قررت الحكومة البريطانية رفع سقف ترسانتها النووية لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في ختام المراجعة الاستراتيجية للأمن والدفاع والسياسة الخارجية التي نشرت في منتصف مارس 2021. وبموجب هذه المراجعة، فإنه سيتم زيادة السقف الأقصى لمخزون المملكة المتحدة من الرؤوس الحربية النووية من 180 إلى 260، بزيادة تبلغ حوالي 45 %، لتضع حداً لعملية نزع السلاح التدريجية التي جرى تنفيذها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثين عاماً.
وبررت بريطانيا هذا التغيير بما وصفته «مجموعة متزايدة من التهديدات التكنولوجية والعقائدية». ويضاف إلى ما سبق، فإن المملكة المتحدة لن تضع حداً علنياً لعدد الصواريخ الحاملة لرؤوس نووية، والتي تكون جاهزة للإطلاق في أي وقت، والذي كان قد تم تحديده في السابق عند حدود 120 رأساً حربياً، كما لن تقدم أي معلومات عن عدد الرؤوس الحربية والصواريخ التي تحملها غواصاتها، والتي تم تحديدها في السابق عند مستوى لا يزيد على 40 رأساً حربياً و8 صواريخ على التوالي. كما أن بريطانيا أعلنت أنها لن تكشف عن الظروف التي قد تضطرها إلى استخدام أسلحتها النووية في مؤشر على تبنيها لاستراتيجية «الغموض الاستراتيجي»، وذلك في خطوة تهدف إلى تعقيد حسابات الخصوم المحتملين، فيما يتعلق بإقدامهم على تهديد مصالح لندن أو أمنها القومي. وتهدف الدراسة الحالية إلى توضيح أبعاد هذا القرار ودلالاته.
أولاً: أبعاد المراجعة النووية
أرجع تقرير المراجعة البريطاني قراره بزيادة عدد الرؤوس النووية إلى العديد من الاعتبارات التي تتصل بتغير البيئة الأمنية الدولية، و»احتمال» نجاح جماعة إرهابية «في شن هجوم كيميائي أو بيولوجي أو إشعاعي أو نووي بحلول العام 2030، وكذلك أيضاً مواجهة «التهديد النشط» من روسيا و»التحدي المنهجي» من الصين، وكذلك التهديدات النابعة من كوريا الشمالية وإيران. هذا بالإضافة إلى اعتبارات أخرى تتمثل في الحفاظ على وضع بريطانيا كقوى عسكرية رئيسية في أعقاب انسحابها من الاتحاد الأوروبي. ويمكن تفصيل هذه الدوافع على النحو التالي:
1 -ردع التحدي الإرهابي: تشير وثيقة مراجعة الدفاع البريطانية إلى أن أحد التهديدات التي تواجه بريطانيا هو إمكانية بروز الإرهاب النووي أو الكيماوي أو البيولوجي المدعوم من الدولة، أي أن تقوم دولة مارقة تمتلك قدرات نووية أو كيماوية أو بيولوجية بنقل أسلحة نووية إلى تنظيمات إرهابية وتوجيهها لاستهداف بريطانيا، إذ إنه في هذه الحالة، فإن لندن سوف ترد ليس على التنظيم الإرهابي، ولكن على الدولة التي أمدت التنظيم الإرهابي بأسلحة الدمار الشامل.
وبالتالي فإن الردع لن يكون في مواجهة التنظيم الإرهابي، ولكن في مواجهة الدول التي تمده بمثل هذه الأسلحة. وعلى الرغم من تسليم الوثيقة بأن مثل هذا التهديد غير قائم حالياً، فإنها تعود لتؤكد أن الأسلحة النووية تبرز أهميتها كضمانة في مواجهة المستقبل المجهول.
2 -مواجهة التهديد الروسي والصيني: تتجه بريطانيا لزيادة أسلحتها من الرؤوس النووية لتواكب تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة وروسيا والصين، واتجاه هذه القوى إلى زيادة مخزوناتها من الأسلحة النووية.
