نشأت فكرة تزويد الطائرات بالوقود جواً، لزيادة مدى عمل الطائرات المقاتلة في مسرح عمليات جوي لا توجد به مطارات حليفة لتقديم تلك التسهيلات اللوجستية، ولكسب ميزة ميدانية جوية في مواجهة القوات الجوية المعادية في مسرح الحرب. وتُقدَّم تلك الخدمة من طائرات نقل مُجهزة (تانكر) على نطاق واسع إلى الطائرات المقاتلة أو المقاتلة القاذفة أو متعددة المهام الحديثة، وعلى نطاق أقل للقاذفات وبعض المروحيات، حيث يقاس المدى العام- نظرياً – بالمسافة التي تقطعها الطائرة حتى نفاد الوقود، أما المدى العملياتي الهام، فهو المسافة التي تقطعها الطائرة إلى الهدف ذهاباً وعودة مع بقاء نسبة في حدود 10% من الوقود.
كانت هناك مراحل وسيطة قبل الوصول إلى مرحلة التزود بالوقود جواً، مثل استخدام خزانات الوقود الإضافية لتستخدمها الطائرة أولاً ثم تتخلص منها بعد نفادها، وكان من عيوب ذلك أن وزن تلك الخزانات يكون مخصوماً من وزن حمولة القنابل والصواريخ، إلى جانب ضرورة البحث عن مطارات أو أراضي هبوط مؤهلة للتزود بالوقود براً في دول صديقة في عمق اتجاهات العمل المحتملة للقوات الجوية، مما كان أحد أسباب إقامة تحالفات دولية ثنائية أو متعددة. ولعل أوضح مثال على ذلك كان خلال حرب أكتوبر 1973.
عندما أغلقت البحرية المصرية مضيق باب المندب جنوب البحر الأحمر، بالتنسيق مع اليمن، في وجه الملاحة من إسرائيل وإليها، ومنعت سفن البترول القادمة من إيران إلى إسرائيل وقت الحرب، لم يستطع الطيران الإسرائيلي الحديث وقتها (فانتوم- سكاي هوك- ميراج) الوصول إلى باب المندب لمحاولة إنقاذ ناقلاته بسبب طول المسافة، مما كان أحد أسباب قيام التحالف الإسرائيلي مع إثيوبيا من أجل الحصول على تسهيلات جوية وإعادة ملء في جزر دَهلك، وامتد التحالف لاحقاً إلى إريتريا بعد انفصالها عن إثيوبيا للسبب ذاته.
كان تكنيك التزود بالوقود جواً، موازياً لمرحلة بناء حاملات الطائرات بعد الحروب العالمية، حيث تُبحر تلك الحاملات لمسافات كبيرة في البحار والمحيطات بغرض الوصول إلى مواقع قريبة من الأهداف المعادية التي تكون في متناول طائرات القتال الموجودة على ظهر حاملة الطائرات التي تصبح بمثابة مطار عائم. ولعلنا نذكر هجوم الطائرات اليابانية على الأسطول الأمريكي في ميناء بيرل هاربُر بهاواي، من حاملات الطائرات الراسية على بعد 200 كم من الهدف، مما نتج عنه مفاجأة الأمريكيين وتدمير الهدف، وكان السبب في دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب. وقد ردت الولايات المتحدة الأمريكية لاحقاً بالتكتيك نفسه، مما ساعدها على الانتصار على اليابان وإنهاء الحرب العالمية الثانية.
خلفية تاريخية
خرجت فكرة التزود بالوقود جواً إلى حيز التنفيذ، مع أول تجربة قام بها طياران أمريكيان هما العقيد لُوِيل سميث والعقيد جون ريتشارد، في 27 يونيو 1923، باستخدام طائرتين من طراز «آر ك دي إتش -4»، حيث مثلت الجيل الأول مما أُطلق عليه طائرات «الإرضاع» الجوي. وبنجاح التجربة الأولى تم التزود بكمية وقود أكبر بلغت 687 جالون وقود، بالإضافة إلى 38 جالون زيت محرك، مكنته من الطيران المتصل لمدة 37 ساعة، وذلك في 28 أغسطس 1923.
وفي العام التالي (1924) طاف سميث حول العالم بعد التخطيط للتزود بالوقود من نقاط محددة في دول محددة، ومن الغريب أنه توفي لاحقاً بعد سقوطه وإصابته، لا من طائرته بل من على صهوة جواده، لأنه كان مولعاً بركوب الخيل، وخُلِّد اسمه بإطلاقه على مدرسة الطيران بموطنه بولاية أريزونا الأمريكية.
تطور عمليات التزود بالوقود جواً
تعد رحلة الطيارين سميث وريتشارد فاتحة تجارب التزود بالوقود. وحدث أول تطور في العام التالي بزيادة كمية الوقود وزيت المحرك، وجرى التزود بالوقود في البداية بواسطة طائرات عسكرية خاصة (تانكر) أو طائرات نقل تم تحويلها إلى تانكر أو جمعت بين الاثنين معاً، باحتوائها على حيز للنقل وآخر للتزود بالوقود، ثم وصل التطور إلى طائرات النقل المدنية لكِبر سعة خزاناتها، أو استبدال طاقة الشحن (كارجو) أو حيز الركاب المفترض، لتحل محلهما خزانات وقود وزيوت إضافية.
لم يقتصر التطور على حجم طائرات التزود ونوعها، بل تعداها إلى تكنيك التزود بالوقود ذاته، فبدأ من طائرة إلى مثيلتها (سميث-ريتشارد) ثم من طائرة خزان إلى طائرة قتال واحدة، زادت إلى اثنتين وصولاً إلى ثلاث طائرات من الخزانات الضخمة لتوفير مسافات عرضية آمنة بين طرفي جناحيها لطائرتين والثالثة في الوسط، ثم إلى أكثر من ثلاث طائرات تباعاً، فمثلا يمكن تزويد 9 طائرات في ثلاث مناوبات بالتتالي، كما أن ذلك التطور وصل إلى طائرات النقل المدنية من طائرة إلى أخرى تباعاً.
أهم أعمال التزود خلال الحروب
1 خلال الحرب العالمية الثانية: كان استخدام التزود بالوقود محدوداً لسببين: الأول، حداثته النسبية ووجوده في دول قليلة من الجانبين المتحاربين، سواء دول الحلفاء - وأهمها بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بعد بيرل هاربر- أو دول المحور وأهمها ألمانيا وإيطاليا واليابان. والسبب الثاني هو طبيعة مسارح الحرب، سواء البرية أو البحرية. فعلى مستوى مسارح الحرب البرية، كانت المسافات داخل مدى معظم الطائرات، وخاصة في غرب أوروبا، هي منشأ الحرب، حيث أقطاب الحرب المتمثلة في ألمانيا وإيطاليا من جهة، وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى.
ومع تغلغل ألمانيا شرقاً في اتجاه الاتحاد السوفيتي، كانت تستخدم المطارات المناسبة تكتيكياً في الدول التي تم احتلالها مثل بولندا، لإطالة مدى عمل طائراتها دون الحاجة إلى التزود بالوقود جواً، وهو ما فعله الحلفاء انطلاقاً من مطارات اليونان لتهديد جنوب قوات المحور، أو من مصر كما فعلت بريطانيا في معركة العلمين الفاصلة، حيث هَزمت القوات الألمانية بقيادة روميل، وأيضاً في الفلبين جنوب شرق آسيا. أما المسرح البحري الممتد، وخاصة في المحيطين الأطلنطي والهادي، فتم الاعتماد فيه على حاملات الطائرات، سواء من جانب اليابان، وخاصة في معركة بيرل هاربُر لتدمير الأسطول الأمريكي وطائراته، أو من جانب بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في جنوب شرق آسيا وحتى اليابان، إلى ما قبل استخدام قنبلتي هيروشيما وناجازاكي الذريتين في 6 و9 اغسطس 1945 بواسطة الولايات المتحدة، لتستسلم اليابان وتنتهي الحرب.
