585 Web Analysis A1

المدفعية ومستقبلها في الحروب الحديثة

تحتل المدفعية مكانة بارزة بين أسلحة القوات البرية، وأهميتها في تزايد مستمر، نظراً لما تكلف به في معركة الأسلحة المشتركة الحديثة. ولكي تحافظ المدفعية على مكانتها في هذه المعركة، يلزم لها أن تطور أجهزة الاستطلاع، واكتشاف الأهداف، وتحديد مواقعها بدقة، في عمق أرض المعركة، إلى جانب زيادة قوة النيران، بما يعنيه هذا المفهوم من تحسين التأثير التدميري للذخيرة ضد الأهداف المتوقعة وزيادة المدى وتقصير زمن الفعل. بالإضافة إلى ما سبق، فإن زيادة خفة الحركة وتوفير الأعداد المناسبة من الوحدات للاشتباك مع أكثر من هدف في وقت واحد يعتبر عنصراً مهماً لزيادة فاعليتها في المعركة الحديثة.

قبل التطرق إلى أنواع المدافع وتشعباتها، لا بد من التذكير بالدور المهم للمدفعية خلال المعارك الحديثة. فقد أدرك العسكريون أهمية أسلحة المدفعية من خلال حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية (1967-1970)، وكذلك حرب العام 1973، ثم حرب الاستنزاف على الجبهة السورية عام 1974، لذلك يعتبرون سلاح المدفعية الحصان الرابح. وطرأت مؤخراً تطورات على سلاح المدفعية، فُطعمت بكميات من المدافع المحمولة ذاتية الحركة، كما قامت المصانع الحربية المصرية بتركيب مدفع من عيار 120 و130 ملم الروسية الصنع على شاشات الدبابات. ومن التطورات البارزة على صعيد المدفعية تزويدها بطائرات مسيرة تمكنها من تحديد مواقع العدو بدقة، أو بأنظمة GPS لتوجيه ضربات المدفعية في العمق أو في المدى غير المنظور.


أنواع المدفعية
ترمز كلمة مدفعية إلى مجموعة متنوعة من الأسلحة ذات العيارات الكبيرة، والتي تطلق قذائف متفجرة أو صواريخ، في العصر الحديث تدل المدفعية على القاذف Howitzer والمدفع Cannon والهاون Mortar والمدفعية الصاروخية Rocket Arillery، وتميز أنواع المدفعية مساراتها الباليستية، فمدافع دعم المشاة ومدافع السفن Naval Guns هي أسلحة لمهمات الدعم الناري المباشر وترمي باعتماد زوايا حادة أو صغيرة Low – angle، فيما مدافع الهاون تتميز بالرمي شبه العمودي، وتعتمد زوايا صغيرة وكبيرة على حد سواء لضرب الأهداف في الوديان والأماكن الثانوية خلف القمم والتلال. وبشكل عام تشتمل المدفعية على الأنواع الآتية:
1- مدفعية الميدان: هي الأسلحة المتحركة المخصصة لدعم الجيوش في الميدان، ويمكن تصنيفها ضمن عدة فئات أيضاً، مثل مدفعية الدعم المباشر للمشاة، والمدفعية الجبلية التي تكون عادة خفيفة الوزن ويمكن نقلها في الأراضي ذات الطبيعية القاسية، ثم القاذف الذي يرمي بزوايا عالية، يليه الهاون الذي يطلق قذائفه بزوايا تفوق 45 درجة.
2- المدفعية ذاتية الحركة: تشمل المدافع Guns والهاونات Mortars والقاذفات Howitzers التي تركب جميعها على عربات أو مجنزرات مدرعة.
3- المدفعية البحرية: تشمل المدافع بعيدة المدى Cannons والمركبة على السفن الحربية، لضرب السفن المعادية، أو أهداف برية بعيدة.
4- المدفعية الساحلية: وهي أسلحة ثابتة مخصصة للدفاع عن الشواطئ والمرافئ البحرية، وتكون عادة مدافع من العيار الثقيل وبعيدة المدى، لكن استعمالاتها في هذه الأيام أصبح مقتصراً على الدول ذات القدرات الدفاعية المحدودة.
5- المدفعية المضادة للطائرات: وهي أسلحة أرضية سريعة الدوران على قواعد ثابتة ومخصصة للتصدي للطائرات الحربية المعادية.
إلا أن جميع هذه الفئات من المدافع، تتطلب حشوات دافعة لإطلاق المقذوف في فوهاتها وإيصاله إلى هدفه، وانطلاقاً من هذه الميزات الباليستية نجد المدافع ضمن المواصفات الآتية:
– مدافع مع حجرة النار: وهي تستخدم ضغط قوة الاحتراق داخل السبطانة لدفع المقذوف خارجاً وإيصاله إلى الهدف المطلوب.
– مدافع عديمة الارتداد: حيث يتسرب قسم من قوة انفجار الحشوة الدافعة من منافذ صغيرة نحو الخلف، ما يؤدي إلى توازن قوة الدفع مع الضغط الخلفي، وبالتالي عدم تراجع السلاح.
– مدافع ذات الدفع الصاروخي: تعتمد على مجنحات القذيفة لإعطائها الدفع الأولي.
– مدافع ذات مساعدة صاروخية: وهي مزيج من الدفع، عادي في بدايته ثم صاروخي من خلال محرك صغير يشتغل في الجو لزيادة مدى القذيفة حوالي 30 %.
– مدافع لقذائف بحشوات متكاملة: وهي تستعمل قذائف مجهزة مع حشواتها الدافعة ضمن ظروف معدنية.
المدفعية الصاروخية
إن تطور آلة الحرب بشكل عام لم يمنع المفكرين العسكريين من السعي إلى مضاعفة القوة النارية وإشباع حقل المعركة بالمزيد منها، فكانت الأفكار الأولى لابتكار تعدد الفوهات القاذفة وصولاً إلى راجمات الصواريخ التي تعتمدها اليوم معظم الجيوش في العالم. استعمال المدافع يقضي باعتماد رمايات عدة سبطانات مجتمعة على مستوى سرية أي ما يعادل ستة مدافع، أو على مستوى كتيبة كاملة بما مجموعه 18مدفعاً، وذلك لتكثيف غزارة النيران، لكن ابتكار الراجمات متعددة الفوهات، جاء للاستعاضة عن تعدد المدافع، وبدأ عصر المدفعية الصاروخية التي لها مفعول قذائف المدفعية ويصل مداها إلى 40 فوهة في كل راجمة. وإذا كانت نسبة الإصابة برشقة مدفعية تعادل واحداً إلى عشرة أهداف، فإن الإصابة بصلية راجمة قد ارتفعت إلى واحد لكل ثلاثة أهداف، وبالتالي تقلص هامش الخطأ على حساب هامش الفعالية. تبقى الإشارة إلى أن استعمال المدافع أو الراجمات يرتبط بطبيعة الأهداف والتكتيك المعتمد، فالهدف النقطي تلزمه مدافع والهدف البقعي تلزمه راجمات أو فوهات عدة مدافع.
تعزيز القدرة التدميرية
تتنوع الذخائر التي تستخدمها المدفعية، وذلك لاختلاف طبيعة الأهداف التي تكلف بالاشتباك معها، وهذه الأهداف قد تكون أفراداً (في العراء أو في دشم أو في ملاجىء سريعة التجهيز…)، وقد تكون أهدافاً مدرعة (دبابات – عربات مدرعة..) ولكل نوع من هذه الأهداف خصائصه التي تختلف من هدف إلى هدف اختلافاً كبيراً.


