شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة العديد من الصراعات التي جعلت منها أحد أكثر أقاليم العالم توتراً واضطراباً . فمن الحروب العربية – الإسرائيلية المتعددة، إلى الحروب التي شهدتها منطقة الخليج (حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق 1980-1988، وحرب الخليج الثانية التي أعقبت الغزو العراقي للكويت عام 1990، وحرب الخليج الثالثة أو احتلال العراق عام 2003)، مروراً بالصراعات الأهلية التي شهدها أكثر من بلد عربي مثل لبنان والصومال واليمن والسودان، والتصاعد اللافت والخطير لقوى الإرهاب والتطرف كالقاعدة وداعش والإخوان المسلمين وغيرها، وصولاً إلى الفوضى والاضطرابات الواسعة التي خلفها ما يسمى الربيع العربي، بدت منطقة الشرق الأوسط كما لو أنها أصبحت مركز الصراعات والتوتر في العالم كله، دونما إغفال لحقيقة وجود بعض النماذج المضيئة، التي قدمت نماذج رائدة في التنمية المستدامة والأمن والتقدم مثل دولة الإمارات العربية المتحدة.
هذا الاضطراب الذي عانته المنطقة خلال العقود الماضية فرضته جملة من العوامل والاعتبارات المهمة، أبرزها: أهمية هذه المنطقة الكبيرة من الناحيتين الجيواستراتيجية والاقتصادية، والتي جعلتها محط تنافس وأطماع العديد من القوى الإقليمية والدولية، وحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في كثير من دولها، سواء بسبب الانقسامات الطائفية والعرقية والقبلية داخل مجتمعاتها وتعقّدها وارتباط هذه المكونات بقوى خارجية، أو بسبب تصاعد قوة التيارات الدينية المتطرفة فيها، أو حتى بسبب تعثر سياساتها ومشروعاتها التنموية.
لكن المنطقة لم تشهد في أي مرحلة من مراحل تاريخها الحديث، ما تشهده حالياً من اضطراب وتوتر وصراعات إقليمية وداخلية بهذا الحجم والعمق والتشابك ، ولاسيما منذ اضطرابات ما يسمى “الربيع العربي” التي خلقت فراغاً استراتيجياً خطيراً استغلته القوى الإقليمية المتربصة والجماعات الدينية المتطرفة والقوى الطائفية المرتبطة بأجندات إقليمية، لتحويل المنطقة إلى ساحة مفتوحة من الصراعات المتشابكة والمعقدة ، قبل أن تأتي أزمة وباء كوفيد-19 لتزيد من تعقيد المشهد الصراعي في المنطقة.
المحددات الحاكمة لمستقبل صراعات المنطقة:
يتطلب الحديث عن مستقبل صراعات المنطقة الوقوف بداية عند المحددات الحاكمة لهذه الصراعات والعوامل المؤثرة فيها والموجهة لها، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها في الآتي:
1-المحدد الإقليمي المرتبط بدور القوى الإقليمية المتداخلة في هذه الصراعات، فلاشك أن مواصلة هذه القوى، ولاسيما إيران وتركيا، تدخلاتها السلبية في دول الأزمات العربية، سواء بالتدخل العسكري المباشر، أو بدعم الميليشيات الطائفية والدينية المتطرفة، سيزيد من خطورة تفاقم هذه الصراعات، كما هو حادث الآن حيث تتدخل تركيا بشكل عسكري فج في الأزمة الليبية. إن أحد أهم عوامل تفاقم حدة الصراعات القائمة اليوم، وهو تدخل هذه الاطراف الإقليمية فيها ، وإذا استمر هذا النهج، وهو أمر مرجح، فعلى الأغلب ستسمر هذه الصراعات وربما تزداد حدتها.
2-المحدد الدولي، ويرتبط بالأساس بطبيعة العلاقات الحاكمة لعلاقات القوى الدولية ومواقفها تجاه أزمات المنطقة. فلاشك أنه كلما ازداد الطابع التنافسي لعلاقات هذه القوى وتضارب مصالحها، ازداد تفاقم هذه الأزمات، وإمكانية تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات وإثبات القوة والنفوذ. ففي الحالة الليبية على سبيل المثال، يتم تفسير الموقف الأمريكي غير الحازم في مواجهة الانتهاكات التركية في هذا البلد برغبة واشنطن في مواجهة ما تعتبره تنامياً للنفوذ الروسي في ليبيا من خلال دعم موسكو قوات المشير خليفة حفتر، وهو ما يجعل واشنطن تميل لدعم الطرف المقابل، أي قوات الوفاق وتركيا. و كلما ازداد الطابع التنافسي لعلاقات هذه القوى وتضارب مصالحها، ازداد تفاقم هذه الأزمات، وإمكانية تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات وإثبات القوة والنفوذ.
3-المحدد المرتبط بالأوضاع الداخلية في دول الصراعات والأزمات، ولاسيما فيما يتعلق بحجم الانقسامات بين القوى المتصارعة داخل هذه الدول وإمكانيات التوافق فيما بينها، ومدى تغلغل القوى الطائفية والمتطرفة فيها. ويلاحظ هنا، أنه في غالبية صراعات المنطقة لاتزال الفجوة واسعة بين القوى المحلية المتصارعة، لسببين أساسيين، الأول هو ارتهان إرادة هذه القوى المحلية لقوى إقليمية تريد فرض هيمنتها ونفوذها في هذه الدول، أو لجماعات وميليشيات متطرفة وطائفية ليس من مصلحتها تحقيق الاستقرار. والثاني هو عدم وجود تحركات دولية جادة للضغط على هذه الأطراف المحلية للتوصل إلى توافقات سياسية.
4-وباء كوفيد-19 كمحدد لصراعات المنطقة: شكل فيروس كورونا المستجد تحدياً إضافيا لمنطقة الشرق الأوسط، حيث ضرب هذا الوباء المنطقة بينما كانت العديد من صراعاتها تشهد تنامياً خطيراً، أثر بشكل أو بآخر على قدرة دولها على تنسيق استجابة فاعلة للوباء. ويمكن أن يكون للوباء تأثيره المستقبلي على صراعات المنطقة من زاويتين، الأولى إيجابية؛ حيث كانت أزمة كورونا دافعاً لتهدئة بعض الصراعات الإقليمية ، فبالإضافة إلى وقف الاحتجاجات في كل من العراق ولبنان والجزائر، فقد أعلن التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن في التاسع من أبريل 2020 وقف إطلاق النار في اليمن مدة أسبوعين، تم تجديدها لمدد أخرى، للتفرغ لمواجهة الوباء . الزاوية الثانية سلبية، حيث أدى انشغال دول المنطقة بمكافحة الوباء إلى إعطاء الفرصة لبعض الجماعات المتطرفة لالتقاط الأنفاس ومحاولة استعادة زمام الأمور، كما حدث في تصاعد عمليات داعش في العراق وسوريا، فضلاً عن إعطاء الفرصة لبعض القوى الإقليمية لاستغلال أزمة الوباء في تصعيد تدخلاتها الإقليمية.
مستقبل صراعات المنطقة:
في ضوء المحددات السابقة، يمكن القول إن غالبية صراعات المنطقة مرشحة لمزيد من التصعيد، أو على الأقل البقاء كما هي عند مستوياتها الحالية، وذلك كما يلي:
-في ليبيا هناك نذر حرب إقليمية – دولية أوسع نطاقاً بسبب الإصرار التركي على احتلال كامل الأراضي الليبية تحت غطاء دعم حكومة الوفاق، ومواصلة انتهاكاتها للقرارات الدولية التي تحظر توريد الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا، وهو ما دفع مصر إلى وضع جيشها في حالة تأهب للتدخل المباشر إذا تجاوزت الميليشيات الموالية لتركيا الخطوط الحمراء التي حددتها القاهرة بخط سرت – الجفرة.
-وفي اليمن، تستمر ميليشيات الحوثي في محاولاتها الرامية إلى عرقلة كل الجهود الدولية المبذولة للتوصل إلى تسوية للأزمة، وتهديد الأمن الوطني للمملكة العربية السعودية عبر استهدافها بالصواريخ والأسلحة الإيرانية، فضلاً عن تهديد أمن الملاحة في مضيق باب المندب وجنوب البحر الأحمر. ورغم المرونة التي أبدتها دول التحالف العربي للتوصل إلى تسوية استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية، والهدنة التي أعلنتها من طرف واحد في أبريل2020 لمواجهة تبعات أزمة كورونا في اليمن، استمر التعنت الحوثي، وهو أمر لا يتوقع أن يتغير مستقبلاً، لأن مواقف الحوثيين مرهونة بسياسات داعمهم الأكبر وهو إيران، التي لا تريد لهذه المنطقة أن تستقر بعيداً عن نفوذها وهيمنتها.
-الأزمة في سوريا، ربما تكون قد تجاوزت مرحلتها الأصعب بعد أن نجحت الدولة السورية في استعادة السيطرة على معظم أراضيها، ومع ذلك لا تزال هذه الأزمة مفتوحة على احتمال اندلاع حروب جديدة سواء في مدينة إدلب التي يسعى النظام السوري لاستعادتها من قبضة الجماعات المسلحة المدعومة من تركيا، أو في مناطق الشمال الكردي التي تخضع لتدخلات عددة من قبل الجيش التركي. كما أن هناك صراعاً أكبر قابلاً للاشتعال على خلفية هذه الأزمة وهو الصراع الإيراني- الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، حيث تصر إسرائيل على ضرورة خروج جميع العناصر المسلحة التابعة لإيران وميليشياتها من الأراضي السورية، وتقوم بين فترة وأخرى بقصف هذه الميليشيات والقوات الموالية لإيران أو التابعة لها.
