تحرص المواقع الإخبارية التركية شبه الرسمية إلى التأكيد على تطور الصناعات الدفاعية العسكرية التركية عموماً، وقدرتها على إنتاج طائرات مسيّرة محلية الصنع خصوصاً، وتعمد إلى المبالغة في تقدير كفاءتها، بل والترويج لأن هذه الطائرات المسيّرة لعبت دوراً محورياً خلال العملية العسكرية التي أعلنت عنها تركيا تحت مسمى “درع الربيع” (27 فبراير – 5 مارس 2020) في محافظة إدلب السورية.
إذ عمدت هذه المواقع إلى القول على سبيل المثال، إن الطائرات المسيّرة التركية غيرت مسار العمليات العسكرية في إدلب في مواجهة «روسيا»، فضلاً عن التأكيد على لعبها دوراً مهماً في دعم الميليشيات المسلحة الموالية لحكومة الوفاق الليبية، غير أن الخسائر الأخيرة التي لحقت بهذه الطائرات في كلا البلدين تشكك في هذا التقدير، وتثير التساؤل حول حقيقة كفاءتها.
أولاً: مواصفات فنية محدودة
بدأت تركيا مشروع توطين صناعة الطائرات المسيرة على يد «سلجوق بيرقدار» صهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والذي يعرف كذلك بـ «عراب الطائرات المسيرة»، وعلى الرغم من وجود دعم حكومي لاستخدام هذه الطائرات المسيّرة في المعارك العسكرية، فإن مقارنة مواصفتها الفنية المعلنة بالطائرات المسيّرة التي تنتجها الدول الرئيسية في هذا المجال يكشف عن وجود قصور واضح في أدائها، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1 تراجع القدرات القتالية: يتراوح وزن الحمولة، التي تستطيع الطائرة التركية «يبرقدار تيه بيه 2» حملها ما بين 45 إلى 65 كيلوغراماً، كما تحمل الطائرة صاروخاً وزنه 22,5 كيلوجرام. وتستطيع الطائرة التحليق لارتفاع يصل إلى 8 آلاف كيلومتر، كما أن المدى الإجمالي للطيران لا يتعدى 150 كيلومتراً، مما يجعل الطائرة تتمتع بقدرات محدودة على المناورة، وهو ما يتضح بصورة واضحة عند مقارنتها بنظيرتها من الطائرات الأمريكية والصينية.
فعلى سبيل المثال، فإن الطائرة الأمريكية من طراز «غراي إيغل»، يمكنها الطيران لمسافة 400 كيلومتر بشكل متواصل، فيما تحمل ذخائر تتعدى حاجز الـ 300 كيلوجرام.أما الطائرة الأمريكية من طراز «إم كيو 9 ريبر» (MQ-9 Reaper)، فإنها تمتع بالقدرة على حمل وزن قدره 1701 كيلوجرام، ويمكنها الطيران لمسافة تصل إلى 1852 كيلومتراً، والتحليق لارتفاع يصل إلى 15 ألف متر.
وتستطيع الطائرة الصينية من طراز «وينج لونج 2»، التحليق لارتفاع يصل إلى 9000 متر، بينما تبلغ سرعة الطيران القصوى 370 كم في الساعة، والتحليق لمدة 20 ساعة، كما أنها تستطيع حمل حمولة يبلغ وزنها حوالي 480 كيلوجراماً.
وحتى النسخة الأحدث من الطائرات المسيّرة التركية ممثلة في «عنقاء إس» (Anka S)، فإنها تستطيع حمل حمولة يصل وزنها إلى حوالي 200 كيلوجرام فقط، وإن تمكنت من الطيران لمدة تصل إلى 24 ساعة، والتحليق لارتفاع يصل إلى حوالي 9 آلاف كيلومتر، وهو ما يعني أن قدرتها على حمل ذخائر وأسلحة يظل محدوداً مقارنة بنظيرتها الأمريكية والصينية.
وعلى عكس المدرعات التركية التي دمرت في ليبيا وأرجع البعض سبب ذلك إلى عدم خبرة الجنود الليبيين الذين يستخدمونها، وذلك لتجنب الإشارة إلى العيوب الفنية التي تعاني منها، فإن الطائرات المسيرة يقودها متخصصون أتراك من مراكز قيادة في طرابلس، وهو ما يكشف عن وجود قصور فعلي في أدائها.
