يمكن تعريف الدعاية على أنها «المحاولة المتعمدة للتأثير في آراء الفئة المستهدفة من خلال نقل الأفكار والقيم، لإقناعهم بهدف محدد»، وهي تصمم بصورة واعية، من أجل مصلحة القائمين عليها ورؤسائهم، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر. والدعاية، وفقا لهذا التعريف، تختلف عن الإعلام الذي يسعى إلى نقل الحقائق بصورة موضوعية، وعن التعليم، الذي يطمح إلى تفتيح أذهان الطلبة. وهدف الإعلام هو عكس ذلك: إقناع الفرد أو الجماهير بوجهة نظر واحدة، وسد الطريق أمام أية خيارات غيرها.
على المدى القريب، قد تضع الدعاية الجمهور المستهدف منها في موجة حماس، إلا أنها تصبح أقل فعالية على المدى الأبعد، لأن هذا الجمهور لديه الوقت والفرصة للتشكيك في افتراضاتها ومسلماتها. وعلى حد ملاحظة بعض الخبراء، فإنه إذا كانت الدعاية عقلانية أكثر من اللازم فقد تتعرض لخطر أن تصبح مملة، واذا كانت عاطفية أو حادة أكثر من اللازم فقد تبدو سخيفة ومدعاة للسخرية. ولكي تنجح الدعاية وتسير على أكمل وجه، كما هو الحال في الأشكال الأخرى للتفاعل بين البشر، يجب أن توازن بين العقل والعاطفة.
وفي الدعاية، كل ما هو ناجح فهو مسموح به، وهي إما أن تكون ظاهرة وعلنية وإما خفية ومستترة، بيضاء أو سوداء، صادقة أو كاذبة، جادة أو ساخرة، عقلانية أو عاطفية. ومسؤولو الدعاية يقيِّمون الظروف والفئة الموجهة إليها الدعاية، ويستخدمون كل الأساليب التي يرون أنها الأنسب والأكثر فعالية. ودائماً ما تستخدم الدعاية أحدث أساليب الاتصال، ففي الحرب العالمية الأولى، استخدمت الصحافة، وفي الحرب العالمية الثانية استخدمت نشرات الأخبار في الإذاعة والسينما، وأما الحروب التي جاءت بعد عام 1945، فقد استخدم فيها التلفزيون. وفضلاًعن ذلك، فقد شهد القرن العشرون أيضاً ظهور وسائل الاتصال الجماهيرية الحديثة، حيث ظهرت إلى الوجود الوسائط الرئيسية للاتصالات الجماهيرية: الصحافة، والإذاعة، والفيلم السينمائي، والتلفزيون والإنترنت، فحققت ثورة الاتصالات بذلك قفزة فلكية، وكان امتزاج الحرب بوسائط الاتصال الجماهيرية هو ما أعطى الدعاية الحديثة للحرب أهميتها وتأثيرها.
إن العلاقة بين الدعاية والحرب قائمة منذ زمان بعيد، ولطالما شكلت الدعاية أداة هجوم ودفاع في الحرب، متساوية أحياناً، من حيث التأثير، مع أدوات القتل والتدمير، بل ربما تتجاوز أعتى وسائل التدمير، لكونها قد تنفذ إلى العقول التي تتحكم بكل شيء. وأثناء الحروب، تفرض الصراعات الساخنة قوانينها ونواميسها الخاصة على جميع الأطراف المتداخلة في النزاع، لكنها تثير، في الوقت نفسه، على المستوى الإعلامي، إشكاليات مهنية حساسة، بالغة الأهمية والتعقيد.
ومع بدء الحرب، تطلق حملات الترهيب والتضليل والتشويه للحقائق، والتلاعب المنظم بجميع مصادر المعلومات، ومن ثم، تصبح الدعاية جزءاً لا يتجزأ من الحرب. ويمكن القول إن المقصود بالدعاية الحربية هو «مجموعة الأنشطة التي تقوم بها القوات المسلحة في هذا الصدد على مستوى الدعاية الموجهة إلى القوات المعادية، قادة وجنوداً، وعلى مستوى القوات الصديقة نفسها، فيما يتعلق برفع الروح المعنوية، وتحصين هذه القوات ضد الدعاية الموجهة إليهم من قبل العدو».
الدعاية وفن الإقناع
الإقناع هو التأثير في المواقف، والمعتقدات، والنيات، والدوافع، ويهدف إلى تغيير موقف أو سلوك شخص (أو مجموعة) تجاه حدث معين، فكرة، شيء، أو أي شخص أو أشخاص آخرين، ويتم ذلك باستخدام كلمات مكتوبة أو منطوقة لنقل المعلومات، والمشاعر، أو بمزيج منهما. والإقناع هو أحد الأساليب المرافقة لغيرها مما يستخدم في مجال الحرب النفسية التي تسعى للتأثير على العواطف والمشاعر وعلى النواحي الوجدانية لدى المستهدف. ويمكن تعريف الإقناع وتحديد معناه كمصطلح بأنه «الجهد المنظم المدروس الذي يستخدم وسائل مختلفة للتأثير على آراء الآخرين وأفكارهم بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر في موضوع معين، وذلك من خلال المعرفة النفسية والاجتماعية لذلك الجمهور المستهدف». والإقناع يهدف إلى التأثير على العقل والفكر بهدف دفع الفرد أو الجمهور لتقبل وجهة نظر معينة، بينما تهدف الدعاية إلى التأثير بشكل مباشر على عواطف ومشاعر ذلك الجمهور.
والإقناع إما أن يكون مباشراً وإما غير مباشر. والإقناع المباشر يخاطب الفرد أو الجمهور بشكل تلقائي بدون مواربة أو مداراة مما يستثير في العادة دفاعات المتلقي، ويجعله يبدي تصلباً ومقاومة نفسية متزايدة، ينتج عنها في الغالب عدم قبول وجهة النظر المطروحة. أما الإقناع غير المباشر فيكون متوارياً ولكنه ذكي، يدفع المتلقي إلى استنتاج الأمور بنفسه، ومن ثم يعمد إلى اتخاذ القرارات بصدد الموضوع المطروح مما يشعره بالرضا والراحة النفسية. ويعتبر الإقناع ناجحاً إذا صدرت القرارات من الجهة المستهدفة بحيث تكون موازية لما يطرح من مواضيع، بمعنى أن تلك القرارات تسير مع وجهات النظر المراد تبنيها. وكذلك، فإن الإقناع إما أن يكون طوعياً، وإما قسريا،ً كما هو في عمليات غسيل الدماغ.
لقد نجحت الدعاية، بوصفها أحد أساليب الحرب النفسية، على أيدي المتخصصين في تطوير مجموعة خاصة بها من الأصول أو القواعد التي تستهدف الإقناع على أساس القول إن الدعاية هي في النهاية فن الإقناع، ويمكن تلخيص تلك القواعد أو الأصول في ثلاثة، هي: كسب مظهر الصدق لكسب ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه، ثم البساطة والتكرار للوصول إلى أذهان ومشاعر الناس بسرعة، والنفاذ إلى ذاكرتهم التي لن تتذكر إلا ما استوعبته بسهولة وبكثرة، ثم استخدام الرموز وضرب الأمثلة، فالذاكرة البشرية يسهل أن تختزن وأن تستدعي الصور ذات الدلالات المرتبطة بمخزون الذاكرة الموروث أو المكتسب. غير أن هذه الصياغة لأصول الدعاية أو قواعدها تفقد الكثير من موضوعيتها في التطبيق العملي، حيث تتجلى الفروق الدقيقة بين مظهر الصدق والصدق ذاته، أو بين البساطة والدهاء، أو بين الرموز المثيرة لغرائز العدوان، وتلك التي تستدعي نبيل المعاني أو رفيع القيم. وتتسم الدعاية أيضاً بأنها فن إقناع الآخرين بأن يسلكوا اتجاهاً أو سلوكاً معيناً تحت تأثير الأفكار الدعائية. واستخدام كلمة الإقناع هنا تستبعد أية محاولات للتأثير عن طريق القوة أو الجبر، ومن ثم فإن أي شخص يلجأ إلى أية وسيلة من وسائل القوة، كالتهديد، أو التخويف، أو الضغط الاجتماعي، أو ما شابه ذلك، لكي يدفع الناس إلى إتيان ما يتعارض مع حقيقة ما يريدون، هذه الوسيلة لا يمكن أن تندرج بحال في قائمة الدعاية.
بداية استخدام أسلوب «الدعاية»
يعود أصل كلمة «الدعاية» إلى حركة الإصلاح الديني في أوروبا، حيث وجدت الكنيسة الكاثوليكية نفسها في صراع من أجل الإبقاء على قبضتها وهيمنتها على الدول غير الكاثوليكية، وتوسيع دائرة نفوذها فيها، وقام البابا جريجوري الثالث عشر (حوالي 1572 – 1585) بتشكيل لجنة من الكرادلة، وكلفهم بمهمة نشر المذهب الكاثوليكي وتنظيم الشؤون الكنسية في البلاد غير الكاثوليكية. وفي عام 1622، جعل البابا جريجوري الخامس عشر هذه اللجنة دائمة على هيئة مجمع مقدس لنشر المسيحية وادارة البعثات التبشيرية في الخارج، وكانت تمول من حصيلة «ضريبة الخاتم» التي كانت تفرض على كل كاردينال يتم تعيينه. وهكذا، كان أول مجمع رسمي للدعاة عبارة عن هيئة مكلفة بتحسين عملية نشر مجموعة من المعتقدات الدينية، وأصبحت كلمة «الدعاية» تطلق على أية منظمة تؤسس لنشر مذهب ما، ثم أطلقت على المذهب نفسه الذي يجري نشره، وأطلقت أخيراً على الأساليب المتبعة في الدعوة والنشر.
الدعاية والحرب النفسية
الحرب في جوهرها تبادل منظم للعنف، ولكن الدعاية في جوهرها عملية اقناع، وبينما تهاجم الأولى الجسد، فإن الثانية تنقض على العقل، والأولى حسية، بينما الثانية نفسية. وفي زمن الحرب، تهاجم الدعاية والعمليات النفسية جزءاً من الجسد لا تستطيع الأسلحة الأخرى أن تصل إليه، حيث تحاولان رفع معنويات أحد الجانبين، ونسف إرادة القتال لدى الجانب الآخر. وترسم الدعاية في زمن الحرب خططها لإقناع الناس بأن يخوضوا القتال. والحرب النفسية، من الجانب الآخر، هي الدعاية المخططة لإقناع الطرف المقابل ألا يخوض القتال. وأسلحة العقل هذه، مثلها مثل الأسلحة التقليدية، أصبحت معقدة بشكل متزايد مع ما تحقق من أنواع التقدم في التقنية وعلم النفس. والدعاية تقوم على استخدام وسائل الإعلام الحديثة لنشر وترويج الأفكار والمعتقدات والأخبار بغرض التأثير في نفسية الأفراد وخلق اتجاهات معينة لديهم. والدعاية، كأحد أساليب الحرب النفسية، تأخذ أشكالاً متنوعة، طبقاً للأهداف ولنوع الأفراد والجماعات الموجهة إليهم. فهي تستهدف الاقتناع بالنصر وإقناع العدو بهزيمته، وتشكيكه بمبادئه ومعتقداته الوطنية والروحية، وبذر بذور الشك في نفوس أفراده في شرعية قضيتهم والإيمان بها.
استخدام الدعاية في أوقات الحرب
أثناء الحروب الأهلية في إنجلترا، كانت الدعاية تتم من خلال منشورات ورسائل إخبارية مطبوعة، توزع بصورة منتظمة، كأداة مساندة للعمليات الحربية، وكان جيش كرومويل معنياً بنشر المعتقدات الدينية والسياسية، بنفس قدر عنايته تقريباً بالنصر في ميدان القتال. وتزايد استخدام الدعاية بصفة مستمرة، وخاصة في أوقات الصراعات العقائدية، كحرب الاستقلال الأمريكية، والثورة الفرنسية. وعلى سبيل المثال، قامت الفصائل «الجيروندية» (كانت تلك الفصائل تابعة للحزب الجمهوري الحاكم في فرنسا، وسموا كذلك لأن قادة الحزب جاءوا من منطقة جيروند) أثناء الثورة الفرنسية بتوزيع منشورات بين صفوف الأعداء، تدعوهم إلى الهرب من الخدمة العسكرية، مقابل منحهم مكافآت.
وفي المائة عام التي تلت الحروب النابليونية، وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، لم تشهد أوروبا أية حروب ثورية، ولذلك لم تكن هناك حاجة إلى دعاية قوية ومكثفة على المستوى القومي إلا في حالات قليلة. وفي الفترة من عام 1914 إلى عام 1918، استخدم كلا الطرفين في الحرب العالمية الأولى الدعاية على نطاق واسع، كسلاح من أسلحة الحرب، الأمر الذي أدى إلى تحويل معناها إلى شيء سيىء وضار. وقد أثبتت هذه الحرب أنه لم يعد من الممكن تجاهل الرأي العام، كعامل جوهري وحاسم في رسم سياسة الحكومة، كما أدرك المسؤولون أن الروح المعنوية عامل مهم في الحرب.