وإذا كانت الولايات المتحدة دولة حليفة لبريطانيا، فإن روسيا والصين تثيران هواجس أمنية كبيرة للندن، خاصة مع إبداء الدولتين استعدادهما لتوظيف القوة المسلحة، سواء بشكل مباشر، على غرار احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، أو بشكل غير مباشر، عبر تبني تكتيكات المناطق الرمادية والميليشيات المسلحة في شرق أوكرانيا بالنسبة لموسكو، أو في بحر الصين الجنوبي، بالنسبة لبكين، وذلك لفرض أمر واقع جديد يضمن مصالح الدولتين، ويأتي على حساب مصالح الدول الغربية.
وكشف وزير الدفاع البريطاني، بن والاس، عن هاجس آخر يؤرق لندن، ويدفعها إلى زيادة مخزونها من الأسلحة النووية، وامتلاك القدرة على الردع الموثوق به، وهو الرد على التقدم في القدرات الروسية، لا سيما في مجال نظم الدفاع الصاروخية.
وبصورة أكثر تحديداً، فإن بريطانيا تبدي قلقاً من منظومة الدفاع الجوي الروسية «إس – 500»، والتي يتوقع لها أن يتم الكشف عنها في وقت لاحق من عام 2021، والتي تتمتع بالقدرة على اعتراض الصواريخ الباليستية والمجنحة، وربما الصواريخ الفرط صوتية، وإن كان من غير الواضح على وجه الدقة، القدرات الكاملة للصواريخ الباليستية «إس 500»، خاصة وأن بعض الخبراء العسكريين يؤكدون مبالغة موسكو في تصوير قدراتها في هذا المجال.
كما تشمل مخاوف الجيش البريطاني الأخرى في انهيار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وتطوير موسكو لصواريخ باليستية قصيرة المدى مثل (M729)، والتي تزعم واشنطن أنها تنتهك المعاهدة السابقة. وأشارت وثيقة دفاعية بريطانية أخرى إلى الأسلحة الفرط صوتية، و»رادار الإنذار المبكر وأنظمة الدفاع الجوي المتكاملة» باعتبارها تمثل تحدياً محتملاً لقدرة بريطانيا على شن العمليات العسكرية.
وبطبيعة الحال، فإن اعتبار لندن موسكو أحد التهديدات الأمنية لها، يكشف عن التزام بريطانيا بضمان الأمن الأوروبي، حتى بعد انسحاب لندن من الاتحاد الأوروبي. أما بالنسبة للصين، فقد أصبحت بريطانيا تنظر إلى بكين بقدر كبير من القلق، وهو ما وضح في حظر لندن شراء تقنيات الجيل الخامس من شركة هواوي الصينية.
3 -كبح التحدي الإيراني والكوري الشمالي: ترى وثيقة المراجعة البريطانية أن لجوء بعض الدول إلى عسكرة سياستها الخارجية، واتباع أساليب انتهازية، على غرار إيران وكوريا الشمالية من العوامل الرئيسية التي ساهمت في تدهور الأمن الإقليمي، وإضعاف النظام الدولي. وتتعاظم المخاطر النابعة من إيران بالنظر إلى اعتمادها على الجماعات المسلحة من دون الدول في خططها الرامية لتعزيز نفوذها وتقويض الاستقرار الإقليمي. كما باتت هذه الجماعات تستخدم نفس الأساليب التي تتبعها الدول، على غرار شن الهجمات السيبرانية والقيام بحملات للتضليل الإعلامي. وأوضحت الوثيقة أن بعض الدول (مثل إيران وغيرها) باتت تتعاون بشكل متزايد مع الميليشيات المسلحة لتحقيق أهدافها، بما في ذلك توظيفهم كوكلاء في النزاع، على نحو يمنح هذه الدولة القدرة على إنكار تورطها في الاعتداءات التي تقوم بها هذه الميليشيات، فضلاً عن طمس الخط الفاصل بين التهديدات النابعة من الدولة، وتلك النابعة من التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة.
ونصت الاستراتيجية بوضوح على أهمية الاستجابة للتهديدات الناشئة من جانب بعض الدول، مثل إيران وكوريا الشمالية لحيازة التكنولوجيات المتقدمة وذات الاستخدام المزدوج؛ وتعزيز جهود منع الانتشار النووي. ويبدو أن الوثيقة ترى في امتلاك لندن لعدد كافٍ من الأسلحة النووية أحد الأساليب الأساسية لتحقيق الردع في مواجهة الدولتين، خاصة وأن بريطانيا تعد شريكاً أساسياً في الجهود الرامية إلى حرمان إيران من امتلاك أسلحة نووية، من خلال المفاوضات الرامية إلى إعادتها إلى الاتفاق النووي ووضع ضوابط أكثر صرامة. كما أن لندن تظل أبرز قوى غير إقليمية تشارك في المفاوضات الرامية إلى نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية، وعلى فرض عقوبات عليها من أجل ضمان التزامها بنزع سلاحها النووي.
4 -تعزيز المكانة العسكرية البريطانية: تسعى بريطانيا إلى تأكيد وضعها كقوى دولية مؤثرة في أعقاب انسحابها من الاتحاد الأوروبي، وأن تظل رقماً صعباً، ليس فقط في معادلة الأمن الأوروبي، ولكن كذلك في معادلة الأمن الدولي، الأمر الذي يفرض على لندن تعزيز قدراتها العسكرية، خاصة في مجال الأسلحة النووية.
ثانياً: دلالات الخطوة البريطانية
تعكس الخطوة البريطانية عدداً من التحولات في التفكير الاستراتيجي البريطاني تجاه طبيعة التهديدات التي بات يتوجب على بريطانيا مواجهتها، كما أنها في الوقت ذاته تحمل عدداً من الانعكاسات السلبية، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1 -توسيع مجال استخدام السلاح النووي: كشفت وثيقة المراجعة البريطانية عن تغير طفيف في سياسة استخدام الأسلحة النووية، إذ أوضحت أن المملكة المتحدة لن تستخدم الأسلحة النووية ضد الدول غير النووية الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، والتي تمتثل لها بشكل كامل، غير أنها أوردت استثناء مهماً، وهي أنها تحتفظ بالحق في مراجعة هذا في ضوء التهديدات المستقبلية النابعة من الأسلحة الكيميائية أو البيولوجية، أو التكنولوجيات الناشئة.
ونظراً لأن روسيا، وبدرجة أقل، الصين، تعد من الدول التي تعمل على تطوير الأسلحة الجديدة المبتكرة، على غرار الصواريخ الفرط صوتية، فإن التهديد البريطاني يعد موجهاً بصورة أساسية إلى روسيا، وتحذيراً لها بأن أي محاولة لاستخدام أسلحة جديدة ضدها، تكسبها ميزة استراتيجية في مواجهة لندن، قد يدفع الأخيرة للتصعيد باستخدام الأسلحة النووية ضدها. ومن ثم يدفع موسكو، أو أي دولة أخرى، إلى مراجعة حساباتها قبل أن تفكر في شن أي هجوم ضدها.
2 -أولوية التهديد الروسي على الصيني: يلاحظ من وثيقة المراجعة أنها أعطت أولوية للتهديد الروسي على الصيني، وهو ما وضح من العبارات المستخدمة. ففيما يتعلق بالصين، أشارت الوثيقة إلى قلقها من سياسات الصين «الجازمة»، أما فيما يتعلق بروسيا، فقد اعتبرتها «أكبر تهديد مباشر للمملكة المتحدة»، وهو ما يعكس في جانب منه ميراث الخلافات التاريخية بين الجانبين، فضلاً عن وجود هواجس من التهديد الروسي لدول شرق أوروبا، ولعب موسكو دوراً فاعلاً من خلال حلف شمال الأطلسي في دعم هذه الدول في مواجهة روسيا. وعلى الرغم من ذلك، فقد عددت وثيقة المراجعة عدداً كبيراً من السلوكيات، والتي يمكن تصنيفها باعتبارها تهديدات نابعة من الدولتين، مثل السلطوية، وعسكرة استخدام الفضاء، والهجمات السيبرانية والتضليل الإعلامي. ولكن تبقي موسكو أكبر تهديد للندن من بكين، بالنظر إلى قوتها العسكرية الهائلة، بالإضافة إلى تقدمها في مجال التكنولوجيا العسكرية، ناهيك عن تورطها في ملفات تحظى باهتمام مباشر من الدول الأوروبية عموماً، وبريطانيا خصوصاً، مثل الأزمة الأوكرانية.