2 طريقة التحكم في الطائرة المسيّرة التركية : يتم التحكم في الطائرة التركية من طراز «بيرقدار بيه تيه 2» من خلال موجات راديو، والتي تعمل في مسارات خط الرؤية فقط، أي أنه في حالة وجود عوائق طبيعية مثل جبال أو غيرها، فإنها سوف تعكس هذه الترددات، ومن ثم يتم فقدان الاتصال بالطائرة المسيّرة، كما أنه يمكن إسقاط الطائرات المسيّرة التي تعمل عبر ترددات الراديو عبر التشويش اللاسلكي عبر إرسال نفس التردد لجهاز الاستقبال، مما يؤدي إلى إسقاطها، وتتصل الطائرة التركية المسيّرة من طراز «العنقاء إس» بالمحطة الأرضية من خلال الأقمار الصناعية، وهو ما يجعلها تتفوق على العيوب الواضحة في الطائرة «بيرقدار بيه تيه 2»، فضلاً عن الاقتراب من الطائرات المسيّرة المناظرة مثل الطائرة الأمريكية «أم كيو 9 ريبر»، و»وينج لونج 2»، واللتين يتم التحكم بهما من خلال الاتصال بالأقمار الصناعية، وهو ما يجعل الاتصال اللاسلكي لا ينقطع نتيجة وجود عوائق جغرافية، مثل الجبال أو غيرها.
ثانياً: أداء ميداني متواضع
لا يتوقف تقييم الطائرات المسيّرة فقط على المواصفات الفنية المعلنة، ولكنه يمتد كذلك إلى أدائها الفعلي في المعارك العسكرية. ويلاحظ أن أنقرة اعتمدت على نوعين رئيسين من الطائرات المسيّرة في عملياتها العسكرية الخارجية، وهما: الطائرة المسيّرة بيرقدار «تيه بيه 2» (Bayraktar TB2) من إنتاج شركة «بيرقدار»، والتي تم استخدامها في سوريا وليبيا، بالإضافة إلى الطائرة المسيرة من طراز «العنقاء إس» (Anka S)، والتي تنتجها شركة «الشركة التركية لصناعات الفضاء»، والتي استخدمتها تركيا مؤخراً في عملياتها العسكرية في سوريا. ووضح من خلال العمليات العسكرية التي جرت في كل من ليبيا وسوريا عن وجود قصور واضح في أدائها، والذي يمكن أن يستدل عليه من المؤشرات التالية:
1 خسائر فادحة في ليبيا: كان أداء الطائرة المسيّرة التركية من طراز «بيرقدار تيه بيه 2» متواضعاً، إذ قُدر عدد الطائرات التي تم تدميرها في الفترة الممتدة من يونيو وحتى أكتوبر 2019 حوالي 18 طائرة مسيّرة من هذا النوع، وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة، وتقارير صحفية ذات مصداقية، وذلك في الوقت الذي كانت حكومة الوفاق الليبية تعاقدت على شراء عشرين طائرة من هذا النوع، وهو ما يعني أن أغلب الطائرات التي تعاقدت على شرائها قد تم تدميرها. ومن جهة ثانية، أشارت تقارير أخرى إلى أنه في الوقت الذي تم تسجيل فيه سقوط طائرة مسيّرة صينية واحدة من طراز «وينج لونج 2» في ليبيا، سقطت في المقابل حوالي ست طائرات تركية من طراز بيرقدار.
وعلى الجانب الآخر، أخفقت هذه الطائرات في تحقيق ميزة عسكرية لميليشيات الوفاق الموالية لتركيا، إذ واصل الجيش الوطني الليبي فرض حصاره على العاصمة الليبية طرابلس، والجيوب الموالية لحكومة الوفاق، خاصة مصراتة، ولم تستطع الوفاق فك الحصار عن طرابلس على الرغم من الدعم التركي بالأسلحة والمعدات، بل وتمكن الجيش الوطني من السيطرة على منطقة العزيزية في طرابلس في مارس 2020.