وبدأت الدعاية تبرز في بريطانيا كأداة رئيسية للتحكم في الرأي العام، واستمرت هذه العملية في التصاعد إلى أن بلغت أوجها بإنشاء وزارة الإعلام في عام 1917، كما أنشئت إدارة مستقلة للدعاية المعادية. ومن خلال الرقابة المشددة والحملات الدعائية المنظمة بدقة، أمكن تسخير الصحافة والأفلام والمنشورات والملصقات، والتنسيق فيما بينها، بطريقة لم يسبق لها مثيل، لنشر الموضوعات الموافق عليها «رسمياً». وظل الإجماع الوطني في بريطانيا في زمن الحرب صامداً وقائماً، ويرجع الفضل في ذلك، إلى حد ما، إلى مهارة الحكومة في استخدام الدعاية والرقابة، إلا أنه بعد انتهاء الحرب، بدأ عدم الثقة في الظهور في أوساط المواطنين العاديين، الذين أدركوا أنه كان يجري التعتيم، عن عمد، على الأوضاع في جبهات القتال، خلف الشعارات الوطنية، ومن خلال «الدعاية عن وحشية العدو»، التي كانت تنقل صوراً ملفقة ومتكررة عن الفظائع التي كان يرتكبها. كما شعر المواطنون أنهم خدعوا لأن تضحياتهم لم تؤد إلى «الأرض الجديرة بالأبطال»، التي وعدوا بها. وأصبحت الدعاية مرتبطة بالأكاذيب، وتم إلغاء وزارة الإعلام، ونظرت الحكومة نفسها إلى الدعاية على أنها خطيرة، من الناحية السياسية، وغير مقبولة، من الناحية الأخلاقية في زمن السلم. وكانت الدعاية، على حد قول المسؤولين البريطانيين، في عشرينيات القرن الماضي: «هي كلمة طيبة ضلت طريقها»، وكانت كراهية الدعاية عميقة لدرجة أنه عندما حاولت الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية توعية المواطنين بشأن معسكرات الاعتقال النازية، نظر الكثيرون بعين الشك إلى تلك المعلومات باعتبارها «دعاية» ولم يصدقوها.
ووفرت الدعاية البريطانية في الحرب العالمية الأولى مصدراً خصباً للألمان للقيام بدعاية مضادة لمعاهدات السلام في فرساي، وقال هتلر في كتابه «كفاحي» Mein Kampf: في عام 1915، بدأ العدو دعايته بين صفوف جنودنا، وابتداء من عام 1916، أصبحت هذه الدعاية مكثفة أكثر فأكثر، وفي بداية عام 1918، تضخمت وتحولت إلى غيوم عاصفة، وبإمكاننا الآن أن نلمس آثار هذا الإغواء التدريجي، وقد تعلم جنودنا أن يفكروا بالطريقة التي أراد العدو لهم أن يفكروا بها”.
وادعى هتلر أن الجيش الألماني لم يهزم في ميادين القتال، وانما استسلم لتحطيم روحه المعنوية التي كانت تغذيها الدعاية البريطانية الماهرة، وبذلك قدم شرعية تاريخية لأسطورة “الطعنة من الخلف”. وبغض النظر عن الدور الحقيقي الذي لعبته الدعاية البريطانية، أو البلشفية، في انهيار ألمانيا، فإن الكثيرين كانوا يعتقدون أن تجربة بريطانيا في الدعاية في الفترة 1914- 1918 كانت ناجحة للغاية، وقدمت مثالاً حذت حذوه حكومات أخرى. وقد أشاد هتلر نفسه بالبريطانيين عندما كتب قائلاً: “لم تدرك ألمانيا أن الدعاية سلاح بالدرجة الأولى، بينما استخدمه البريطانيون بمهارة فائقة وتدبير بارع”. ولم يكن مستغرباً أن يكون من بين أول القرارات التي اتخذها هتلر عقب توليه السلطة في عام 1933 إنشاء وزارة للدعاية وتعيين جوبلز وزيرا لها. وكان الزعيم النازي يرى أن وظيفة الدعاية هي لفت أنظار الجماهير إلى حقائق وعمليات وضروريات معينة، وبذلك توضع أهميتها، للمرة الأولى، أمام أنظارهم، وبناء على ذلك، يجب أن تكون الدعاية بسيطة، وأن تركز على أقل عدد ممكن من النقاط، وأن تتكرر كثيراً، مع التأكيد على الجوانب العاطفية، كالحب والكراهية. وانتهى هتلر إلى رأي مفاده أن استمرارية الدعاية وتقديمها بالأسلوب نفسه على الدوام يمكن أن يؤديا إلى نتائج “تكاد تفوق فهمنا”.
وعلى عكس النازيين، كان البلاشفة يميزون بين الإثارة والدعاية. ففي روسيا السوفييتية، كانت الإثارة معنية بالتأثير على الجماهير، من خلال الأفكار والشعارات، بينما كانت الدعاية تستخدم في نشر الأيديولوجية الماركسية- اللينينية، ويعود هذا التمييز إلى رأى الخبير الروسي الذي كتب ما يلي في عام 1892: “رجل الدعاية يقدم الكثير من الأفكار لشخص واحد، أو لعدد قليل من الأشخاص، وأما المثير أو المهيج فيقدم فكرة واحدة أو عدداً قليلا من الأفكار، ولكنه يقدمها للجماهير كلها”. وعلى النقيض من ذلك، لم يعتبر النازيون الدعاية مجرد أداة للوصول إلى الموالين للحزب، بل وسيلة لإقناع جميع الألمان، وتلقينهم المبادئ والأفكار، وغرسها في أذهانهم.
الدعاية في فكر جوبلز
يقول جوزيف جوبلز (أشهر مثال لرجل الدعاية الألماني سيىء السمعة في عهد هتلر): «الدعاية كلمة متهمة ظلماً ومفترى عليها بشدة، وكثيراً ما يساء فهمها، ويستعملها الشخص العادي غير المتخصص للدلالة على شيء وضيع، بل وكريه، وهذه الكلمة دائماً ما تترك مذاقاً مراً». وقد قال جوبلز ذلك عندما كان يتحدث عقب تعيينه مباشرة وزيراً للإرشاد القومي والدعاية في أول حكومة شكلها هتلر في مارس عام 1933، وهو الدور الذي كان عليه أن يؤديه أكثر من غيره لتأكيد هذا “المذاق المر” واستمراره.
إلا أن جوبلز أضاف قائلاً: “وأنا لا أستطيع أن أقنع شخصاً واحداً بضرورة شيء ما، ما لم أعرف نفسية هذا الشخص، وما لم أفهم كيف أعزف على أوتار نفسه من أجل أن أفهمها”. ومن المفارقات أن جوبلز أخذ على عاتقه مهمة القيام بتخليص الدعاية من المفاهيم الخاطئة، كأن توصف بأنها “الأكاذيب”، أو “الخداع”، أو “غسيل المخ”، ذلك أن السبب في ارتباط الدعاية في أذهان الناس بالسلبيات يعود، إلى حد كبير، إلى الدعاية النازية. وكانت أنشطة وأعمال الدعاية الألمانية في عهد جوبلز أكثر تطوراً وتقدماً عما كانت عليه في الفترة 1914- 1918. ومن بين الأساليب التي استخدمها جوبلز إقامة محطات إذاعة وهمية “للطابور الخامس”، موحياً بأنها تذيع من داخل بريطانيا، والاستعانة ببريطانيين موالين للنازي لإذاعة دعاية من برلين، وقد ردت بريطانيا على ذلك بإقامة إذاعة “الدعاية السوداء”، وكان بعض العاملين فيها من اللاجئين اليهود والمنفيين الألمان المعادين للنازية.
دروس من الحرب العالمية الثانية
في الحرب العالمية الثانية، مثلما كان للنازيين وزارة للدعاية، كان لدى السوفييت لجنة للدعاية تابعة للحزب الشيوعي، وكان لدى البريطانيين وزارة للإعلام، كما كان في الولايات المتحدة الأمريكية مكتب للإعلام الحربي. وبعد عام 1945، وضعت الدروس المستفادة من استخدام الدعاية في الحرب العالمية الثانية، كجزء من “ثورة اتصالات” أكبر. وقام أساتذة العلوم السياسية وعلماء الاجتماع بوضع نظريات عن طبيعة البشر والمجتمع الحديث، في ضوء قيام المجتمع الذي تسوده النزعة الاستهلاكية، والأنظمة الشمولية والقمعية. وقد نظر إلى الأفراد على أنهم متشابهون، ومن السهل قيادتهم والتأثير عليهم، بينما النظرة التشاؤمية إلى المجتمع الكبير شددت على الشعور بالاغتراب في مكان العمل، وتراجع الدين والروابط الأسرية، والتدهور العام في القيم الأخلاقية، كما اعتبرت الجماهير عموماً لامبالية بالسياسة، وغير متحمسة لها، وإن كانت ميالة إلى التعصب العقائدي، ومعرضة للتلاعب بها، من خلال الاستمالة والتأثير. وبناء على ذلك، تغيرت النظرة إلى الدعاية، وأصبح ينظر إليها على أنها “وصفة سحرية”، أو “حقنة تحت الجلد”، تتغلغل إلى أفكار الجماهير، وتتحكم في آرائهم وسلوكهم.
وقد عارض بعض علماء الاجتماع هذه النظرة القاتمة، وقالوا إن الدعاية في داخل إطار المجتمع الكبير المنقسم إلى مجموعات صغيرة ليست سوى آلية لدغدغة الرأي العام، ووسيلة للضبط الاجتماعي. وقد قام عالم اجتماع فرنسي بتطوير هذا الرأي، وقال إن المجتمع التقني قد أثر في الناس وتحكم فيهم لدرجة أنهم يشعرون الآن “بالحاجة إلى الدعاية”. ووفقاً لهذا الرأي، فإن الدعاية أكثر ما تكون فعالة عندما ترسخ الأفكار والمعتقدات الموجودة أصلاً. وهكذا، حل نموذج أكثر تعقيداً محل فكرة “الحقنة تحت الجلد”، ويسلم هذا النموذج بتأثير وسائل الإعلام، إلا أنه يدرك، في الوقت نفسه، أن الأفراد يبحثون عن أشخاص من طبقتهم أو جنسهم ممن يقومون بتشكيل الآراء، وذلك لتثبيت أفكارهم واتجاهاتهم. ويتفق معظم الكتاب والباحثين اليوم على أن الدعاية تثبت بدلاً من أن تغير، وأنها أكثر ما تكون فعالية عندما تتمشى مع الآراء والمعتقدات القائمة لدى الأشخاص المستهدفين منها. وهذا التحول في الاهتمام يبرز عدداً من المفاهيم الخاطئة الشائعة عن الدعاية. ويعتقد الكثيرون أن الدعاية لا تعني أكثر من كونها فن الإقناع، ولا تهدف سوى إلى تغيير الأفكار والاتجاهات، إلا أن الدعاية أكثر من ذلك، معنية بترسيخ الاتجاهات والمعتقدات القائمة، وذلك بهدف تحسينها، أو التركيز عليها.
والمفهوم الخاطئ الآخر هو أن الدعاية لا تضم إلا أكاذيب. والواقع أن الدعاية تتعامل مع أنواع مختلفة من الحقيقة، تتراوح بين الكذب الصريح والحقيقة المنتزعة من سياقها، مروراً بأنصاف الحقائق. وأثناء الحروب والصراعات، كحرب تحرير الكويت، أعاد المسؤولون في بريطانيا إلى أذهان الشعب البريطاني ما حدث في دنكرك Dunkirk، أو الهجوم الجوي الخاطف والمفاجئ Blitz، أو روح حرب “فوكلاند”، وأكدوا له أنه يمكن خفض التضخم “بجرة قلم”، ووعدوه بعدم زيادة الضرائب “طالما ظلت هذه الحكومة في السلطة” وأن “الجنيه الذي في جيوبكم” لم ولن تخفض قيمته، وبدأ المسؤولون منذ عام 1997 في حث الناس على النظر إلى أنفسهم على أنهم يعيشون في “بريطانيا الهادئة”. فالدعاية أبعد ما تكون عن الورم الخبيث، بل هي جزء أساسي من العملية السياسية.
