في السنوات الأخيرة، كان هناك نقاش جوهري حول ما إذا كانت قدرات منع الوصول والحرمان من الدخول (A2/AD) تعمل على تغيير بيئة الأمن العالمية وكيفية ذلك. إذ يختار عدد متزايد من الأفراد امتلاك هذه القدرات كوسيلة للوقوف في وجه الخصوم الذين يُعتبرون عموماً متفوقين عسكرياً. حيث يمكن لوضعية دفاعية قوية أن ترفع تكاليف الهجوم على منطقة معينة إلى درجة أن الخصم المحتمل لن يحاول ذلك.
هذا يجعل من استراتيجية «منع الوصول والحرمان من الدخول» أداة حرب مهمة للردع. لكن لا يوجد شيء جديد حقاً، ولا رائع حقاً في هذا المفهوم.
على مر التاريخ، حاولت القوى المتنافسة حرمان بعضها بعضاً من الوصول إلى المناطق والأصول الحيوية. كانت هذه الديناميكية حاضرة بالفعل في الصدام بين أثينا وسيراكوز منذ أكثر من 25 قرناً. في مثال تاريخي آخر. في عام 1915، نشر العثمانيون ألغاماً بحرية في مضيق الدردنيل، ذات الأهمية الاستراتيجية، نظراً لربطة بين أوروبا وآسيا، وذلك لهزيمة القوات البحرية للمملكة المتحدة وفرنسا والنمسا وروسيا. مثال آخر هو «جدار الصواريخ» الذي نفذته سوريا ومصر ضد إسرائيل خلال حرب 1973.
في حين أن المبادئ الكامنة وراء مفهوم «منع الوصول والحرمان من الدخول» موجودة منذ فترة طويلة، فإن التطورات التكنولوجية والتغيرات في مواقع القوى العالمية والإقليمية، قد أحيت هذا المفهوم. لسوء الحظ، غالباً ما يتم استخدام «منع الوصول والحرمان من الدخول» ككلمة طنانة دون توضيح أبعادها المهمة. في حين أن تلك الأبعاد هي التي تهم الاستراتيجيين العسكريين وقادة العمليات. تتناول هذه المقالة تحدي «منع الوصول والحرمان من الدخول» الحالي، وتقيِّم الاختلافات الطفيفة بين استراتيجيات وقدرات الصين وروسيا وتستخلص بعض الاستنتاجات حول تأثيرها على التفكير العسكري والطريقة التي يواجهو بها الغرب هذة الاسترايجية.
زيادة تطور وانتشار قدرات A2/AD
المبدأ الاستراتيجي وراء مفهوم «منع الوصول والحرمان من الدخول» هو واحد في جميع الأزمنة، لكن ممارسته تغيرت عبر التاريخ. حالياً، تحدث هذه التغييرات على مستويين مهمين:
1
التطور المتزايد لقدرات «منع الوصول والحرمان من الدخول» تميل الصواريخ إلى احتلال مركز الصدارة وتزداد سرعتها من أي وقت مضى، وتنتقل بسرعة تفوق سرعة الصوت أي تبلغ سرعاتها 5 ماخ (خمسة أضعاف سرعة الصوت) وأكثر من ذلك بكثير. كما أن الصواريخ المجنحة تتمتع بالقدرة على إخفاء الهدف النهائي المرجو تدميره، نظراً لأنها لا تحلق في مسار ثابت مثل القوس، على غرار الصواريخ البالبيستية. في الوقت نفسه، أصبحت الإصابات أكثر دقة. كما تدخل (أسراب) الطائرات المسلحة بدون طيار ساحة المعركة وتصبح أحد الأدوات المستخدمة في تطبيق استراتيجية «منع الوصول والحرمان من الدخول». يضيف الفضاء السيبراني أيضًا قدرات إضافية لاستراتيجية «منع الوصول والحرمان من الدخول». إذ أن إعاقة الأجهزة التي تعتمد على الإنترنت عن العمل والتشويش الكهرومغناطيسي له نفس التأثيرات الضارة مثل منع الوصول إلى البيئات المادية.
2
انتشار قدرات «منع الوصول والحرمان من الدخول» : لعقود من الزمن، كانت الولايات المتحدة وبعض شركائها في الناتو يعانون زيادة الثقل السياسي والعسكري، بحيث يمكنهم العمل دون عوائق إلى حد كبير في كل ركن من أركان العالم. لكن عدداً كبيراً من الدول يكتسب قدرات مثل الذخيرة الموجهة بدقة والأسلحة بعيدة المدى بهدف بناء قدرات دفاعية باستخدام وتطبيق مفهوم «منع الوصول والحرمان من الدخول» لعرقلة الولايات المتحدة وغيرها من العمل بحرية. هذا الانتشار للأسلحة التي تساعد على تطبيق مفهوم «منع الوصول والحرمان من الدخول» يفسح المجال لسياق عسكري استراتيجي أكثر إثارة للتوتر بين القوى الكبرى ويساعد في تصاعد توظيف القدرات العسكرية التكنولوجية المتقدمة في الميدان ويعد أهم مؤسسي هذا المفهوم العسكري الجديد هما الصين وروسيا.
الصين: تنفيذ استراتيجية «منع الوصول والحرمان من الدخول» لاستعادة السيطرة على المحيط الهادئ
في أوائل التسعينيات، قررت الصين تسريع تحديث جيش التحرير الشعبي (PLA) والدفع نحو قدرات عسكرية متقدمة. أصبحت قدرات «منع الوصول والحرمان من الدخول» عنصراً مهماً في ذلك التحديث. والسبب هو أن الصين كانت قلقة بشأن هيمنة الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية لعام ١٩٩١. كان هدف الصين أولاً وقبل كل شيء تقليص مجال مناورة القوات المسلحة الأمريكية (وربما غيرها) في المياه المحيطة بالصين. أرادت الصين أن تسيطر على ما تعتبره حديقتها الخلفية.
وترتكز استراتيجية «منع الوصول والحرمان من الدخول» الصينية على عدد من العناصر المتصلة، أبرزها الصواريخ وأجهزة الاستشعار والجزر الاصطناعية المشيدة حديثاً والتي يمكن أن تكون بمثابة قواعد عسكرية. كما قامت بكين في عام 2016، بإنشاء قوة من الصواريخ مختلفة الأغراض. DF-41 ، على سبيل المثال ، يمكن أن يصل إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة. كما تم تصميم DF-26 بهدف تقليل فائدة القواعد العسكرية الأمريكية في المحيط الهادئ، مثل GuamوOkinawa. لذلك أطلق على الصاروخ لقب “قاتل غوام”. وحصل الجيش الصيني أيضاً على “قاتل حاملات الطائرات” المتمثل بمنصة صواريخ بالستية متوسطة المدى DF-21، على الرغم من أنه من غير الواضح ما إذا كان قد تم اختبارها بالفعل ضد هدف متحرك. وتعمل الصين على توسيع النطاق الذي يمكنها من خلاله إجراء عمليات عسكرية بعدد من الجزر الاصطناعية والمنشآت العسكرية عليها. تستثمر الصين أيضاً بكثافة في الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار الفضائية التي تساعد الصين على فرض الرقابة الكاملة على المياه المحيطة بها وبناء صورة دقيقة لموقع الهدف.
روسيا: قدرات «منع الوصول والحرمان من الدخول» لتحقيق التفوق الحاسم
روسيا، مثلما فعلت في ذروة قوة الاتحاد السوفييتي، تستثمر بكثافة في قدرات «منع الوصول والحرمان من الدخول» . تنشرها حول دول البلطيق والبحر الأسود وشرق البحر المتوسط والقطب الشمالي، وهي مناطق ذات أهمية استراتيجية لروسيا. الهدف العسكري من سعي روسيا لامتلاك هذه القدرات يختلف قليلاً عن الهدف الصيني المتمثل في إبعاد الأمريكيين. هذا ليس مفاجئاً أيضاً، لأن روسيا، أولاً وقبل كل شيء، قوة برية قارية تعمل في سياق جغرافي متميز بشكل كبير عن الصين. في الواقع، تتوقع روسيا أن تكون الولايات المتحدة هي المعتدي، وأن الولايات المتحدة لن تتوانى عن التدخل في أي صراع في حالة التصعيد. لذلك فإن استراتيجية روسيا تقوم على فكرة أن اللحظات الأولى للحرب ستكون حاسمة. وإن بناءها لقدرات A2/AD على هذا النحو ليست للمنع (الحظر)، بقدر ماهي للدفاع والهجوم، ولنشر الفوضى في صفوف الخصم والتسبب في استنزافه. رئيس هيئة الأركان العامة الروسية، الجنرال فاليري جيراسيموف، يسمي هذه “استراتيجية الدفاع النشط”، مؤكداً على أهمية عاملي المبادرة والاستباقية في تنفيذ هذه الاستراتيجية.
