخرى، تتعلق بالأساس بمحدودية قدرة القاعدة الصناعية الدفاعية للولايات المتحدة، لا سيما في ظل نقص حجم الاستثمارات خلال السنوات الماضية، ما يجعل محاولة زيادة مستويات الإنتاج وإعادة ملء المخزونات غاية في الصعوبة، ناهيك عن عدم كفايتها لتلبية طلبات الحلفاء في الإطار الزمني المطلوب.
وربما يدعم هذا الطرح التقرير الصادر عن «الرابطة الصناعية للدفاع الوطني» الأمريكية National Defense Industrial Association (NDIA)، في إصداره الأخير لعام 2023، والذي كشف عن وجود فجوة كبيرة بين تطلعات استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي والحالة الراهنة للقاعدة الصناعية الدفاعية لواشنطن، والتي تتقلص بشكل مطرد وتواجه معدلات تقادم متزايدة، ومن ثم باتت أقل قدرة على زيادة الإنتاج.
وقد لفت التقرير إلى أن مرونة القاعدة الصناعية الدفاعية قد تم التضحية بها بدايةً من تسعينات القرن الماضي، وهو ما تمخض عنه خسارة نقاط القوة التي ميزت هذه القاعدة سابقاً، كالميزانيات المستقرة، والقوة العاملة الماهرة، والبنية التحتية المتنوعة والحديثة، والابتكار المستمر في مجال التصنيع، فضلاً عن القدرة الكافية لهذه القاعدة، وحل مكانها استراتيجية «في الوقت المحدد»، التي لم تقدم سوى قليل من العمق والقدرة على إعادة التشكيل في حالة نشوب أي صراع غير متوقع، وهو ما يتعارض مع استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية الحالية، والتي تنص على أن الولايات المتحدة يجب أن تكون قادرة على ردع الصين أو الفوز في أي صراع طويل الأمد حال فشل هذا الردع.
وهناك جملة من العوامل الأخرى التي تؤثر في قدرة الولايات المتحدة على زيادة إنتاجها العسكري المطلوب لحرب كبرى طويلة الأمد، لعل أبرزها التقلص الملحوظ في عدد العمال المهرة الذين يعملون في الصناعات الدفاعية، حيث تضاءل هذا العدد إلى 1.1 مليون مقارنة بحوالي ثلاثة ملايين في عام 1985. والأمر ذاته يتعلق بالشركات العاملة في هذه الصناعات، والتي خسرت أكثر من 17 ألف شركة خلال السنوات الخمس الأخيرة فقط، كما تقدر وزارة الدفاع الأمريكية أن عدد الشركات الصغيرة التي تعمل لصالحها قد تقلص بنسبة 40% خلال آخر عشر سنوات، رغم تزايد الحزم التحفيزية المصممة لجذب هذه الشركات والاحتفاظ بها. كذا تناقصت حصة الإنفاق الدفاعي من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 3.2% مقارنة بـ 5.8% في عام 1985، ويُتوقع مزيداً من الانخفاض لهذه الحصة، لتصل إلى حوالي 2.7% في عام 2036. يضاف لذلك انخفاض القوى الشرائية وتأخر عمليات التحديث الضرورية، فضلاً عن الافتقار للاستثمارات الكافية في البنية التحتية والقدرات، والاعتماد المفرط على مصدر واحد في التوريد.
وثمة إشكالية أخرى تتعلق بعدم اتساق طلبات البنتاغون بين فترات السلم والحرب، فعلى سبيل المثال توقف إنتاج منظومة «هيمارس» خلال الفترة 2013 – 2017، بسبب توقف العمليات القتالية في أفغانستان والعراق، كما انخفض إنتاج «جافلين» من 1300 عام 2009 إلى 400 فقط في عام 2013.