3 -إضعاف معاهدة منع الانتشار النووي: يجيء إعلان بريطانيا زيادة ترساناتها من الأسلحة النووية مخالفاً لمعاهدة حظر الانتشار النووي، وهو ما أكده المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، استيفاندوجاريك، والذي أكد أن «هذا الإعلان لا يتسق مع التزامات نزع السلاح التي تعهدت بها جميع الدول الحائزة للأسلحة النووية». كما أن هذا الأمر من شأنه أن يضعف من شرعية الدبلوماسية البريطانية الرامية إلى منع مزيد من الدول امتلاك السلاح النووي، على غرار كوريا الشمالية.
ولكن على الجانب الآخر، فإن هذه الاعتبارات لن تؤثر على السياسة البريطانية بالنظر إلى كون التهديدات الأمنية هي المحرك الأساسي لتوجه لندن لزيادة ترساناتها النووية، كما أن الدول الكبرى الأخرى، لاسيما الولايات المتحدة والصين، تتجهان لتطوير ترسانتهما النووية.
4 -حدوث سباق تسلح نووي جديد: من المتوقع أن تدفع الخطوة البريطانية إلى إذكاء سباق تسلح نووي جديد بين القوى الكبرى. فقد أكد نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، أن قرار لندن غير مبرر، وضار سياسياً، واصفاً إياه أيضاًبـ «الهدام من وجهة نظر تعزيز الاستقرار العالمي»، واعتبر أنه مؤشر جديد على احتمالية حدوث سباق تسلح دولي.
ولكن على الجانب الآخر، فإن الصين أعلنت هي الأخرى عن تطويرها أسلحة نووية. وسبق أن رفضت الجهود الأمريكية لضمها لمفاوضات منع الانتشار النووي، وذلك على أساس أن عدد القنابل النووية التي تمتلكها بكين محدود مقارنة بالولايات المتحدة وروسيا، ولا يتجاوز 260 سلاحاً نووياً، في حين أن روسيا والولايات المتحدة تمتلكان معاً حوالي 88% من الترسانة النووية في العالم. وتمتلك روسيا 6375 سلاحاً نووياً، تليها الولايات المتحدة بواقع 5800 سلاح نووي.
وفي الختام، تعكس وثيقة المراجعة البريطانية استعداد لندن لبيئة دولية جديدة، تزداد فيها التهديدات النابعة من التنافس مع القوى الكبرى، سواء في مناطق النفوذ المباشر لهذه القوى، أو حتى الصراع على استكشاف الفضاء الخارجي، كما أن وثيقة المراجعة البريطانية تتحسب لإقدام دول بإمداد الوكلاء المسلحين بأسلحة نوعية، كيماوية أو بيولوجية أو نووية، لشن هجمات تستهدف أمن بريطانيا، وتسعى لردع ذلك من خلال الاحتفاظ بقدر من الغموض الاستراتيجي حول ضوابط استخدامها للسلاح النووي ضد خصومها.
المصادر والمراجع:
النادي النووي.. كيف سيتغير بعد قرار بريطانيا؟، سكاي نيوز عربية، 17 مارس 2021، https://bit.ly/3xTa3MH
بريطانيا تقرر تعزيز ترسانتها النووية للمرة الأولى منذ الحرب الباردة، يورونيوز، 16 مارس 2021، موجود على الرابط التالي: https://bit.ly/3eP0rK1
Tom Plant and Matthew Harries, Going Ballistic: The UK’s Proposed Nuclear Build-up, RUSI, March 16, 2021, accessible at: https://bit.ly/3uh5dGH
Heather Williams, U.K. Nuclear Weapons: Beyond The Numbers, War on the Rocks, April 6, 2021, https://bit.ly/3teRsqv
Kingston Reif and Shannon Bugos, UK to Increase Cap on Nuclear Warhead Stockpile, Arms Control Association,April 2021, https://bit.ly/2PMFPJX
Heather Williams, op.cit.
Global Britain in a competitive age; The Integrated Review of Security, Defence, Development and Foreign Policy, HM Government, March 2021, p. 70, https://bit.ly/2SrwuYX
Global Britain in a competitive age, op.cit., p. 85.
» د. شادي عبدالوهاب