2 خلال حرب أكتوبر 1973: لم يكن أيٌّ من اطراف الحرب (مصر- سوريا- إسرائيل) يملك إمكانية التزوُّد بالوقود جواً، نظراً لقرب مسارح الحرب من مطارات كلٍ من الدول الثلاثة، وإلا لحاولت إسرائيل فك الحصار البحري المصري لباب المندب – كما سبق- لتخليص ناقلتها للنفط «حيفا» ذات الحمولة البالغة 140 ألف طن والقادمة من ايران، خاصة أن إسرائيل دولة غير نفطية وعلى وشك استنفاد احتياطيها من الوقود في الحرب، مما دفعها إلى التحالف مع إثيوبيا ثم إريتريا للحصول على موطئ قدم في أرخبيل دهلك، قبل أن تهتم بامتلاك طائرات التزود بالوقود الأمريكية، لتدخل ضمن الدول العشر الأُوَل في عدد طائرات التزود التي تمتلكها.
3 الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988: استخدمت إيران التزوُّد بالوقود بما تبقى لديها من الطائرات الأمريكية منذ عصر الشاه، حيث تم تزويد طائرات «فانتوم 4» جواً بواسطة طائرة «بوينج 707»، لتصل الفانتوم الإيرانية إلى أقصى الشمال الغربي العراقي قرب الحدود الأردنية لقصف «قاعدة الوليد الجوية» العراقية، مما أحدث مفاجأة كبيرة للعراق، حيث ذهبت إلى حد التشكك في بعض الدول العربية المجاورة.
4 حرب الخليج لتحرير الكويت 1991: استُخدم التزود بالوقود على نطاق واسع، وخاصة بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية، للوصول إلى كل الأهداف في أقصى حدود العراق.
5 الإغارة الإسرائيلية الجوية على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في تونس: وذلك عام 1985 قرب تونس العاصمة، بواسطة طائرات «إف 15» التي زُوِّدت بالوقود جواً فوق البحر المتوسط قرب تونس، ليزيد مدى العمل بمسافة 2000 كم، بما يكفي للتنفيذ والعودة.
6 بريطانيا في حرب فوكلاند والإغارة على ليبيا: في حرب فوكلاند ضد الأرجنتين، تم التزود بالوقود من قواعد تتبع الكُومُنولث البريطاني في المحيط الأطلنطي، نظراً لبعد جزيرة فوكلاند في أقصى جنوب أمريكا اللاتينية ولآلاف الأميال عن بريطانيا. أما الإغارة الجوية على ليبيا، فكانت في إطار العقاب على إسقاط المخابرات الليبية طائرة الركاب الأمريكية فوق بلدة لوكيربي البريطانية بعد وقت قصير من إقلاعها من مطار هيثرو بلندن. ولضمان السرية، لم تطلب بريطانيا تصريحاً بالمرور خلال الأجواء الفرنسية أو الإسبانية الأقرب، بل لجأت للتزود بالوقود لقطع مسافة أطول لتحقيق المفاجأة، بالالتفاف حول جنوب شبه جزيرة أيبيريا، إلى جبل طارق- المقاطعة البريطانية- ثم فوق البحر المتوسط مباشرة إلى طرابلس ليبيا حيث الهدف والمهَمة.
التزود بالوقود والتدريبات العسكرية
تسبب تفكك الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج والحرب على الإرهاب والتهديد الذي تعرضت له الدول العربية من جانب دول الإقليم غير العربية، في بناء تحالفات إقليمية ودولية جديدة تحكمها المصالح الاستراتيجية السياسية والعسكرية والاقتصادية، مما كان سبباً رئيسياً في التنسيق العسكري، وأبرز مظاهره التدريبات المشتركة، حيث أصبح تكتيك التزود بالوقود من أهم مراحله، بما يشهده هذا المجال من تطور، سواء للطائرات العسكرية أو المدنية.
المطالب العسكرية والعائد
توجد مدرستان فيما يخص طائرات التزود بالوقود، أولاهما عسكرية بحتة ترى أن يتم التزود بالوقود بواسطة طائراتها الخاصة، عسكرية كانت أو مدنية، باعتبار أن ذلك يندرج تحت متطلبات أمنها العسكري كمكون رئيسي ضمن أمنها القومي. أما المدرسة الثانية، فترى أنه يمكن توفير الكلفة العالية لامتلاك طائرات التزود بالوقود غالية الثمن، والاستعاضة عنها بشراء هذه الخدمة من الشركات التي أُنشئت لتقديمها كنوع من الاستثمار المستحدث، حيث بدأته شركة «أوميجا» وأعقبتها شركات أُخرى، لتحصل على ثمن الوقود ومعدل استهلاك الطائرة بالإضافة إلى هامش الربح.