كذا، تواجه القاعدة الصناعية الدفاعية للولايات المتحدة تحدياً آخر يتعلق بأن كثيراً من الأجزاء وقطع الذخائر والسفن والطائرات يتم تصنيعها بالخارج، بما في ذلك الصين، فهناك كثير من مكونات محركات الصواريخ الصلبة، وأغلفة القذائف، والعناصر الأولية للوقود والمتفجرات، وكذا الصمامات والأدوات الآلية يتم تصنيعها في الصين.
بالتالي، لا تبدو فكرة زيادة الإنتاج مهمة سهلة، لا سيما وأن بعض خطوط الإنتاج قد وصلت بالفعل إلى طاقتها القصوى، ما يعني أن زيادة الانتاج في هذه الحالة يتطلب بناء مرافق جديدة وتوظيف مزيد من العمالة المهرة.
التصنيع الهزيل والإنتاج الدفاعي الأمريكي
ذهبت بعض التحليلات الغربية إلى أن اعتماد وزارة الدفاع الأمريكية على استراتيجية «الإنتاج في الوقت المحدد» يمثل أحد أبرز القيود التي تحد من قدرة الولايات المتحدة على زيادة إنتاجها الدفاعي، باعتبار أن الحفاظ على مخزون كافٍ من الأجزاء الفائضة يمكن أن يعزز من قدرة الشركات على توسيع إنتاجها. بيد أن ثمة اتجاه آخر يرى بأن هذه الانتقادات تعكس درجة من التبسيط المُخل في فهم حجم التكاليف الباهظة التي تحتاجها الشركات للحفاظ على مستودع مليء بكميات كبيرة من المدخلات المطلوبة لزيادة الإنتاج.
وفي هذا الإطار، أشار تقرير صادر عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأمريكي (CSIS) إلى أن القاعدة الصناعية الدفاعية تستند إلى بنية حوافز تفضل الاعتماد على الإنتاج الأقل تكلفة على حساب القدرة الإنتاجية، ورغم أن هيكل هذه الحوافز مصممة بالأساس لضمان التخصيص الأمثل لأموال دافعي الضرائب، بيد أنها أدت إلى تقليل قدرة القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية على تحقيق زيادة الإنتاج.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك خمس شركات كبرى، هي: «بوينغ»، و»لوكهيد مارتن»، و»جنرال دايناميكس»، و»رايثيون»، و»نورثروب جرومان»، تمثل أكبر المقاولين متعددي الجنسيات، الذين يتولون تنفيذ غالبية عقود الدفاع للولايات المتحدة، مقارنةً بحوالي 51 شركة رئيسية في فترة التسعينات. وتعد وزارة الدفاع الأمريكية هي العميل الوحيد فنياً لهذه الشركات، وأي تدفق لمبيعات خارجية لهذه الشركات لا بد أن تكون من خلال الحكومة الفيدرالية الأمريكية. وقد شكلت الشركات حوالي 114 مليار دولار أمريكي، بالإضافة لـ 122.2 مليار دولار لبقية مقاولي الدفاع الكبار، ونحو 7.9 مليار دولار للمقاولين المتوسطين، وذلك من إجمالي الإنفاق العسكري للولايات المتحدة في عام 2021، والذي يقدر بـ 711 مليار دولار. وقد اعتمد مقاولو الدفاع الخمسة السابقون على فكرة «التصنيع الهزيل» Lean Manufacturing، والتي تنبثق عن استراتيجية «التسليم في الوقت المحدد»، من أجل تقليص التكاليف في الإنتاج كثيف رأس المال، غير أن هناك الكثير من التحليلات التي تجادل بأن هذه الاستراتيجية لا تتناسب مع الصناعة الدفاعية، كونها تجعل من الصعب جداً التفكير في أي محاولة لزيادة الإنتاج، خاصةً في ظل سيطرة عدد قليل من الشركات على سلاسل التوريد، مما يؤدي إلى تقليص الخيارات حال فشل أحد الموردين في تسليم أي جزء، ويزداد الأمر تعقيداً في حالة الترابط بين مقاولي الدفاع الخمسة الكبار بالنسبة للبنتاغون.
أوكرانيا وإرهاق القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية
على الرغم من أن معضلة تراجع قدرة القاعدة الصناعية الدفاعية للولايات المتحدة لا تُعد قضيةً مستحدثة، بيد أن الحرب الأوكرانية كشفت حدود المشكلة بشكلٍ حاد، بسبب استنزاف كثير من مخزونات الذخيرة الأمريكية، والضغط الذي فرضه ذلك على القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية، لا سيما في ظل تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين في تايوان.
فقد عززت الحرب الروسية – الأوكرانية من أهمية الحفاظ على مخزونات عميقة من الأسلحة، ما يدحض أي خطط عملياتية مستقبلية تفترض أن الحرب ستكون قصيرة الأجل، فقد ألمح كبير مسؤولي المشتريات في البنتاغون، ويليام لابلانت، إلى حاجة وزارة الدفاع الأمريكية المُلحة إلى إيلاء مزيد من الاهتمام لفكرة زيادة مستويات الإنتاج الدفاعي، وهو ما يتسق مع التقارير التي تشير إلى انخفاض ملحوظ في المخزونات الأمريكية، بسبب الكميات الهائلة من الأسلحة التي أرسلتها الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا، حيث تشير هذه التقارير إلى أن مخزونات واشنطن من مدفع «هاوتزر»، طراز M777 عيار 150 ملم، وأنظمة «جافلين» المضادة للدبابات، و«ستينجر» المضادة للطائرات، وكذا الرادارات المضادة للمدفعية باتت تعاني نقصاً كبيراً، كما أضحت مخزونات نظام الدفاع الساحلي «هاربون» متوسطة، وهي مهمة للغاية بالنسبة للولايات المتحدة لدعم تايوان. وفي تقرير نشره مركز «الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأمريكي، حذر من أن الحرب المقبلة التي ربما تخوضها الولايات المتحدة لن تتمتع فيها واشنطن بميزة القدرات الواضحة على خصومها، بالتالي ستحتاج الولايات المتحدة إلى خوض حرب طويلة الأمد ضد خصم أكثر قدرة، وهو ما سيجعلها في حاجة ملحة للاعتماد على قاعدتها الصناعية الدفاعية، وقد لفت التقرير إلى أن الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، اعتماداً على مخزونات الولايات المتحدة، دفع كثيراً من الساسة في واشنطن إلى الدعوة لإعادة إحياء «الترسانة من أجل الديمقراطية»، بغية إعادة ملء المخازن الفارغة، والدفع نحو إشراك قطاع التصنيع في عملية زيادة الإنتاج على المدى الطويل، لكن لا يزال هذا الأمر بحاجة إلى خطة تشغيلية شاملة.
ورغم أن الحرب الأوكرانية أعطت دفعة مالية قوية بالنسبة لمقاولي الدفاع في واشنطن، والذين يتطلعون أكثر نحو عقود طويلة الأجل، بيد أن هذه التطلعات تصطدم بتخوفات متزايدة من احتمالية انخفاض الطلب، ما قد يشكل مُثبطاً بالنسبة لأي توجهات تستهدف بناء مرافق جديدة وتوسيع القدرات الإنتاجية.
وعلى المنوال ذاته، أشارت بعض التقديرات إلى أن الحرب الأوكرانية كشفت بوضوح عن حاجة الولايات المتحدة لسياسة صناعية جديدة لقاعدتها الصناعية الدفاعية، خاصةً وأن واشنطن تحتاج لتوفير الامدادات لحلفائها حال اندلاع صراع كبير بالتزامن مع الحرب الأوكرانية الحالية، وهو ما سيشكل معضلة كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة، بل إن قدرة الأخيرة للدفاع عن نفسها ستكون معرضة للخطر في هذه الحالة، خاصةً في ظل الحديث عن احتمالية اندلاع مواجهات مباشرة بين الصين والولايات المتحدة حول تايوان خلال السنوات المقبلة، وهو ما يثير قلقاً متزايداً لدى الولايات المتحدة بشأن قدرتها على خوض حرب بهذا الشكل.
محورية تنويع سلاسل التوريد
تشكل قيود سلاسل التوريد إشكالية جوهرية أمام أي محاولة لزيادة الإنتاج، بل قد تكون زيادة الإنتاج في ظل هذه القيود مستحيلة، فبالنسبة لبعض المقاولين من الباطن، ربما يشكل إنتاجهم الدفاعي جزءاً صغيراً فقط من إجمالي إنتاجهم، وقد لا يكون هؤلاء مستعدين للتضحية بعلاقاتهم مع العملاء الآخرين الأكثر ربحيةً مقابل زيادة نسبة إنتاجهم المرسل إلى مقاولي الدفاع، لذا ثمة حاجة ملحة لتوسيع سلاسل التوريد للإنتاج الدفاعي، فالاستثمار في زيادة حجم المعروض من مدخلات التصنيع يشكل محدداً جوهرياً في نجاح زيادة الإنتاج.
كذا، يحتاج البنتاغون إلى وضع رؤية شاملة لسلاسل التوريد المختلفة، بما يعزز من التنبؤ بالمكان الذي يمكن أن تظهر به أي إشكاليات مستقبلية، على غرار تحركات البنتاغون في سبتمبر الماضي لوقف تسليم طائرة مقاتلة من طراز F-35 لشركة «لوكهيد مارتن» لمدة شهر، بعدما تم اكتشاف أن بعض المواد الموجود بمحرك هذه الطائرة، والتي تصنعها شركة «هانيويل» الصينية، غير مرخصة.
وتحتاج وزارة الدفاع الأمريكية أيضاً إلى التنسيق الفعال مع مقاولي الدفاع بشأن مستقبل حجم الإنتاج الدفاعي، بحيث لا تتأثر هذه الشركات بزيادة الإنتاج المطلوبة حالياً للحرب الأوكرانية ثم تنهار وتيرة الإنتاج عندما تنتهي الحرب، لتجنب تكرار سيناريو الحرب ضد تنظيم داعش الإرهابي، عندما استثمرت وزارة الدفاع الأمريكية لإنتاج حوالي 10 آلاف هيلفاير سنوياً، قبل أن تعلن لاحقاً وبشكل مفاجئ عدم حاجتها له.
وقد طرحت بعض التقديرات فكرة الإنتاج المشترك، كأحد الحلول المقترحة لمواجهة القيود الحالية المتعلقة بزيادة الإنتاج الدفاعي للولايات المتحدة، حيث تنطوي هذه الفكرة على تدريب الشركات ومقاولي الدفاع في الدول الحليفة لواشنطن على إنتاج أنظمة الأسلحة أو مكوناتها، ما قد يوفر سلاسل توريد إضافية وموثوقة، وتعزيز القدرات المشتركة لإنتاج هذه العناصر، فضلاً عن إمكانية إنشاء مخزونات من الأسلحة قريبة من مسرح العمليات، بيد أن هناك تحديات قائمة ربما تحد من فرص نجاح هذا الطرح، أبرزها القيود المفروضة على تبادل المعلومات والتكنولوجيا العسكرية. وفي الختام، تتطلب إعادة ملء مخزونات الأسلحة الأمريكية في إطار زمني معقول، أو حتى الاستعداد لزيادة هذا المخزون، ضخ استثمارات واسعة لتحقيق قدرة إضافية تسمح بزيادة مستويات الإنتاج، لكن يجب في البداية التحقق من قدرة المرافق والمصانع الحالية، وما إذا كان لديها القدرة اللازمة التي تمكنها من توسيع الإنتاج الداخلي، وتتطلب زيادة القدرة الانتاجية داخل المنشآت القائمة زيادةً في مدخلات الإنتاج المختلفة، بما في ذلك حجم العمالة الماهرة.
» عدنان موسى
مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة