لأكثر من عقدين من الزمن، كان المفكرون الجيوستراتيجيون والمخططون العسكريون مفتونين بالتحدي المتزايد الذي تمثله استراتيجيات وقدرات منع الوصول وتحريم المناطق (A2 / AD) والقوة العسكرية الأمريكية. في قلب هذا النقاش توجد مجموعة من القدرات التي يمكن استخدامها لرفض أو تقييد دخول القوات المناوئة إلى منطقة عمليات معينة، وبالتالي تقليل قدرتها على المناورة وفعاليتها.
كانت نقطة البداية لتحدي مناطق التحريم A2 / AD، بعد فترة من الهيمنة العسكرية التي لا مثيل لها من قبل الولايات المتحدة، هي نشر قدرات الضربات الدقيقة لخصوم الولايات المتحدة.
بذلت الصين وروسيا، على وجه الخصوص، جهوداً كبيرة لتطوير ترسانات A2 / AD المتزايدة باستمرار، والتي تعد أساسية لجهودهما لإنشاء مناطق نفوذ معزولة عن النفوذ الأمريكي. من الأمور المركزية لهذه الجهود القدرة على تعطيل الجهود الأمريكية لحشد القوات في مسرح العمليات، في حالة الصراع. وهذا يتطلب القدرة على قطع أو مقاطعة الوصول إلى البنية التحتية الاستراتيجية – مثل القواعد والموانئ والمطارات – مع الحد من قدرة القوات الأمريكية على المناورة بحرية على مسافة قريبة. على الرغم من التركيز في البداية على المجال الجوي والبحري، فقد وسع خصوم الولايات المتحدة طموحاتهم بشكل متزايد من خلال تطوير شبكات معارك A2 / AD التي تسعى إلى قطع مجموعة كاملة من العمليات، بما في ذلك المجال البري والجوي والبحري والفضائي والمجال السيبراني، وكذلك البيئة الكهرومغناطيسية.
لقد فسر البعض القدرة المتزايدة للصين – وإلى حد ما روسيا – على تطوير شبكات A2 / AD المتداخلة على أنها تمثل نهاية العصر الذهبي لإسقاط القوة الأمريكية. في ضوء هذه التطورات، جادل البعض بأن الصين تحقق تقدماً مطرداً لإبعاد الولايات المتحدة عن مسارح غرب المحيط الهادئ وشرق آسيا. الحجة هي أنه من خلال نشر شبكة متفرقة من الصواريخ المتوسطة والطويلة المدى، وأجهزة الاستشعار الدقيقة، والفضاء، والأنظمة الجوية والبحرية، وقدرات المواجهة بعيدة المدى، فإن الصين قادرة على تقييد وصول الولايات المتحدة إلى الممرات المائية الاستراتيجية، وتحويلها بشكل فعال إلى البحيرة الصينية.
محدودية الجدل حول A2 / AD
كان لتحدي A2 / AD تأثير قوي على المؤسسة العسكرية الأمريكية، مما أدى إلى تخصيص موارد هائلة لتطوير القدرات والمفاهيم التي من شأنها أن تسمح للولايات المتحدة باختراق مظلة A2 / AD الصينية. في هذه العملية، تحولت A2 / AD إلى كلمة طنانة شاملة أصبحت تصف مجموعة واسعة من القدرات والاستراتيجيات، ما أفقدها بعض أغراضها الاستراتيجية.
وهكذا، جادل رئيس العمليات البحرية الأمريكية الأسبق، الأدميرال جون ريتشاردسون، بأن مناطق A2 / AD تخدم غرضاً محدوداً فقط ككلمة طنانة عامة، لكنها تفتقر إلى الدقة والتعريف: بالنسبة للبعض، فإن A2AD هي كلمة مشفرة، تشير إلى»منطقة منع اختراق» لا يمكن للقوى (المناوئة) الدخول إليها دون أن يحيق خطر شديد بها. بالنسبة للآخرين، تشير A2AD إلى مجموعة من التقنيات. للبعض الآخر المتبقي، استراتيجية. باختصار، A2AD هو مصطلح يتم تداوله بحرية، بدون تعريف دقيق، يرسل مجموعة متنوعة من الإشارات الغامضة أو المتضاربة، اعتماداً على السياق الذي يتم إرساله أو استقباله فيه.
بشكل أكثر تحديداً، سلط ريتشاردسون الضوء على المشكلات الثلاث التالية مع A2 / AD:
• تمثل المسارح المختلفة تحديات مختلفة، لذا فإن اعتماد نهج «مقاس واحد يناسب الجميع» في A2 / AD ليس مفيداً. بدلاً من ذلك، هناك حاجة إلى تصميم استراتيجيات وقدرات بعناية وبما يتناسب مع المسرح القتالي والسياق المحددين، ومجموعة محددة من قدرات وتقنيات الخصوم.
• مناطق A2 / AD في حد ذاتها ليست مفهوماً «جديداً». كانت الاستراتيجية العسكرية في كل عصر تدور حول حرمان خصمك من الوصول إلى الأراضي الاستراتيجية وتقييد حركته.
• يعتبر «منع الوصول» في حد ذاته مصطلحاً ومفهوماً مضللاً ، حيث يشير إلى أن هذا هدف استراتيجي يمكن تحقيقه، بينما في الواقع من المرجح أن يظل طموحاً.
ركز نقاد آخرون على حقيقة أن مناطق A2 / AD بحد ذاتها لا تغير ميزان القوة العسكري – وأن روسيا والصين في الوقت الحالي لا تزالان في وضع غير مواتٍ بشكل واضح مقارنة بالولايات المتحدة. في حين أنه من غير الواقعي لخصوم الولايات المتحدة استخدام مناطق A2 / AD لتشكيل تحد عسكري مباشر للقوات الأمريكية، إلا أنها تسمح لهم باستغلال ميزة زمنية للاستيلاء على هدف وتسهيل إحراز نتيجة سياسية. باستخدام الميزة الزمنية ETA كنقطة بداية، سعى التحليل الأخير إلى تحويل التركيز بعيداً عن مناطق A2 / AD التي تهدف إلى إنشاء «فقاعات حمراء غاضبة»، إلى أربع عمليات متميزة تسعى إلى تشكيل الميزة الزمنية:
1 تدهور المعلومات وتعطيل الأوامر (ID/CD) والذي يسعى إلى تزويد خصوم الولايات المتحدة بميزة معرفية من خلال مهاجمة الأنظمة الأمريكية في الفضاء والإنترنت والطيف الكهرومغناطيسي.
2 التنافس على الوصول إلى المسرح والمناورة (CTAM) والذي يسعى إلى تقييد أو تأخير وصول الولايات المتحدة إلى المناطق المتنازع عليها من خلال زيادة المخاطر المرتبطة بها، وغالباً ما تستخدم تقنية غير مكلفة ومنخفضة مستوى التقنية.
3 تدهور الاستدامة واللوجستيات والتنقل (DSLAM) ويهدف إلى قطع أو تقليص شبكات الإمداد واللوجستيات المعقدة التي تعتبر ضرورية لعمليات الولايات المتحدة.
4 الإجراءات الاستراتيجية للردع والإجبار والإنهاء والتي يمكن أن تنطوي على مجموعة واسعة من القدرات، من الهجمات على الأصول التجارية إلى تهديد الأسلحة النووية من أجل ردع التصعيد وإنهاء المواجهة المحتملة لصالح الخصم. تقترح إعادة الخروج بتصور وصياغة جديدة لمناطق A2 / AD على طول هذه المجالات التركيز على القدرات والمفاهيم المختلفة أكثر من التصور الأولي الثابت لـ A2 / AD الذي يركز على «تحريم المنطقة».