ووفقاً لموقع «جلوبال» العسكري، فإنه حتى عام 2019، كانت أكثر الدول امتلاكاً لطائرات التزود بالوقود من ناحية عددية بحتة دون التطرق إلى الجانب الكيفي أو النوعي، هي: الولايات المتحدة الأمريكية: 614 طائرة، المملكة العربية السعودية: 22 طائرة،فرنسا: 20 طائرة، روسيا: 19 طائرة، إسرائيل: 10 طائرات، بريطانيا وإيطاليا وسنغافورة: 9 طائرات لكل منها، إسبانيا: 8 طائرات، ألمانيا وتركيا: 7 طائرات لكل منهما، أستراليا وكندا والهند وإيران: 6 طائرات لكل منها، شيلي: 5 طائرات.
ويلاحظ أنه مع كون سنغافورة دولة صغيرة، فقد أدخلت تلك الخدمة كمورد استثماري. كذلك فإن السعودية احتلت المركز الثاني عالمياً والأول إقليمياً – رغم الفارق العددي الكبير عن الولايات المتحدة الأمريكية المتصدرة- ولذلك حلت السعودية محل الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من أنشطة إعادة التزود بالوقود جواً لصالح التحالف في المنطقة، كما أن دول إقليم الشرق الأوسط غير العربية احتلت مراتب ضمن القائمة، حيث ضمت إسرائيل وتركيا وايران وفق الترتيب التنازلي. وخارج قائمة الدول العشر الأُول، تأتي بعض الدول العربية التي تملك أقل من 5 طائرات تزود بالوقود، وهي دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والجزائر.
التزود بالوقود للطائرات بدون طيار
تم ذلك لأول مرة بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية في 23 إبريل 2015، لطائرة بدون طيار من طراز «ب 47 إكس» من خلال طائرة تانكر مملوكة لشركة «أوميجا» من طراز «بوينج 707 ك». ورغم أن ذلك يُعدُّ نجاحاً عسكرياً تِقنياً، فإنه كان ذا جوانب سلبية، حيث تم توظيف إطالة مدى الدرونز في تنفيذ أعمال إرهابية، على النحو الذي استهدفت به إيران المنشآت النفطية السعودية لشركة «أرامكو»، من خلال التفاف طويل وعميق عبر العراق والكويت، ومن اتجاه اقتراب غير متوقع. وقد استخدمت الولايات المتحدة الأسلوب نفسه في اغتيال قاسم سليماني في مطار بغداد بطائرة درونز، وبمثلث سيطرة بين الهدف وقاعدة العديد في قطر ومركز إدارة العملية في الولايات المتحدة الأمريكية.
خاتمة
أضاف تكتيك التزود بالوقود جواً مميزات عديدة للاستراتيجية والتخطيط العسكري، نظراً للزيادة الكبيرة التي أضافها إلى مدى العمل لطائرات القتال المختلفة، أو إطالة زمن البقاء فوق الهدف أو القتال الجوي، خاصة فوق مسارح الحرب البرية أو البحرية البعيدة عن المطارات الحليفة، أو البحار المحدودة العمق والاتساع التي لا تسمح باستخدام حاملات الطائرات، كما وسَّع دائرة تأثير المجال الحيوي للدولة التي تملك تلك التقنية، بالإضافة إلى فتح مجالات اقتصادية واستثمارية لتقديم هذه الخدمة اللوجستية لمن يريد أن يوفر التكلفة الكبيرة لشراء الخزانات الطائرة. ومع كل تلك المميزات، تبرز خطورة تزويد الدرونز بالوقود جواً، لأن ذلك قد يساعد على توسيع دائرة الإرهاب إلى مديات وأعماق بعيدة.
» لواء ركن دكتور/ محمد عبدالخالق قشقوش (خبير متخصص في الشؤون الأمنية )