إطالة المدى
توجد ثلاث طرق رئيسية لإطالة مدى ذخائر المدفعية. الطريقة الأولى تختص بإجراءات يتم عملها في المقذوف أو الرأس الحربي إذا جاز هذا التعبير، والطريقة الثانية تختص بالماسورة وهي تنحصر في زيادة طول المسار أو بمعنى آخر زيادة مشوار المقذوف داخل ماسورة المدفع، أما الطريقة الثالثة فتختص بالبالستيكا الداخلية مثل زيادة حجم غرفة الاحتراق او استخدام مواد قاذفة Propellant ذات كفاءة عالية.
والطرق التي تستخدم لإطالة المدى وتختص بالمقذوف هي:
• تحسين الشكل البالستي Aerodynamic optimization ، كما تم مع المقذوف M5A1، حيث تمت زيادة طول المقذوف بشكل كبير وصل إلى 43.5 بوصة بالمقارنة إلى طول المقذوف M107 وهو 27.5 بوصة، مما أدى إلى تحسين شكل المقدمة Ogive وبالتالي تحسين الشكل البالستي.
• استخدام الدفع الصاروخي كما في المقذوف الأمريكي M549، وتم زيادة المدى إلى 24 كلم بدلاً من 18 كلم وباستخدام الهاوتزر نفسه.
• استخدام المدفع في مرحلة ما بعد الاطلاق واستغلال الهواء الجوي كمؤكسد Ramjet ومن المتظر أن يصل المدى إلى 60 كلم باستخدام هذه الطريقة وذلك للمقذوف عيار 8 بوصات المستخدم مع المدفع ذاتي الحركة M110A2.
• استخدام العيار المصغر، كما حدث مع المقذوف عيار 175ملم (الكندي) والذي زاد مداه إلى 40 كلم بدلاً من 32.7 كلم.
• إطالة المدى باستخدام إطالة ماسورة المدفع، فقد تم تطبيقه مع الهاوتزر عيار 155ملم .
أسس نجاح المدفعية
وهنا يبرز السؤال: ماهي أسس نجاح سلاح المدفعية؟
ترتكز مدفعية الميدان في معظم الجيوش على ثلاثة عناصر أساسية أهمها المراقب الأمامي FO الذي يعتبر العين الساهرة، ثم مركز إدارة الرمي FDC، ثم تأتي المدافع بحد ذاتها التي يتطلب إرباضها ونجاح رماياتها غير المباشرة والأسس الضرورية التي يمكن إيجازها بما يأتي:
1- قابلية الانتشار، في حقل المعركة من دون أية صعوبات، من شأنها التأثير في مهماتها التكتيكية والاستراتيجية.
2- الوفرة، أي توفر نيرانها فور إتمام عملية الإرباض، بما يؤكد الدعم المطلوب للقوات في الوقت المناسب والقوة المبتغاة.
3- الحضور أو التأثير المعنوي لتعزيز ثقة القوات الصديقة، وفي المقابل رسالة إلى العدو بغية ردعه وإسكات مدفعيته عند الحاجة.
4- القدرة، وتعني تمكن المدفعية من تنفيذ مهماتها في مختلف العوامل والظروف الجوية، وانطلاقاً من أية بقعة جغرافية ليلاً ونهاراً.
5- الاستمرارية، أي عملية تنسيق النيران، بحيث تفتح عند الضرورة ووفقاً لحجم الهدف بشكل مستمر ومنسجم مع مخطط النيران.
6- منطقة التأثير، أي المنطقة التي تستطيع أن تؤثر فيها نيران المدافع من خلال قذائفها، هذه المنطقة يجب أن تحدد جيداً في أوامر العمليات.
7- الاستجابة، وتقضي بقدرة المدفعية على التحول وفقاً للأفضليات المطلوبة، والتي قد تتغير خلال مسار القتال سرعة في الرمي أو في نوعية القذائف أو كمية منها.
8- التزامن، أي إمكان الاشتباك مع عدد كبير من الأهداف في وقت واحد وعلى مساحة واسعة ضمن فترة وجيزة.
9- نوع التأثير، إذ إن المدفعية تستطيع إحداث تأثيرات متنوعة من خلال مجموعة كبيرة من أنواع القذائف وفقاً لطبيعة الهدف.
10 المتانة، أي أنها نظام متين، يعول كثيراً على نيرانها في تدمير وإرهاق العدو.


خصائص مدفعية المستقبل
مما سبق يمكن أن نلخص خصائص مدفعية المستقبل فيما يلي:
• استخدام الذخائر الذكية سوف يمكِّن المدفعية من الاشتباك مع الأهداف المدرعة بكفاءة، وهنا يجب ألا نهمل دور الذخائر شديدة الانفجار، بل يجب أن نضاعف من كفاءتها، وذلك باستخدام التقنية المتيسرة لزيادة قدرتها على التشظي (عدد الشظايا وكتلتها) وزيادة مساحة التأثير باستخدام الصمام الاقترابي، إضافة إلى ذلك، فإن ذخائر الدخان والذخائر الضوئية يجب تطويرها وخصوصاً ضد وسائل الرؤية باستخدام الأشعة تحت الحمراء الحرارية وأشعة الليزر.
• ستصبح المدفعية قادرة على إطلاق ذخائر لها مدى يزيد على 40 كلم، وبذلك تستطيع الاشتباك مع قوات النسق الثاني ومناطق التجمع والمناطق الإدارية للعدو.
• استخدام المواد القاذفة، سواء الموحدة الشكل والحجم أو المادة القاذفة السائلة على زيادة معدل النيران والتعمير الآلي.
• طالما أصبح المدفع ذاتياً، سواء في الحركة أو في التعمير والتنشين، فإن الحاجة إلى وجود منطقة تشوين ذخيرة خلف المدفع ستصبح غير ضرورية، إذ إن المدفع سيصبح قادراً على حمل ذخيرته، مما يساعد على خفة حركته وانتقاله إلى مواقع أخرى للاشتباك.
• يجب تطوير نظام الإمداد بالذخيرة وتغليفها وطرق تداولها، بحيث يمكن تزويد المدفع بسهولة ويسر بالذخيرة في منطقة الانتظار أو منطقة الامداد.

» الدكتور معين أحمد محمود (باحث عسكري واستراتيجي)

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض