شكل الوجود العسكري الأمريكي الفاعل في أفغانستان على مدى العقدين الماضيين عاملاً محورياً ليس فقط في ضبط التوازنات العسكرية داخل هذا البلد ومنع سقوطه من جديد في أيدي الجماعات المتطرفة والميليشيات المسلحة، وإنما أيضاً في ضبط شبكة التحالفات والتوازنات العسكرية والاستراتيجية في منطقة آسيا الوسطى والشرق الأوسط الكبير. ولكن مع تنفيذ الولايات المتحدة الأمريكية خطتها للانسحاب الكامل من أفغانستان قبل الحادي عشر من سبتمبر 2021، وفق ما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في أبريل 2021، بدأت الكثير من هذه التوازنات والتحالفات تتغير على أرض الواقع، مع سيطرة حركة طالبان الأفغانية على السلطة..
وهو ما يطرح بعض التساؤلات حول دلالات ما حدث في أفغانستان من تحولات عسكرية واستراتيجية رافقت الانسحاب الأمريكي، وحدود التغيير المتوقع في المشهد الاستراتيجي والعسكري داخل أفغانستان والمنطقة خلال المدى المنظور. وهي التساؤلات التي ستحاول هذه الدراسة الإجابة عنه من خلال المحاور التالية:
أولاً: الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ضمن العقيدة العسكرية الأمريكية
تبنت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الإدارات الثلاث المتعاقبة الأخيرة (باراك أوباما ودونالد ترامب وجو بايدن) سياسة تقوم على خفض الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط وتقليل الانخراط العسكري المباشر فيه، مقابل زيادة الاهتمام بمناطق وتحديات أخرى في العالم مثل الوضع في الشرق الأقصى والصعود الصيني. فقد تبنى الرئيس الأسبق باراك أوباما استراتيجية أطلق عليها “القيادة من الخلف” عندما قرر الانسحاب من معظم بؤر الصراعات التي تورطت فيها الولايات المتحدة، وجعل الدول التي تعاني من هذه الصراعات تعمل على حل مشاكلها بنفسها بعد منحها كل ما هو ممكن من المتطلبات اللازمة بواسطة الولايات المتحدة . وقامت إدارته بالفعل بسحب الجزء الأكبر من القوات الأمريكية من العراق في نهاية عام 2011، وكذلك من أفغانستان عام 2014. كما تبنت إدارة الرئيس دونالد ترامب مبدأ “أمريكا أولاً”، والذي كان يعني إعلاء مصالح الولايات المتحدة على ما سواها، حتى لو كان على حساب حلفائها التقليديين ، وواصلت هذه الإدارة عملية سحب القوات من أفغانستان، وأبرمت اتفاقاً مع حركة طالبان الأفغانية في فبراير 2020 يقضي بالانسحاب الكامل للقوات الأمريكية بحلول مايو 2021 مقابل تعهد الحركة بعدم استهداف القوات والمصالح الأمريكية والانخراط في مفاوضات سياسية مع الحكومة الأفغانية. قبل أن يأتي الرئيس الحالي جو بايدن رافعاً شعار “إنهاء الحروب الأبدية” لواشنطن في الشرق الأوسط وعلى رأسها الحرب في أفغانستان التي تعهد بالانسحاب الكامل منها مع نهاية أغسطس 2021.
ويمثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بعد عشرين عاماً من التدخل العسكري الذي أطاح بحكومة طالبان وضرب تنظيم القاعدة في معاقله في هذا البلد، تطبيقاً لعقيدة واشنطن العسكرية المتمثلة في خفض الوجود العسكري في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، ولكن هذا الانسحاب “المتعجل وغير المدروس” كما يراه كثيرون يطرح تساؤلات أخرى حول تأثير هذه العقيدة العسكرية الأمريكية على الولايات المتحدة نفسها ومصالحها وصورتها باعتبارها القوة العسكرية الأكبر في العالم. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى عدد من الرسائل السلبية التي حملها الإصرار الأمريكي على اتمام هذا الانسحاب رغم المؤشرات الواضحة على عودة طالبان للسيطرة من جديد على الحكم على حساب القوات الحكومية المدعومة أمريكياً:
الرسالة الأولى: للأمريكيين أنفسهم، ومفاداها أن التضحيات الكبيرة التي قدمتها بلادهم خلال عقدين من الزمن، سواء على المستوى البشري (مقتل أكثر من 2300 جندي أمريكي وإصابة أكثر من عشرين ألف جندي آخرين)، أو المادي (قُدرت تكلفة الحرب التي تحملتها واشنطن بنحو تريليون دولار) ذهبت دون أي مقابل أو مردود، وهو الأمر الذي سيجعل الرأي العام الأمريكي يتردد كثيراً في دعم أي تحركات عسكرية خارج الحدود مستقبلاً، ولاسيما في ظل تشابه الخبرة الأمريكية الحالية فى أفغانستان مع الخبرة الأليمة للولايات المتحدة فى فيتنام والتي اكتمل انسحاب القوات الأمريكية منها عام 1975.
الرسالة الثانية: للقوى المناوئة للولايات المتحدة في المنطقة وهي رسالة مؤداها أنه يمكن لهذه القوى والميليشيات المسلحة تكرار تجربة حركة طالبان وإلحاق الهزيمة في نهاية المطاف بالولايات المتحدة، وهو ما قد يشجع هذه القوى والجماعات مثل إيران والميليشيات المسلحة المرتبطة بها أو حتى التنظيمات الإرهابية على مواصلة أعمالها العدائية لتحقيق نتائج مشابهة لحركة طالبان أو لمحاولة ملء أي فراغ أمني يخلفه الانسحاب والخروج الأمريكية من المنطقة عامة.
الرسالة الثالثة: لحلفاء الولايات المتحدة ومؤداها أن الاعتماد على الحليف الأمريكي بشكل كلي قد ينطوي على مغامرة غير مضمونة العواقب، فرغم التطمينات والوعود التي قدمها الرئيس الأمريكي جو بايدن لنظيره الأفغاني أشرف غني خلال لقائهما المشترك الأخير في واشنطن بدعم أفغانستان وباستمرار التعاون العسكري والاقتصادي بين واشنطن وكابول، فإن الإدارة الأمريكية لم تقدم أي دعم للجيش الأفغاني لوقف تقدم حركة طالبان، واكتفت فقط بتأمين السفارة الأمريكية وتأمين خروج باقي قواتها وأفراد بعثتها الدبلوماسية من الأراضي الأفغانية.
ثانياً: تأثير الانسحاب الأمريكي على التوزانات العسكرية داخل أفغانستان
قبل دخول عملية الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان مرحلتها الأخيرة، كانت توازنات القوى تميل بصورة واضحة لمصلحة قوات الأمن التابعة للحكومة الأفغانية التي كانت تتمتع بأفضلية واضحة على حركة طالبان، فهي أكبر حجماً وأفضل تجهيزاً، وتلقت كميات هائلة من برامج التدريب العسكري الخارجي، والدعم اللوجستي، والمساعدات المالية والأسلحة المتطورة، والمعلومات الاستخباراتية. فطبقاً للأرقام والإحصاءات المتاحة، بلغ إجمالي عدد قوات الأمن الأفغانية نحو 300 ألف عنصر، مقابل 75 ألف عنصر مقاتل فقط يعملون تحت راية طالبان، كما كانت هذه القوات تستخدم أسلحة وتقنيات عسكرية متطورة نوعاً ما زودتها بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو، وعلى الرغم من ذلك، فقد تمكنت حركة طالبان من فرض سيطرتها العسكرية بسرعة لافتة على العديد من المدن والأقاليم الأفغانية التي تساقطت تباعاً في أيديها وصولاً إلى العاصمة كابل وبشكل أثار استغراب حتى الأمريكيين أنفسهم، حيث كانت تقديرات الاستخبارات الأمريكية تشير إلى إمكانية أن تسقط العاصمة كابل في يد حركة طالبان خلال ستة أشهر وليس قبل أن يكتمل الانسحاب الأمريكي كما حدث بالفعل. ويمكن تفسير هذا التحول في خريطة التوازنات العسكرية على أرض الواقع في ضوء العوامل الآتية:
1- جوانب الخلل والضعف التي تعاني منها القوات الحكومية الأفغانية، فرغم الدعم المستمر الذي قدمته الولايات المتحدة وحلفاؤها للقوات الحكومية من تدريب وتجهيز وتمويل، فقد استمرت هذه القوات تعاني الكثير من الفساد وعوامل الضعف الهيكيلة مثل عدم الرغبة في القتال. وقد نشرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقارير عدة عن حجم الفساد الذي ينخر بُنى القوات الأفغانية ومن بينها احتفاظ القادة بالأموال الموجهة لقواتهم، أو القيام ببيع الأسلحة في السوق السوداء والكذب بشأن عدد الجنود في صفوف القوات التابعة لهم . كما شكلت مشكلة الفرار من الخدمة والاستسلام أمام مقاتلي حركة طالبان أحد نقاط الضعف الكبيرة في أداء هذه القوات، وهو ما حدث خلال الأسابيع الأخيرة مع تسارع سقوط المدن الأفغانية في أيدي مقاتلي الحركة بدون مقاومة كبيرة، بشكل دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى حث القيادات العسكرية الأفغانية على القتال في سبيل الوطن وإبداء مزيد من المقاومة . ويُعد هروب أكثر من ألف جندي أفغاني إلى داخل الحدود الطاجيكية خلال الأسبوع الأول من يوليو 2021 أثناء دخول طالبان ولاية بادخشان مثالاً مُعبراً على ذلك .
وشكلت معضلة استسلام قوات الأمن الأفغانية دون قتال في حالات كثيرة، تاركة وراءها المعدات العسكرية التي زودتهم بها واشنطن، أحد العوامل التي ساهمت في إحداث التحول الذي شهدته الأوضاع العسكرية على أرض الواقع، لأن هذه التجهيزات العسكرية المتطورة تذهب في النهاية لمقاتلي الحركة التي تستخدمها في تحقيق مزيد من التقدم على الأرض. وقد أشار الناطق باسم طالبان ذبيح الله مجاهد إلى ذلك في تغريدة له على تويتر قال فيها: “فر العدو… سقطت عشرات الآليات العسكرية والأسلحة والذخيرة في أيدي المجاهدين” . وربما هذا يفسر أحد أسباب تراجع الدعم العسكري الأمريكية للقوات الأفغانية في المرحلة الأخيرة خشية وصول هذه الأسلحة إلى حركة طالبان.
2- اختلاف طبيعة الحاضنة الشعبية، فهناك من ناحية نظرة تهيمن على بعض الفئات الشعبية داخل أفغانستان تنظر إلى القوات الافغانية باعتبارها “قوات عميلة” أو “صنيعة الغرب” (الولايات المتحدة وحلفائها) وليس بصفتها قوات حكومية وطنية، وهي نظرة تغذيها طالبان وبعض القوى المتحالفة معها والجماعات المتشددة في هذا البلد، في الوقت الذي تحظى فيه طالبان بحاضنة شعبية أساسها الانتماء القبلي بحكم أنها تنتمي إلى عرقية البشتون التي تضعها غالبية التقديرات كأكبر عرقية في أفغانستان بأكثر من 40 في المائة من مجموع السكان (تقديرات أخرى تضع النسبة أعلى بكثير) . ويفسر بعض المحلليين السقوط السريع لبعض المدن بهذه الخلفية القبلية. ولكن هذا التفسير لا يصلح للتطبيق على تفسير سبب سقوط المناطق والمدن الشمالية التي تهيمن عليها عرقيات أخرى.
3- عدم وضع الاستراتيجيات القتالية وبرامج التدريب التي تدربت عليها القوات الأفغانية لاختبارات جدية على أرض الواقع، حيث استمرت هذه القوات تعتمد بصفة أساسية وكبيرة على الدعم والمساندة من القوات الأمريكية وقوات حلف الأطلسي، ولاسيما تلك التي توفرها القوة الجوية الأمريكية على الصعد اللوجيستية والضربات ، وعندما توقف الدعم والمساندة الأمريكية ثبت عدم قدرة هذه القوات على العمل بمفردها ولم تصمد في كثير من المواقع أمام تقدم عناصر حركة طالبان.
ولكن.. هل تعني سيطرة طالبان على السلطة في أفغانستان، استتباب الأمر لها استراتيجياً وعسكرياً؟
هناك سيناريوهان في هذا الصدد، الأول، وربما المرجح، هو أن تفرض طالبان سيطرتها بالكامل على الأراضي الأفغانية كافة وتنجح في تثبيت نظام حكم خاضع لها، ولاسيما بعد الانهيار السريع للقوات الأفغانية وتلاشيها، وفشل المجموعات الأمنية الأخرى التابعة لأمراء الحرب في المدن الشمالية في الحفاظ على استقلال مدنهم وعدم خضوعها لطالبان كمان كان الوضع قبل عام 2001.
أما السيناريو الآخر، فيشير إلى إمكانية حدوث صراعات أهلية داخل أفغانستان بين حركة طالبان وبعض القوى والجماعات الرافضة لحكمها، ما يعني إمكانية حدوث حالة من عدم الاستقرار في المرحلة المقبلة. ومن المؤشرات الداعمة لهذا السيناريو ما أشارت إليه العديد من وسائل الإعلام عن تشكيل تحالف مناهض لطالبان يضم أمر الله صالح، نائب الرئيس في حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني، والذي أعلن نفسه الرئيس “المؤقت” للبلاد ، وأحمد مسعود، نجل القيادي الأفغاني الشهير الراحل أحمد شاه مسعود، والذي أعلن انطلاق ما وصفه بـ”مقاومة المجاهدين” ضد سيطرة حركة طالبان على أفغانستان .
ثالثاً: سيطرة طالبان على أفغانستان.. التداعيات العسكرية والاستراتيجية الإقليمية والدولية
تطرح عودة طالبان للسيطرة على السلطة في أفغانستان من جديد الكثير من النقاشات غير المحسومة هو ماهية التداعيات العسكرية والاستراتيجية التي قد تترتب على ذلك إقليمياً ودولياً؟ وهنا يمكن الإشارة إلى النقاط التالية:
1- قد تمثل سيطرة طالبان على السلطة في أفغانستان تحدياً للقوى الدولية المهتمة بهذه المنطقة، ولاسيما الصين وروسيا والدول الغربية. فالصين التي تضع أفغانستان ضمن خطط مبادرتها العالمية “حزام واحد طريق واحد”، فإن وجود حركة مثل طالبان قد يفرض تحدياً أمام الصين للمضي قدماً في هذا المشروع، ولعل هذا ما دفع بعدد من الباحثين للحديث عن “مؤامرة” ما تقف خلفها واشنطن لإعادة الحركة للسلطة لإفشال المشروع الصيني العملاق في هذه المنطقة. ولكن هذا النمط من التفكير يتجاهل حقيقة أن طالبان هي عدو لواشنطن وليس للصين، وأن بكين بسياستها البراجماتية ستجد طريقاً بشكل أو بآخر لضم أفغانستان- طالبان لطريق الحرير الجديد. وإذا حدث ذلك، فسيسهم في تعزيز النفوذ الصيني في هذه المنطقة. والأمر نفسه ينطبق على روسيا التي سبق أن عبرت عن القلق إزاء ما وصفته بـ”حشد تنظيم الدولة الإسلامية لقواته في شمال أفغانستان”، بالتزامن مع مغادرة القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي المتسرع من البلاد، كما أبدت خشيتها من تأثير هذه الحركة على نمو نشاط الجماعات الدينية المتشددة داخل أراضيها أو في المناطق المحاذية لها، لكن روسيا كانت أقل قلقاً من سيطرة طالبان السريعة على أفغانستان، بل وأبدت اعتزامها الحوار مع طالبان مثل الصين. أما الدول الأوروبية، ومعها واشنطن، فهي أكثر قلقاً بسبب أوضاع حقوق الإنسان والمخاوف من موجات هجرة أفغانية إلى أوروبا بعد سيطرة طالبان فضلاً عن المخاوف من عودة التطرف والجماعات الإرهابية إلى أفغانستان.
2- على المستوى الإقليمي، ستغري حالة الفراغ الأمني التي ستشهدها أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي قوى إقليمية عديدة مثل تركيا وباكستان وإيران على التحرك لمحاولة ملء هذا الفراغ. ولكن سيطرة طالبان ستشكل على الأرجح تحدياً لإيران بشكل خاص، حيث تتبنى الحركة توجهات أيديولوجية مناهضة للتوجهات الإيرانية، فيما تبدو فرص التعاون أكبر بين طالبان- أفغانستان وكل من تركيا وباكستان.
3- ستعزز سيطرة طالبان على أفغانستان المخاوف من عودة التنظيمات المتطرفة والإرهابية لتتخذ من أفغانستان ملاذاً آمنا لها من جديد، ولاسيما تنظيم القاعدة. ورغم أن هناك الكثير من التصريحات الرسمية والتقديرات الاستخباراتية التي عبرت عن هذه المخاوف، فإن هناك من يرى أن الحركة قد لا تعمد إلى التحالف مع هذه التنظيمات الإرهابية من جديد، على الأقل في المرحلة الأولى، لأنها بذلك ستخالف اتفاقها مع واشنطن الموقع في الدوحة في فبراير 2020 الذي انسحبت بموجبه القوات الأمريكية من أفغانستان، فضلاً عن أنها، أي طالبان، تدرك أن مثل هذا التحرك سيدفع الولايات المتحدة وحلفاءها للعودة من جديد لاستهدافها عسكرياً كما حدث عام 2001. بيد أن هذه الحسابات العقلانية غير مضمونة في حالة التعامل مع حركة متشددة تحاول فرض رؤيتها المتطرفة على المجتمع، وهو ما يعني أن فرص عودة أفغانستان لتكون ملاذا آمنا للإرهاب والجماعات الإرهابية ستزيد بصورة كبيرة في حال سيطرة طالبان على السلطة في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي.
الدكتور/ فتوح هيكل (مدير الأبحاث في «تريندز» للبحوث والاستشارات)