في كل مرة يثبت المتطرفون، من كل الأديان والمعتقدات والمذاهب، أنهم محكومون في مواقفهم وتصرفاتهم بجمود في الفكر، وأزمة في الأخلاق، والكثير من الأوهام والمسلمات المتهافتة التي لا تثبت أمام أبسط حقائق المنطق والعقل والواقع. وهذا ما يظهر بجلاء في موقفهم من أزمة وباء كورونا منذ بدايته، سواء من حيث تفسير أسبابه، أو الموقف من إجراءات مواجهته، أو محاولة استغلاله بشكل لا أخلاقي ولا إنساني لتحقيق أهداف خاصة وضيقة على حساب المجتمعات والأوطان بل والبشرية كلها.
في الوقت الذي كان فيه العلماء والمختصون يبحثون عن أبعاد الفيروس ومخاطره وكيفية مواجهته، خرجت بعض الأصوات الدينية في العالم العربي لتقول إن هذا الفيروس هو انتقام إلهي من الصين بسبب اضطهادها لأقلية «الإيجور» المسلمة. وعندما تفشى المرض في إيطاليا خرج من يقول إن هذا انتقام رباني منهم بسبب دورهم في الحروب الصليبية ضد المسلمين، والغريب أن الذي قال ذلك هو أستاذ جامعي في الاقتصاد!! وعندما انتشر المرض في كل أنحاء العالم بما في ذلك الدول الإسلامية، خرجت أصوات لمتشددين دينيين لتقول إن هذا عقاب إلهي للبشر بسبب خروجهم عن تعاليمه ومبادئ دينه. وفي هذا السياق قال مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، إن جماعة الإخوان المصرية قد ربطوا في فتاواهم بين كورونا وقرارات منع ارتداء النقاب، وأن 55% من فتاوى الإخوان حول الفيروس دارت حول فكرة العقاب الإلهي، ومنها فتوى الإخواني وجدي غنيم الذي قال: «كورونا.. انتقام الله للصين وابتلاء وامتحان للمسلمين».
وهذا لم يتوقف على متشددين مسلمين فقط وإنما امتد إلى غيرهم من معتقدات أخرى، فهذا رجل الدين الهندوسي تشاكراباني ماهاراج، زعيم منظمة «هندو مهاسبها» القومية المتطرفة، يقول إن فيروس كورونا «تجسد للإله فيشنو لمعاقبة من يأكل اللحم»، أما القس الأمريكي ريك وايلز فيعتبر الفيروس «ملك موت» مرسلاً من الله و«جائحة لتطهير العالم من الخطيئة مع اقتراب النهاية»، وقال الراهب اليهودي يهودا غليك، إن فيروس كورونا عقاب من الله لحكومة الصين بسبب اضطهاد المؤمنين بالكتاب المقدس وانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
إضافة إلى وهم الانتقام الإلهي الذي سيطر على المتطرفين المسلمين والمسيحيين واليهود وغيرهم، في تفسير ظهور كورونا، ظهر وَهْمٌ آخر، وهو وَهْمُ المؤامرة، ولعل ما قاله رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر هو نموذج بارز في هذا الشأن، حيث اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنشر الفيروس بين خصوم الولايات المتحدة.
ما سبق يعكس العديد من سمات المتطرفين من كل الأديان: أولها التبسيط الشديد لدرجة السذاجة في تفسير الأمور، حتى تلك التي تنطوي على درجة كبيرة من التعقيد والتخصص مثل الأوبئة والأمراض. ثانيها الخلل في بنية التفكير، وهذا يجعل مواقف المتطرفين متناقضة ومفككة؛ فعلى سبيل المثال، لم يفسر هؤلاء لماذا توفي عدد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلـم في طاعون «عمواس» في الشام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي تشير المصادر التاريخية إلى إنه قتل آلاف المسلمين، منهم أبو عبيدة بن الجرّاح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل وغيرهم، إذا كانت الأوبئة انتقاماً إلهياً؟! ولم يستطع مقتدى الصدر أن يفسر انتشار الفيروس داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها واصابته وقتله عشرات الآلاف من الأمريكيين، اذا كان الرئيس ترامب ينشر الفيروس بين خصوم بلاده فقط، كما كان يقول الصدر!!. ثالثها ضحالة المعرفة بالتاريخ والعلم، والمسارعة بالفتوى بدون التحقق من المعلومات؛ فالذين قالوا إن تفشي الفيروس في إيطاليا هو انتقام رباني بسبب دور إيطاليا في الحروب الصليبية، لم يكلفوا أنفسهم الرجوع إلى التاريخ ليعرفوا أن الحروب الصليبية لعب الدور الرئيسي فيها فرنسا وانجلترا وألمانيا ولم تقم إيطاليا بدور رئيسي، «وكون البابوات هم الذين حرضوا فى الأصل على الحروب الصليبية، فهذا لا يحسب على إيطاليا لأن البابوية ليست مؤسسة إيطالية كما يعرف حتى الأطفال»، كما ذهب أحد الكتاب. وعندما اعتبر مقتدى الصدر أن انتشار الفيروس سببه «شرعنة زواج المثليين» في شتى دول العالم، لم يكلف نفسه كذلك بالبحث ليعرف أن الصين وإيطاليا، وهما من أكثر الدول تضرراً، لم تشرعا بالكامل زواج المثليين.
أزمة الأخلاق
في حين تدعي التيارات الدينية المتطرفة أنها الوصية على أخلاق المجتمعات، وتعتبر أن غياب الأخلاق هو السبب في المشاكل والأزمات التي يواجهها العالم، فإنها أظهرت سقوطاً أخلاقياً واضحاً في تعاملها مع أزمة كورونا، ويمكن للمراقب أن يضع يده على الكثير من مظاهر هذا السقوط. فقد عبرت مواقع جماعة الإخوان المسلمين المصرية عن الشماتة في الحكومة المصرية بسبب وجود الفيروس في مصر وموت بعض عناصر القوات المسلحة به، بل إن هناك فيديوهات لقادة من الجماعة «يدعون فيها الذين يصابون بالإنفلونزا أو ارتفاع في درجة الحرارة، لدخول أقسام الشرطة، والمؤسسات العسكرية، والحكومية، والإعلامية، للاختلاط بأكبر قدر ممكن من الموجودين بها لنشر العدوى». وفي السياق ذاته كشفت وثيقة لوزارة الداخلية العراقية «إن تنظيم داعش الإرهابي يسعى إلى تجنيد عناصره المصابين بفيروس كورونا، ونشرهم في عموم محافظات العراق، واستخدام هؤلاء المصابين كقنبلة بيولوجية بشرية».
وكشفت مذكرة لمكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي «إف بي آي» أن جماعات اليمين المتطرف في الولايات المتحدة حثت أنصارها على نشر فيروس كورونا بين اليهود، واستخدام «بخاخات» مليئة بإفرازات جسم معدية في مهاجمة أفراد الشرطة.
واتجهت بعض التيارات السلفية المتطرفة إلى استغلال خوف الناس من الفيروس لجمع المال من خلال إيهامهم بإمكانية الشفاء من الفيروس والتحصين ضده من خلال الرقية الشرعية، وفي هذا السياق قال أحد السلفيين: «كورونا تعالج بالرقية الشرعية ولا داعي للقلق، ومستعدون للذهاب للصين كي نعالجه».
وفي الوقت الذي يتداعى فيه العالم كله إلى الدعوة للتعاون والتكاتف في مواجهة الفيروس والخطر الذي يمثله والذي لا يوفر أحداً في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، فإن التيارات المتطرفة رأت في هذا الوباء فرصة لنشر فكرها من خلال استهداف الناس في بيوتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي في فترة الحظر المنزلي، فضلاً عن استغلال انشغال الحكومات بمواجهة الفيروس للتمدد وكسب المزيد من النفوذ والحضور على الأرض، وهذا ما يبدو بالنسبة إلى داعش على سبيل المثال.
فضلا عن ذلك، فإنه في الوقت الذي دعت فيه الأمم المتحدة إلى وقف إطلاق النار في العالم لأنه يواجه خطراً أكبر، ولقيت الدعوة استجابة كبيرة في مناطق الصراعات والأزمات، فإن التيارات المتطرفة لم تستجب لذلك بل إنها أصرت على الاستمرار في عملياتها ومنها حركة طالبان وداعش والقاعدة، حتى ان داعش دعا أنصاره إلى «عدم إظهار أي رحمة وشن هجمات خلال هذه الأزمة».
وعلى الرغم من أن المجتمعات تتكاتف وتتناسى خلافتها وتقف وراء حكوماتها وقت الأزمات والأخطار الكبرى، فإن مواقع وقنوات جماعة الإخوان المسلمين في مصر اتجهت إلى مهاجمة الحكومة والتشكيك في قدرتها على مواجهة الفيروس، وبث الشائعات الضارة حول الفيروس وحدود تفشيه في مصر، حتى إن ثمة من عبر عن امتعاضه من هذا الموقف من خلال القول إن «المافيا في إيطاليا تبرعت للحكومة لمواجهة الفيروس»، في حين أن الإخوان يستغلون الظروف لمهاجمة الحكومة المصرية.
إعاقة إجراءات المواجهة
ولم يكتف المتطرفون بتقديم تفسيرات متهافتة لظهور الفيروس، أو استغلاله بشكل لا أخلاقي لتحقيق أهدافهم، وإنما أعاقوا إجراءات الحكومات لمواجهته. حيث رفضت تيارات دينية قرارات إغلاق المساجد لتفادي العدوى بالفيروس، وتحدت الحكومات بمواقفها وفتاويها في هذا الشأن. فهذا الشيخ السلفي المغربي عبدالحميد أبوالنعيم، يتحدى فتوى المجلس العلمي الأعلى بإغلاق المساجد لمواجهة كورونا، ويعلن أن المغرب صار «دار حرب» تباح فيه الدماء والأعراض والممتلكات وسبي نسائه. وهذا أحد رموز تيار الإسلام السياسي في الكويت، حاتم المطيري، يعارض قرار الدولة بإغلاق المساجد ويقول إن «إغلاق المساجد ومنع المصلين منها في أوقات الصلوات، محرم بالنص والإجماع لقوله ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وأن المساجد لله فليس للدول عليها ولاية.. ليس للجنة الفتوى أن تفتي بعدم وجوب صلاة الجمعة، بسبب الخوف من الوباء، وليس لها أن تفتي بعدم جواز الاستجابة للأمر القرآني إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله».
وفي إسرائيل انتشر الفيروس بدرجة أكبر في الأحياء التي يقطنها يهود متشددون «الحريديم»، لأنهم رفضوا الانصياغ لإجراءات المواجهة التي أعلنت عنها الحكومة بدعوى مخالفتها لتعاليمهم الدينية. وفي إيران لعب رجال الدين في قم دوراً كبيراً في نشر الفيروس في البلاد بسبب إصرارهم على المضي قدماً في الفعاليات الدينية على الرغم من خطورتها على الصحة العامة ودورها في نشر الفيروس. وفي ليبيا اعتبر مفتي الإخوان هناك، الصادق الغرياني، أنه لا ينبغي على كل من يخاف على نفسه من الإصابة بفايروس كورونا، التخلف عن صلاة الجماعة، قائلاً «مَن أراد الأخذ بالعزيمة، والذهاب إلى المسجد للجماعة، فله ذلك، وبذلك تبقى شعائر الإسلام وفرائضه مقامة داخل البلد، ولا تعطل بالكلية، بغلق المساجد ومنع الناس منها، فإن ذلك لا يجوز».
ومثل هذه الفتاوى والمواقف لا سند لها في الدين، وإنما هي مواقف سياسية في المقام الأول، لأنها تخالف مقاصد الشرع الإسلامي الحنيف الذي يؤكد على حماية النفس البشرية وأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلـم الصلاة في البيوت في حالات المطر والريح الشديد، وطلب إضافة «صلوا في رحالكم» إلى الآذان في مثل هذه الحالة.
وهكذا، فإن أحد الجوانب الإيجابية لوباء كورونا، إذا صح قول هذه العبارة، هو أن التيارات الدينية المتطرفة أو المتشددة، من كل الأديان والمعتقدات، قد كشفت عن وجهها الخطير واللاإنساني واللاأخلاقي، أمام الشعوب في ظل ظروف محنة عالمية كبرى ووباء يحصد أرواح البشر. ولذلك يمكن القول إن هذه التيارات سوف تفقد جانباً كبيراً من حضورها وقدرتها على التأثير في الشارع، في ضوء مواقفها من أزمة كورونا، لأن هذه المواقف أزالت الغطاء عن وجهها الحقيقي ولم تعد قادرة على الاستمرار في خداع الشعوب بخطاباتها مراوغة.