ضرب مناطق A2 / AD عن بعد
طور المحللون العسكريون مجموعة واسعة من الأساليب التي تسعى للتعامل مع تحدي A2 / AD غير المتبلور. أحد الأمثلة المبكرة على ذلك هو المفهوم العملياتي التمكيني «من الخارج إلى الداخل»، والذي يعتمد على قوى مشتتة على مسافة لخرق وتقويض قدرات مناطق A2 / AD المعادية قبل إعادة الولايات المتحدة إنشاء قدرة على المناورة داخل المسرح واستعادة تفوقها في المسرح.
تعتمد هذه العملية على ثلاثة خطوط عمليات متميزة للتعامل مع مناطق A2 /AD:
المرحلة الأولى: تطوير مفهوم العمليات التمكينية التي تدور حول تشتيت القوات الأمريكية والأنظمة العسكرية الموجودة خارج نطاق التهديدات المضادة لوصول العدو العسكري. وهذا يتطلب أيضاً تطوير شراكات محلية / إقليمية رئيسية، وتطوير مفاهيم لوجستية، وتهيئة الظروف التي من شأنها أن تسمح بنشر القوات الأمريكية لمواجهة التحديات المحتملة.
المرحلة الثانية: تتطور من هذا المفهوم حول العمل عن بعد من أجل إضعاف وتقليل فعالية أي أنظمة لمناطق A2 / AD، وتقويض قدرات استخبارات ومراقبة واستطلاع ISR للخصوم، وإحداث ثغرات متتالية في العمليات الهجومية والدفاعية للخصوم.
المرحلة الثالثة: تركز على إعادة فرض التفوق الجوي والبحري والبري المحلي في جيوب، من أجل تمكين انتشار القوة وبدء العمليات في مسرح العمليات. ويدور هذا النهج التدريجي بشكل كبير حول رسم مشهد مكاني، وليس زمني، لمناطق A2 / AD.
ينصب التركيز على مركزة القوات مسبقاً بشكل استراتيجي، لتطوير مدى وتأثير أكبر من الخصم، ونشر فقاعات محمية يمكن من خلالها الاستعداد لعمليات كبيرة. يشير هذا إلى تطوير ونشر مزيج محدد من القدرات، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى والقاذفات، وحاملات الطائرات، والطائرات بدون طيار بعيدة المدى، والذخائر الدقيقة والمؤثرة التي تُرمى عن بعد، والقدرات السيبرانية، والدفاعات الصاروخية إلى جانب قدرات أخرى لحماية القوات. وفي حين أن هذا النهج قد يكون فعالاً في مسارح معينة، مثل مضيق هرمز، أو لأهداف محدودة وخصوم أقل تطورًا، إلا أنه من غير الواضح أنه يوفر استراتيجية فائزة في منافسة مع خصوم أكثر تطوراً يسعون إلى تحقيق أهداف محددة وواضحة المعالم.
يشير منتقدو مفاهيم هكذا نهج «من الخارج إلى الداخل» إلى أنهم يعولون إلى حد كبير على احتفاظ الولايات المتحدة بتفوقها على الأنظمة القديمة التي طالما استولى عليها خصوم متطورون مثل الصين وروسيا، بما في ذلك أنظمة مثل المقاتلات الخفية والصواريخ الدقيقة، وأنهم يقللون من شأن العنصر الزمني وتركيز الأنظمة التي تعتبر أساسية للاستخدامات الجديدة والأكثر تعقيداً لمناطق A2 / AD.
حرب الفسيفساء: حرب مناورات القرن الحادي والعشرين
استجابة للتحديات، توصلت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA) إلى مجموعة من مفاهيم الحرب التي تركز على اتخاذ القرار، مثل العمليات متعددة المجالات والحرب الفسيفسائية. تركز هذه المفاهيم على تمكين الجيش الأمريكي من إجراء مناورات متعددة المجالات ضد الأعداء الذين يمتلكون قدرات الضرب الدقيقة. تبدأ حرب الفسيفساء من فرضية أن التكوين الحالي للقوات الأمريكية التي تعتمد على وحدات وأنظمة كبيرة مأهولة متعددة المهام مثل السفن والطائرات يمكن التنبؤ بها وبطيئة، مما يمكّن الأعداء من توقع تصرفات الولايات المتحدة. كما أنها توفر هدفاً مثالياً لأنظمة مناطق التحريم A2 / AD المتطورة التي تنشرها من قبل روسيا والصين.
لمواجهة ذلك، تجادل DARPA بأن على الولايات المتحدة تطوير شكل من أشكال الحرب التي تركز على القرار والتي تفصل بعض هذه المنصات الكبيرة وتعتمد بدلاً من ذلك على وحدات أصغر بكثير. هذه الوحدات الأصغر متصلة مع بعضها بشبكة ومرنة ويمكن تكوينها وإعادة تشكيلها بسرعة لتتولى أدواراً وخصائص مختلفة. أثناء اندماجها في نظام أكبر، تعمل الوحدات بشكل مستقل، إلا أن القادة لن يكون لديهم وعي كامل ودقيق بالأوضاع القتالية والميدانية. يتم توزيع المهام بين العديد من المنصات المأهولة وغير المأهولة التي تتشاطر البيانات ووظائف المعالجة عبر شبكة متغيرة باستمرار تربك العدو وتشوشه. لتنفيذ هذا النوع من العمليات، تقترح حرب الفسيفساء تطوير أنواع مختلفة جداً من القدرات عن تلك المطلوبة لنهج كلاسيكي من الخارج إلى الداخل. على وجه الخصوص، تقترح حرب الفسيفساء نشر مجموعة من الأنظمة المستقلة التي يمكن نشرها بتشكيلات تشتمل على الإنسان والآلة التي تعتمد على أنظمة رخيصة وسريعة ومرنة يمكن توسيع نطاقها بسهولة. القدرات الأخرى التي تعطيها حرب الفسيفساء الأولوية هي الأنظمة المُدعَّمة بالذكاء الاصطناعي والتي تساعد على تمكين قيادة المهام. ومن خلال الاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتمكين اتخاذ القرارات المجزأة، تكون الوحدات أكثر استقلالية وأقل قابلية للاكتشاف.
بدلاً من التعامل مع مناطق التحريم A2 / AD عن بعد، ومن خلال التحسينات التدريجية للمنصات القديمة، تسعى حرب الفسيفساء إلى تقديم إجابات أكثر مرونة تعكس الطبيعة المتنوعة للتحدي. علاوة على ذلك، على عكس النهج من الخارج إلى الداخل، لا تركز الحرب الفسيفسائية على استنزاف وتدمير قوات العدو. بدلاً من ذلك، إنها تمثل شكلاً من أشكال حرب المناورة في القرن الحادي والعشرين التي تهدف إلى تفكيك عمليات العدو وتعطيلها، من أجل منعه من تحقيق أهدافه. يمكن أن تشتمل حرب الفسيفساء على قوات برية صغيرة مرنة لإنشاء رؤوس جسور في مسرح القتال، لفتح ثغرات في البنية التحتية لمناطق A2 / AD المعادية أو التعامل مع أنظمتها مباشرة. تؤكد حرب الفسيفساء أيضاً على العامل الزمني لـ A2 / AD وهي أقل تركيزاً على الاستيلاء على الأرض والسيطرة عليها. بينما يمثل النهجان وجهات نظر مختلفة حول كيفية مواجهة تحدي مناطق A2 / AD بشكل أفضل، إلا أنهما يقعان في سلسلة متصلة من الخيارات الممكنة. مع استمرار تغير طبيعة تحدي A2 / AD للقوات الأمريكية، يمكن توقع أن تستمر سلسلة الخيارات هذه في الاتساع أيضاً.
» الدكتور تيم ف. بيهر
) المدير المشارك لشركة ويستفاليا للاستشارات العالمية وخبير في المواضيع (التخصصية) في مركز لاهاي للدراسات الاستراتيجية (