-الأزمة الإيرانية بدورها تظل مفتوحة على احتمالات التصعيد، مع مواصلة الولايات المتحدة لسياسة الضغوط القصوى، ومواصلة طهران تطوير برامجها الصاروخية وتخفيف التزاماتها بالقيود المفروضة على برنامجها النووي. وتشير تقارير عدة إلى إن الانفجارات التي وقعت في منشأتي نطنز وبارتشين النووتين ونتجت عن هجمات سيبرانية أمريكية – إسرائيلية، ربما تكون بداية لصراع أكثر اتساعاً مستقبلاً .
-استمرار خطر الإرهاب: فعلى الرغم من أن تنظيم “داعش” خسر ما تبقى من دولته المزعومة التي أقامها في سوريا والعراق خلال عام 2019، وفقد رأسه ممثلًا في “أبو بكر البغدادي”، فضلًا عن الضربات الأمنية التي تعرضت لها فروعه في اليمن وليبيا وأفغانستان والفلبين وجنوب آسيا والساحل الإفريقي وإفريقيا الوسطى؛ فإن خطره لا يزال قائماً في عام 2020، سواء من خلال تلك الفروع المختلفة أو من خلال “الذئاب المنفردة” التي تنفذ هجماتها بواسطة سكين مطبخ أو شاحنة . وكذلك الحال بالنسبة لباقي التنظيمات، كالقاعدة والإخوان المسلمين وغيرها.
-إضافة إلى هذه الأزمات المشتعلة منذ سنوات والمرشحة لمزيد من التفاقم، ثمة أزمات جديدة تتجه بسرعة نحو التصعيد، ولاسيما في منطقة شرق البحر المتوسط، حيث تسعى تركيا إلى الحصول على جزء من ثروة الغاز الضخمة في هذه المنطقة، ما جعلها تصطدم مع الدول المعنية ولاسيما قبرص واليونان . وفي منطقة حوض النيل، حيت يتعرض الأمن المائي لدولتين عربيتين هما مصر والسودان لتهديد خطير بسبب إصرار إثيوبيا على المضي قدماً في مشروع سد النهضة دون أخذ مخاوف هذه الدول بعين الاعتبار، ما قد ينذر بتحول الأزمة إلى صراع مفتوح.
يعني كل ما سبق أن المنطقة ربما تكون مقبلة على مرحلة جديدة من تصعيد التوتر والصراع، مدفوعة بالأساس برغبة بعض القوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران، في محاولة استغلال الظروف الإقليمية والعالمية الراهنة لفرض هيمنتهما على المنطقة. وهذا التصعيد يأتي في الوقت الذي يشهد فيه العالم حالة من الاستنفار ضد عدو عالمي خفي يهدد البشرية برمتها، وهو باء كوفيد-19. وبينما يفرض هذا الوباء تعزيز التضامن الإنساني في مواجهته ووقف الأزمات والصراعات الأخرى ليستطيع العالم التفرغ لمواجهة التداعيات الخطيرة التي يفرضها الوباء على كل المستويات، تشير التطورات الراهنة إلى أن الجانب التنافسي والصراعي بين القوى الدولية سيتزايد في مرحلة ما بعد الوباء، وهذا ما سينعكس بالسلب على صراعات المنطقة من ناحية، ويعطي القوى الإقليمية الساعية للهيمنة فرصة أكبر لتكثيف دورها السلبي في المنطقة، من ناحية أخرى.
ويتطلب هذا الأمر بالأساس العمل على تعزيز الأمن القومي العربي الجماعي، فالمنطقة العربية مستهدفة بأكملها، وتدخل القوى الإقليمية والخارجية يزداد اتساعاً في ربوعها مستغلة الانقسامات الداخلية وحالة الفوضى والفراغ الاستراتيجي التي خلفها “الربيع العربي”، وبدعم تسهيل من القوى المتطرفة والطائفية في دول المنطقة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. ويشكل التحالف الإماراتي- السعودي- المصري حجر الزاوية في منظومة الأمن العربي في المرحلة الراهنة، ولكن من المهم أن تلتف باقي الدول العربية حول هذا التحالف، لأن الخطر بات يشمل الجميع دون استثناء.
فتوح صادق (باحث في الشؤون السياسية)