نشرت روسيا طائرات وغواصات ونشرت صواريخ أرض – جو جديدة في إقليم كالينينجراد الروسي المجاور لدول البلطيق. وفي جميع أنحاء شبه جزيرة القرم، أدخلت روسيا أنظمة دفاع جوي مثل نظام صواريخ أرض جو متوسطة وطويلة المدى من طراز أس – ٤٠٠ AlmazAntey S-400 Triumf. كما نشرت روسيا هناك أيضاً صواريخ الدفاع الساحلي دون سرعة الصوت والصواريخ الأسرع من الصوت. وفي طرطوس السورية، تنشر روسيا أسلحة استراتيجية مثل أنظمة الدفاع الجوي المتطور من طراز (إس ٣٠٠) و (بانتسير إس إيه ٢٢)، وأنظمة الصواريخ المضادة للسفن (ياخونت)، وصواريخ إسكندر البالستية قصيرة المدى، وأنظمة الكشف بعيدة المدى وأنظمة الحرب الإلكترونية. كما يبدو أن الطائرات الروسية المنتشرة في قاعدة بالقرب من ميناء طرطوس تهدف إلى توفير «مظلة» جوية للبحرية الروسية العاملة في البحر الأبيض المتوسط.
تغيير البيئة الأمنية والتكيف العسكري
تعتبر الاستراتيجية والقدرات التي بنتها الصين كافية لردع الولايات المتحدة في المحيط الهادئ. لقد ألهم هذا “النجاح” دولاً أخرى أقل قوة حيث حاولت نسخ تكتيك «منع الوصول والحرمان من الدخول» لكسب التأثير الإقليمي ولتقليل مساحة المناورة للآخرين. يكتسب عدد أكبر من الدول قدرات أسرع وأكثر تدميراً وذات مديات أبعد. يُضاف هذا التطور المتزايد وانتشار هذه القدرات “الدفاعية إلى النموذج العسكري التكنولوجي الجديد، الأمر الذي يتطلب طرقاً جديدة للتفكير على المستويات الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية. على المستوى الاستراتيجي، تتجه البيئة الأمنية نحو تبني نمط الضربات الدقيقة ومن المرجح أن تصبح “القدرة على الإيذاء” هي النظرية الأكثر تطبيقاً لتحقيق الانتصار العسكري. على المستوى العملياتي، من المرجح أن يتغير سير عمليات الدخول القسري والمهام الاستكشافية. وعلى المستوى التكتيكي، على سبيل المثال، تزداد أهمية الأنظمة المتكاملة، وبالتالي تزداد أهمية الحرب الإلكترونية والأنظمة الفضائية.
التأثير النفسي المحتمل لدور روسيا
يدرك الناتو جيداً التأثير النفسي المحتمل لدور روسيا القوي على أعضائه في دول البلطيق وأوروبا الشرقية. بعد كل شيء، يشكل الحفاظ على الوصول إلى مسرح الحرب الذي يؤثر على أي من أعضاء التحالف حجر الأساس لدفاعه الجماعي. ولتوفير الثقة اللازمة لمحيطه، قرر الناتو في عام 2016 نشر ما يسمى بالتواجد الأمامي المعزز Eenhanced Forward Presence، والذي يتألف من أربع مجموعات قتالية متعددة الجنسيات متمركزة في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا. إن مجموعات القتال هذه، بقيادة المملكة المتحدة وكندا وألمانيا والولايات المتحدة، تهدف إلى ردع روسيا عبر إنذارها بأن أي عدوان روسي سوف يتحول إلى حرب شاملة مع حلف الناتو. كما أنشأ حلف الناتو أيضاً قوة واجب مشتركة عالية الاستعداد (VJTF)، تتألف من 5000 جندي قادرون على الانتشار في وقت قصير. بالإضافة إلى ذلك، يحث الناتو على تطوير القدرات اللازمة ضمن إطار تطوير القدرات (عملية التخطيط الدفاعي لحلف الناتو).
كيفية مواجة «منع الوصول والحرمان من الدخول»
فيما يتعلق بالصين، تتوقع الولايات المتحدة إمكانية الاضطرار إلى الانخراط في حملة «منع الوصول والحرمان من الدخول». في مثل هذا السيناريو، يقل اعتمادها على الناتو، الذي يركز على روسيا بشكل أساسي. تنص العقيدة الأمريكية المشتركة على أن القوات المسلحة الأمريكية “يجب أن تكون قادرة على الانتشار والقتال للوصول إلى المناطق الجغرافية التي تسيطر عليها قوات معادية لمصالح الولايات المتحدة”. تجري الولايات المتحدة تدريبات لعمليات الدخول المشترك بالقوة، كما هو الحال في سبتمبر 2020 كجزء من تمرين (حامي المحيط الهادئ ٢٠) Defender Pacific 20. وكما هو الحال في الواقع، لم يكن سيناريو التمرين متعلقاً بتصعيد مباشر بين الولايات المتحدة والصين، بل يتعلق بصدام بين الصين ودولة آسيوية أصغر لديها معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة، والتي أدت نتيجة لذلك إلى مواجهة غير مقصودة بين القوى العظمى.
» الدكتورة ساسكيا فان جنوجتن
«زميلة أبحاث أولى في برنامج الأمن والسلام بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
التابع لأكاديمية الإمارات الدبلوماسية (EDA) في أبوظبي«