الدعاية والحروب المعاصرة
لم يحدث في تاريخ العالم كله أن حظيت الدعاية الحربية باهتمام الناس مثلما حدث خلال الحروب المعاصرة، وذلك بسبب تطور الإمكانات التقنية، حيث أصبح المدنيون يجدون أنفسهم أمام إعلام في الحرب، وكل طرف يستخدم أحدث ما وصل إليه العصر من الأدوات والوسائل التي مكنت المتلقي من أن يصبح مشاركاً في الأحداث، وليس مجرد متابع سلبي، فأصبح قادراً على الدخول إلى قاعات صنع القرار. ووجد الناس أنفسهم، ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة، في قلب المعارك، من خلال التلفزيون، والأقمار الاصطناعية، والشبكات الإذاعية، وشبكة الإنترنت. وعلى الرغم من أن الحروب النابوليونية وحرب الاستقلال الأمريكية كانتا نذيراً بوصول هذه الظاهرة، بسبب حجم ومستوى المشاركة الشعبية، فإن الحروب في القرن العشرين اختلفت بقدر ملحوظ عن الصراعات السابقة، ليس فقط في مدى اتساعها وإنما أيضاً في درجة تأثر المدنيين بها ومساهمتهم المباشرة في أحداث خطها الأول، وأصبحت الحرب شأناً يهم كل مواطن، ونضالاً من أجل البقاء القومي يتطلب تعبئة جميع موارد الدولة، العسكرية والاقتصادية والصناعية والبشرية والنفسية، بهدف تحقيق النصر، أو تجنب الهزيمة.
وجاءت فنون الحرب الحديثة بالمعارك لكي تكون أشد قرباً من حياة المواطنين العاديين منها في أي وقت مضى، خاصة مع احتمالات تعرض المدنيين للقصف بالقنابل، وأصبح كل من التجنيد الإجباري، والإنذار من الغارات الجوية، وتقنين وتحديد كميات الطعام المسموح بها من العوامل الحيوية المؤثرة. ووجد الرجال والنساء العاديون، الذين لم يكونوا ليتأثروا من قبل، إلى حد كبير، بالحروب التي يخوضها جنود محترفون في أراض بعيدة، وجدوا أنفسهم يتأثرون مباشرة بما يقع في الجبهة من أحداث. وبالتالي، أصبحت روحهم المعنوية، وإرادة القتال والمقاومة لديهم على الصعيد الجماعي الشامل، رصيداً عسكرياً وحربياً مهماً، إلى الدرجة التي جعلت من غير الممكن النظر ثانية إلى الحرب باعتبارها رياضة الملوك والنبلاء، بل إنها قد أصبحت، على حد قول كليمينصو (رئيس وزراء فرنسا مرتين في أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى) “أمراً أكثر خطراً من أن يترك للجنرالات”.
وفي الحرب التي قامت بشأن كوسوفو أدرك كلا الجانبين أهمية التلاعب بالأنباء لمصلحة كل منهما، وفضلاً عن ذلك، فإن أحدث ما ظهر في مجال الاتصالات وأكثره تقدماً، وهو الإنترنت، استغل في نشر الدعاية. وعندما قرر حلف شمال الأطلسي “ناتو” إعلان الحرب على الصرب، حرص على تبرير أسباب تلك الحرب بالتأكيد على «الأهداف الإنسانية» لحملة القصف الجوي التي شنها، وعلى دقة الأسلحة التي يستخدمها. وكثيراً ما كرر المتحدث الرسمي باسم الحلف، عبارة: «قضيتنا عادلة». كما استغل الزعيم الصربي، ميلوسيفيتش، وسائل الإعلام لأغراض الدعاية، وسمح لمراسلي هيئة الإذاعة البريطانية وشبكة CNN الإخبارية بالاستمرارية في نقل الأخبار من بلجراد، على أمل إحداث انقسام في الرأي العام في الغرب بإذاعة قصص عن مدنيين أبرياء قتلوا في الضربات الجوية لحلف الناتو. وحيث إن أكثر الدعاية فعالية وأشدها تأثيراً هي تلك التي يمكن التحقق منها وتأكيد صحتها، فقد وضع حلف الناتو في موقف دفاعي للرد على الهجوم أو الانتقادات في الحرب الدعائية عندما اضطر للاعتراف بصحة بعض الادعاءات الصربية عن وقوع ضحايا من جراء القصف الجوي. ولم يكن الصراع في كوسوفو سوى أحدث حرب تعززت فيها الأهمية المحورية للدعاية في الحرب، تلك الأهمية التي من المؤكد أن تتزايد في ظل عولمة الإعلام.
» لواء د. علي محمد علي رجب
(باحث عسكري وخبير استراتيجي(