يطرح مؤتمر برلين حول ليبيا، الذي عقد في 19 يناير1 2020 ، سؤالاً مهماً هو: هل يكون هذا المؤتمر بداية لتسوية حقيقية للأزمة المعقدة في ليبيا منذ تسع سنوات؟ ولعل ما يدعو إلى طرح هذا السؤال أن المؤتمر قد ضم العديد من القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في المنطقة والعالم من ناحية، وفي الأزمة الليبية من ناحية أخرى وهي: دولة الإمارات العربية المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، والصين، وألمانيا، وإيطاليا، ومصر، والجزائر، والكونغو، وتركيا، إضافة إلى أربع منظمات دولية وإقليمية هي: الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبى، والاتحاد الأفريقي، وجامعة الدول العربية. وهذا منحه ثقلاً كبيراً يمكن أن ينعكس بالإيجاب على مسار الأزمة خلال الفترة القادمة.
فضلاً عن ذلك فقد صدرت عن المؤتمر مقررات مهمة تؤكد على وقف إطلاق النار، واحترام قرار حظر توريد الأسلحة، وتشكيل لجنة عسكرية تتولى ميدانيا مراقبة تنفيذ قرار وقف إطلاق النار، ونزع سلاح الجماعات المسلحة في ليبيا، وتفكيكها ودمجها في المؤسسات المدنية والعسكرية، ورفع ذلك إلى الأمم المتحدة، لدعم هذا المسار، فضلاً عن بعض التوصيات الخاصة بضمان أمن المنشآت النفطية وتوحيد المؤسسات الليبية وخاصة المصرف الليبي.
كما أن الأزمة في ليبيا قد وصلت إلى حد أصبحت معه مصدر تهديد يتجاوز الإطار المحلي أو حتى الأفريقي إلى الإطار الأوروبي والعالمي، وهذا أحد الأسباب المهمة التي دفعت ألمانيا إلى عقد مؤتمر برلين بعد أسبوع واحد من فشل مؤتمر موسكو لتسوية الأزمة. وفي هذا السياق يمكن القول إن لألمانيا دوافع عدة من وراء عقد المؤتمر أهمها: منع تحول ليبيا إلى مصدر لموجات الهجرة غير الشرعية، أو قاعدة للإرهاب خاصة إرهاب داعش، وسط ما تعانيه من فوضى، وكذلك الحيلولة دون إعادة السيناريو السوري في ليبيا، خاصة مع تزايد انتقال المقاتلين السوريين من إدلب إلى ليبيا، والانضمام لميليشيات طرابلس المسلحة .
ويضاف لما سبق، الخبرة السلبية لدى الدول الأوروبية بشأن ارتدادات الدور التركي، في توظيف قضايا اللاجئين والجماعات الجهادية، لممارسة الابتزاز ضد الأوروبيين.
جوانب إيجابية
في ضوء ما سبق يمكن القول إن ثمة جوانب إيجابية عديدة في مؤتمر برلين يمكن أن تضع الأمور على طريق التسوية السلمية أو على الأقل التهدئة طويلة الأجل في ليبيا، أهمها:
أن جميع الأطراف التي شاركت في المؤتمر أكدت بوضوح على إن الحل السلمي هو الطريق الأساسي لتسوية الأزمة الليبية، وأن على الجميع العمل على إنجاح هذا الحل خلال الفترة القادمة.
أدى مؤتمر برلين إلى تحفيز بعض القوى الإقليمية المعنية بالأزمة إلى التحرك لمنع تفاقمها، وفي مقدمتها الجزائر التي استضافت يوم 23 مؤتمر لدول جوار ليبيا شارك فيه وزراء خارجية ومسؤولون من مصر وتونس وتشاد والنيجر والسودان ومالي .
من الواضح أن المانيا التي استضافت مؤتمر برلين، لديها إرادة متابعة نتائج هذا المؤتمر والمساهمة في كل الخطوات اللاحقة له، وهذا ما وضح من مشاركة هايكو ماس وزير خارجية ألمانيا، في اجتماع دول جوار ليبيا في الجزائر.
التحرك الدولي بالصورة التي ظهرت في مؤتمر برلين، يمثل ضغطاً على طرفي الصراع، خاصة إذا تحولت مقررات برلين إلى قرارات من قبل الأمم المتحدة، ما قد يساهم في الحفاظ على التهدئة لوقت طويل.
لكن في الوقت نفسه، فإن هناك العديد من العوامل المعاكسة، التي يمكن أن تجعل من مؤتمر برلين محاولة أخرى متعثرة من محاولات تسوية الأزمة الليبية، أهمها:
في الوقت الذي يمثل فيه الجيش الوطني الليبي كتلة واحدة يمكنها اتخاذ قرارات والالتزام بها بما فيها وقف إطلاق النار، فإن القوات التي تقاتل إلى جانب حكومة فايز السراج، تتكون من ميليشيات مسلحة لا يمكن السيطرة عليها، حتى من السراج نفسه، وتستمد وجودها من سلاحها، ولذلك فإنه لا يمكن الثقة في التزام هذه الميليشيات بأي اتفاق بما في ذلك وقف إطلاق النار .
حل الميليشيات المسلحة
حل الأزمة في ليبيا يحتاج أول ما يحتاج إلى حل الميليشيات المسلحة التابعة للسراج ونزع سلاحها، لكن هذه الميليشيات لن تتخلى عن هذا السلاح بسهولة، لأنه مصدر وجودها، كما سبقت الإشارة، ولا شك في إنها سوف تساوم على هذه القضية بشكل كبير، خاصة إنها تعرف أن نزع سلاحها سوف يضعها تحت طائلة القانون بسبب الجرائم التي ارتكبتها بما فيها جرائم حرب.
ثمة فجوة ثقة كبيرة بين طرفي الصراع، وهو ما عبر عنه عدم حضور كل من حفتر والسراج لفاعليات مؤتمر برلين رغم وجودهما في برلين، وعدم التقائهما وجهاً لوجه في مؤتمر موسكو قبلها بأيام، رغم حضورهما إلى موسكو أيضا.5 وهذه مشكلة على درجة كبيرة من التعقيد.
قضية النفط من العقبات المهمة، لأن حكومة السراج تصر على التحكم في الموارد النفطية، في حين يتهمها الجيش الوطني الليبي بتوجيه موارد النفط إلى الميليشيات المسلحة وإلى المرتزقة الذين ترسلهم تركيا للقتال إلى جانبها. وقد كان النفط أحد اعقد قضايا الصراع بين الطرفين خلال السنوات الماضية.
هناك خلافات بين القوى الكبرى حول ليبيا؛ فثمة خلاف بين فرنسا وإيطاليا، وبين الولايات المتحدة وروسيا، وهذا يمكن أن يعيق التوصل إلى تسوية، خاصة إن هذه الخلافات ظهرت إلى السطح خلال الفترة الماضية،6 وتحولت ليبيا إلى ساحة لصراع النفوذ الدولي.
موقف تركيا يمثل أحد أصعب العقبات أمام نجاح مقررات مؤتمر برلين في تحقيق تسوية سياسية في ليبيا. فقد وقعت تركيا مع حكومة السراج في نوفمبر من عام 2019، مذكرتي تفاهم: الأولى بشأن التعاون الأمني والعسكري، والثانية حول السيادة على المناطق البحرية، وبعدها أعلن البرلمان التركى في 2 يناير 2020 عن موافقته على مذكرة الرئيس التركى أردوغان، التي قضت بالسماح بإرسال جنود أتراك إلى ليبيا، دعما لحكومة السراج.
الموقف التركي
ما سبق يجعل تركيا مصرة على دعم حكومة السراج بكل الطرق، ومستعدة لإفساد أي تسوية لا تضمن مصالحها في ليبيا. وأول هذه المصالح هو الطاقة، حيث تستورد تركيا ما قيمته 50 مليار دولار سنوياً من الطاقة، في حين أن ليبيا لديها احتياطات كبيرة من النفط والغاز7. ثاني المصالح أن أنقرة ترغب في فرض موطئ قدم لها في شمال أفريقيا من خلال البوابة الليبية، حيث تعطي أنقرة أهمية كبيرة لعلاقاتها مع القارة الأفريقية. ثالث المصالح هو سعي لتركيا لتعويض نفوذها الذي تراجع كثيراً في سوريا والعراق. ورابعها أن ليبيا تمثل بالنسبة إلى أردوغان آخر محطات الإسلام السياسي الحليف لها في المنطقة. وخامسها أن ليبيا بالنسبة إلى تركيا هي طرف في كتلة أو محور يعمل أردوغان على تشكيله في منطقة البحر المتوسط لمواجهة الكتلة الأخرى المناوئة له والمتمثلة في “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي تم تشكيله في القاهرة في العام الماضي ويضم: مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، فيما يستبعد تركيا .
مسار لتسوية
وبناء على ما سبق، فإن نجاح أي مسار لتسوية الأزمة الليبية، من المهم أن يتضمن الآتي: ممارسة الضغط الدولي الحقيقي على تركيا لمنعها من التدخل في ليبيا سواء عسكرياً أو سياساً، وإيجاد إطار محدد لنزع سلاح الميليشيات المسلحة التي تقاتل في طرابلس، وتبني موقف دولي موحد بشأن الأزمة يتجاوز الخلافات القائمة بين القوى الكبرى حول الملف الليبي. بدون ذلك سوف تظل الأزمة تراوح مكانها بين كر وفر.
سحر صالح )باحثة في العلوم السياسية(