2 انتكاسة استراتيجية وتكتيكية في سوريا: فقدت أنقرة حوالي خمس طائرات من طراز «العنقاء إس»، وحوالي سبع طائرات من طراز «بيرقدار تيه بيه2»، حيث تمكنت الدفاعات السورية من طراز «بوك» وبانتسير إس»من إسقاطها، وذلك في الفترة من 25 فبراير وحتى 4 مارس 2020. ويلاحظ أنه وفقاً لتقرير التوازن العسكري، الصادر لعام 2020، فإن كافة أفرع الجيش التركي تمتلك حوالي 21 طائرة من طراز «العنقاء إس»، أي أن أنقرة خسرت حوالي ربع عدد الطائرات التي تمتلكها من هذا الطراز في حوالي عشرة أيام، وفي معركة عسكرية واحدة.
وعلى الرغم من محاولة أنقرة شن حملة إعلامية للترويج لنجاحها في توظيف هذه العمليات بنجاح، خاصة محاولة تأكيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نجاح هذه الطائرات في تدمير 8 منظومات «بانتسير» للدفاع الجوي الروسية الصنع في إدلب، فإن هذا الأمر لم يكن سوى مبالغة، فقد أكدت وزارة الدفاع الروسية إن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «مبالغة وغير متطابقة مع الواقع»، إذ أوضحت الدفاع الروسية أن هناك 4 منظومات بانتسير فقط في إدلب، نظراً لتمركز أغلب قدرات الدفاع الجوي السورية بشكل أساسي حول دمشق، كما أكدت موسكو أن منظومتين فقط تعرضت للإصابة من الضربات التركية، فيما اقتربت عمليات ترميمها وصيانتها من الانتهاء، وهو ما يدل على عدم تعرضها لأضرار كبيرة، وهو ما يثير التساؤل حول قوة ودقة الصواريخ التركية الموجهة والمستخدمة في الطائرات المسيّرة التركية.
وعلى الجانب الآخر، فإن سير المعارك العسكرية في إدلب يكشف عن تعرض الجيش التركي لخسائر استراتيجية على الرغم من توظيف هذه الطائرات، إذ أن نجاح الجيش السوري في إسقاط الطائرات المسيّرة من طراز «العنقاء إس» بدءاً من 1 مارس حول مدينة سراقب كان نقطة فاصلة في العمليات العسكرية هناك، إذ أن الجيش التركي مدعوماً بالتنظيمات الإرهابية قد خسر سيطرته على المدينة لصالح قوات الجيش السوري.
ونظراً لأن أداء الجيش التركي في معارك إدلب كان ضعيفاً، خاصة بعدما أخفق في احتلال المدن السورية التي تمكن الجيش العربي السوري من تحريرها في إدلب، فإنه لم يكن أمام أردوغان عند لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 5 مارس 2020، سوى الإقرار بهذه الخسائر، وهو ما وضح في موافقته على تيسير دوريات مشتركة بين القوات التركية والسورية بالقرب من الطريق الدولي «إم 4»، بما يعنيه ذلك من تراجع قدرة أنقرة على توظيف التنظيمات الإرهابية الموالية لها في قطع هذا الطريق الاستراتيجي، ومن ثم حرمان الحكومة السورية من استخدام هذا الطريق الاستراتيجي لأغراض اقتصادية وعسكرية، كما كانت تهدف أنقرة.
وفي الختام، يمكن القول إنه نظراً لأن الحرب هي المعيار الرئيسي للحكم على فعالية وجودة الأسلحة المختلفة، فإن سقوط الطائرات المسيّرة التركية، على اختلاف أنواعها في سوريا وليبيا، يعني إحجام العديد من العملاء المحتملين حول العالم عن التعاقد لشراء الطائرات التركية، بما يرتبه ذلك من خسائر فادحة للحكومة التركية وشركات الدفاع التابعة لها، خاصة وأن أنقرة كانت تضع هدفاً يتمثل في زيادة مبيعاتها العسكرية إلى حوالي 25 مليار دولار بحلول عام 2023، وهو هدف يبدو بعيد المنال في ضوء أداء السلاح التركي في المعارك المختلفة، فضلاً عن عدم تجاوز صادرات أنقرة الخارجية الـ 2 مليار دولار في .2019
شادي محمد (باحث متخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية)