تسببت أزمة نقص الرقائق الدقيقة في عام 2021 في التأثير على الأوضاع الاقتصادية العالمية، كما أن اتجاه الولايات المتحدة إلى توظيف العقوبات الاقتصادية ضد بعض الدول، خاصة بعض شركات التكنولوجيا الصينية، مثل هواوي، أو روسيا، على خلفية الأزمة الأوكرانية، قد لفت الانتباه إلى أهمية قيام الدول بالتوسع في إنتاج هذه الرقائق، وذلك للحفاظ على الأمن القومي للدول، خاصة في ضوء الاستخدامات الواسعة، المدنية والعسكرية، لهذه الرقائق.
يعود أسباب نقص أشباه الموصلات إلى تراجع إنتاج المواد الخام، ولكن بسبب أزمة كورونا، وانتكاسة الطلب الذي أعقب ذلك، وهو ما دفع العديد من الشركات العاملة في هذا المجال إلى تعليق خطوط إنتاجها. كما لعبت العوامل الجيوسياسية دوراً أيضاً في هذه الأزمة، خاصة عندما بدأت إدارة ترامب في فرض قيود على بيع أشباه الموصلات بشكل صارم إلى «زد تي إي» وهواوي وشركات صينية أخرى، إذ بدأت تلك الشركات في تخزين الرقائق الأساسية للهواتف الذكية من الجيل الخامس وغيرها من المنتجات. وفي الوقت نفسه، تم عزل الشركات الأمريكية عن الرقائق التي تصنعها «الشركة الصينية الدولية لصناعة أشباه الموصلات» بعد أن وضعت الحكومة الفيدرالية الشركة في القائمة السوداء.
وكشفت هذه الأزمة عن تصاعد الاعتماد على آسيا، وعلى وجه الخصوص، تايوان، في إنتاج هذه الرقائق، وهو ما دفع الدول المختلفة مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين إلى التفكير في وضع استراتيجيات لتصنيع هذه الرقائق، خاصة في ضوء تعدد استخداماتها المدنية والعسكرية. وعلى الرغم من أن «شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات»، وهي أكبر شركة لتصنيع أشباه الموصلات في العالم، قد زادت ميزانية الإنفاق الرأسمالي لعام 2021 إلى 28 مليار دولار، غير أن تمويل وبناء مصنع جديد لأشباه الموصلات يستغرق خمس سنوات على الأقل، وهو ما يعني أن الاستثمار في هذا القطاع يستغرق وقتاً طويلاً.
أهمية الرقائق في الصناعات العسكرية
تستخدم المكونات الإلكترونية في الأنظمة العسكرية المتطورة رقائق تشابه نظيرتها في الإلكترونيات الاستهلاكية. ومع ذلك، فإن هناك متطلبات خاصة للصناعات العسكرية، إذ إنها تتطلب أشباه موصلات بميزات معينة. ففي حين أن إنتاج الرقائق التجارية مدفوع بشكل كبير بالتكلفة والإنتاج على نطاق واسع في فترات زمنية معقولة، فإن طلب قطاع الدفاع على الرقائق يركز على الأداء. وبصورة أكثر تحديداً، يجب أن تكون الرقائق الخاصة بالجيش أكثر متانة وموثوقية، ولديها قدرة أعلى على تحمل الحرارة، وفي بعض الحالات، الإشعاعاعات كذلك. وتحتوي العديد من الرقائق الخاصة بالجيش على أشباه موصلات مركبة، والتي تتمتع بخصائص إلكترونية فائقة، مثل التنقل العالي للإلكترون وفجوة النطاق المباشرة، مقارنة بأشباه الموصلات القائمة على السيليكون فقط، إذ تستخدم التطبيقات العسكرية والفضائية الرقائق القائمة على زرنيخيد الغاليوم ونتريد الغاليوم، مثل استخبارات الإشارة، والاتصالات العسكرية، والقدرات الفضائية، والرادارات، وأجهزة التشويش، وغيرها الكثير.
وتلعب تايوان دوراً مركزياً في تصنيع أشباه الموصلات العالمية. لتوضيح ذلك، تمتلك شركة «وين لأشباه الموصلات» في تايوان 9.1 في المائة من إجمالي حصة سوق أجهزة زرنيخيد الغاليوم، والثالثة في العالم بعد الشركتين الأمريكيتين «سكاي وركس» و«كورفو»، واللتين تمتلكان حصصاً سوقية تقدر بحوالي (%30.6) و (%28.6 )على التوالي. ولكن من حيث عائدات المسبك الخالص منزرنيخيد الغاليوم، تمتلك الشركة التايوانية «وين لأشباه الموصلات» الحصة الأكبر بنسبة .(%79.2) أما الشركات الثلاث التالية فهي «أيه دبليو إس سي» ومقرها تاينان (%8.6)، و«جي سي إس» (GCS) ومقرها كاليفورنيا (%4.2)، و«وايفتيك» (Wavetek) ومقرها هسينشو (%3.4) .وتمتلك أكبر ثلاث شركات تايوانية معاً أكثر من (%90) من سوق مسبك زرنيخيد الغاليوم.

Close-up view of a modern GPU card with circuit and colorful lights and details 3D rendering
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تمكنت من تصنيع أشباه الموصلات ذات الصلة بالصناعات الدفاعية في الولايات المتحدة، من خلال شركات مثل «ريثيون» و«نورثروب جرومان»، ومقاولين آخرين، فإن هذا الأمر لا ينطبق على دول العالم الأخرى. كما أن بعض الرقائق التجارية المتقدمة لاتزال تلعب دوراً في بعض الأنظمة التسليحية، مثل الرادارات، والتي يتم الاعتماد على تايوان في شرائها، كما أن رقائق الأجهزة الأخرى، مثل وحدات معالجة الكمبيوتر (CPUs) ووحدات معالجة الرسومات (GPU) وشرائح الذاكرة يتم تصنيعها أيضاً في الغالب خارج الولايات المتحدة، وعلى الأخص في تايوان.
ولا يعني ما سبق أن تايوان تعدُّ اللاعب الوحيد في سلسلة توريد أشباه الموصلات، فلا تزال الولايات المتحدة تحتل مراكز مهيمنة خاصة في تصميم الرقائق، وأدوات البرمجيات الإلكترونية. وتحتكر شركة «إيه إس إم إل هولدينغ إن في» الهولندية سوق الآلات اللازمة لتصنيع أفضل الرقائق، في حين تعدُّ اليابان مورداً رئيسياً للمعدَّات، والمواد الكيميائية، والرقائق.
ومن جهة ثانية، فإنه في التطبيقات الدفاعية والعسكرية، تعطي الرقائق الإلكترونية الأسرع ميزة استراتيجية على الخصم. ولتحقيق هذه الغاية، تُستخدم أشباه الموصلات لمجموعة متنوعة من الأغراض بما في ذلك الاتصالات وأنظمة القيادة والتحكم وأنظمة الاستهداف وأنظمة الرادار وألعاب الحرب عالية الدقة والأنظمة المستقلة مثل الطائرات المسيرة. كما أن أهمية الأمن القومي لرقائق أشباه الموصلات تتجاوز بكثير تطبيقات الأمن القومي المباشرة إلى مجال الأمن الاقتصادي للدولة، والتقنيات المهمة من الناحية الجيوسياسية، خاصة تلك المتعلقة بالبنية التحتية والخدمات الحيوية. ويقدم الذكاء الاصطناعي مثالاً على ذلك، إذ تعتبر أشباه الموصلات محركاً أساسياً لتطور وانتشار ووظائف تطبيقات التعلم الآلي الحالية والمستقبلية، حيث يعتمد الذكاء الاصطناعي على ثلاث ركائز مترابطة وهي: البيانات، والخوارزميات، والقوة الحاسوبية. ويلاحظ أن القوة الحاسوبية هي التي تجعل البيانات والخوارزميات تنبض بالحياة. وبالتالي، مع ازدياد تعقيد أنظمة الذكاء الاصطناعي، فإنها تتطلب أيضاً قوة حاسوبية متزايدة، وبالتالي، تفرض تطوير وظائف الرقائق الإلكترونية، وتدقع باستمرار في اتجاه توجيه الاستثمارات لمجالي البحث والتطوير عليها.
تهديد الأمن القومي للدول
باتت «الرقائق الإلكترونية» تفرض تهديداً متزايداً على الأمن القومي للدول، ليس فقط من المنظور العسكري الضيق للأمن، أي بسبب الدور الذي تلعبه هذه الرقائق في العديد من الصناعات الدفاعية، ولكن نظراً لتأثيرها كذلك على اقتصادات الدول، وإمكانية توظيفها من جانب الدول الأخرى، كإحدى أدوات العقوبات، وهو ما يهدد الرخاء الاقتصادي الدولة، بشكل مباشر، أي أنه يمثل مهدداً للأمن الاقتصادي للدول. ويمكن توضيح ذلك في النقاط التالية:
1- تهديد الاقتصاد الصيني: استغلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب نقطة ضعف بعض الشركات الصينية، وقامت بمنعها من الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، وهو ما وضح في حرمان «هواووي تكنولوجيز» من الحصول على أشباه الموصلات من شركة «تايوان لأشباه الموصلات» في 2018، وغيرها من الشركات، مما أدَّى إلى إعاقة تقدُّم أكبر شركة تقنية في الصين، وأدى إلى تسجيل الشركة خلال الربع الثاني من 2021، أكبر تراجع ربع سنوي لمبيعاتها، بنسبة (%38) سنوياً إلى 168.2 مليار يوان (26 مليار دولار)، حسب وكالة بلومبرج للأنباء الأمريكية.
2- محاولة تهديد الصناعات العسكرية الروسية: سعت الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على روسيا، بسبب إقدامها على تنفيذ هجوم عسكري على أوكرانيا، رداً على رفض الولايات المتحدة ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن تهديد كييف موسكو بامتلاك أسلحة نووية. ورداً على ذلك، قامت واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية على موسكو، كما أنها اتجهت إلى محاولة منع موسكو من شراء بعض المنتجات التقنية المتقدمة، في محاولة لإضعاف الصناعات العسكرية الروسية.
وتعهدت «شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية»، أكبر شركة لتصنيع الرقائق في العالم، والتي تسيطر على أكثر من نصف السوق العالمية للرقائق المصنوعة حسب الطلب، بالامتثال الكامل لضوابط التصدير الأمريكية.
3- تهديد الصناعة العالمية: تراجعت مبيعات السيارات حول العالم في ظل تداعيات أزمة نقص إمدادات الرقائق الإلكترونية المستخدمة بصناعة السيارات خلال عام 2021. ويعاني إنتاج السيارات العالمي أزمة نقص إمدادات الرقائق، ما أجبر العديد من الشركات الكبرى إلى وقف أو تقليص عدد ساعات العمل في الكثير من مصانعها. فقد أعلنت مجموعة شركات صناعة السيارات الكورية الجنوبية «هيونداي موتور جروب»، عن تراجع مبيعاتها في الولايات المتحدة خلال الشهر الماضي بنسبة% 13 سنوياً في ظل استمرار أزمة نقص إمدادات الرقائق الإلكترونية المستخدمة في صناعة السيارات. وكذلك تعطل خط الإنتاج لشركات أخرى، مثل«فولكس فاجن» الألمانية، و«فورد موتور» الأمريكية، و«تويوتا موتور» اليابانية. كما هبط سهم شركة أبل بنحو 1.45 بالمئة في أكتوبر 2021، مدفوعاً باعتزام الشركة تخفيض إنتاجها من الهواتف بحوالي 10 ملايين وحدة، بعدما كان مقرراً إنتاج 90 مليون وحدة خلال الربع الأخير من عام 2021، وكذلك تقليص إنتاج أجهزة الشركة الأخرى مثل ماك وآيباد.

NUREMBERG / GERMANY – APRIL 7, 2019: Hyundai logo on a Hyundai car at a car dealer. The Hyundai Motor Company is a South Korean multinational automotive manufacturer headquartered in Seoul.
تدابير مقابلة
اتجهت أغلب الدول إلى تبني سياسات لتقليص اعتمادها على الرقائق الإلكترونية المستوردة من الخارج، وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أبرز الجهود، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- استثمارات أمريكية في الرقائق: اقترحت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حزمة استثمارات في البنية التحتية الأمريكية، ومقدارها 2 تريليون دولار، وستتضمن 300 مليار دولار لتعزيز قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة، من بينها 50 مليار دولار لإنتاج وبحوث الرقائق الإلكترونية.
2- خطط أوروبية مماثلة: يهدف الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز «سيادته التقنية»، خاصة في مجال الرقائق الإلكترونية، وذلك من خلال تحالف بين القطاعين العام والخاص، فضلاً عن توجيه استثمارات تصل إلى 30 مليار يورو ( 36مليار دولار) في البداية، لكي يرفع حصة أوروبا في سوق الرقائق العالمية إلى (%20) بدلاً من نسبة ( (%10الحالية، دون تحديد جدول زمني مستهدف. كما أن الاتحاد نجح إلى حدِّ ما في تشجيع تايوان على زيادة الاستثمارات في دوله التي تضم 27 دولة، إذ عزَّزت شركة «غلوبال ويفرز» التي تتخذ من مدينة «هيسنتشو» مسقط رأس شركة «تايوان لأشباه الموصلات»، عرضها لشركة «سيلترونيك إيه جي» الألمانية لتقييم الشركة بمبلغ 4.4 مليار يورو، وهو استحواذ من شأنه أن يخلق أكبر مصنع لرقائق السيليكون في العالم من ناحية الإيرادات.
وتقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن شركات أشباه الموصلات قد تلقت أكثر من 50 مليار دولار من الدعم الحكومي بين عامي 2014 و2018 . ويرجع ذلك إلى حقيقة أن الدول المختلفة ترى في إنتاج الرقائق أولوية وتقدم حوافز لجذب مصنعي أشباه الموصلات، بما في ذلك المنح والاستثمارات في الأسهم ودعم البنية التحتية، والإعفاءات الضريبية.
3- البحث عن بدائل: يدفع قيام الولايات المتحدة بتوظيف عقوبات الرقائق الإلكترونية كسلاح إلى قيام الدول المتضررة، مثل الصين، بتعزيز قدراتها في مجال تصنيع هذه الرقائق، أو قيام هذه الدول الواقعة تحت العقوبات بالتعاون مع دول أخرى، لا تخضع للضغوط الأمريكية، مثل روسيا.
ولذلك توقع المحللون أن بعض الشركات الصينية، وخاصة تلك التي كانت هي نفسها هدفاً للعقوبات الأمريكية، مثل شركة هواوي الصينية قد تساعد روسيا في الالتفاف على ضوابط التصدير الأمريكية، أي أن تصبح بديلاً مأموناً لروسيا، خاصة أن هناك من المؤشرات التي تكشف أن الدول الغربية لم تعد وحدها، هي موطن التكنولوجيا الحديثة المتقدمة، بل تمكنت دول أخرى من منافستها، بل وتحقيق الريادة عليها في بعض المجالات، مثل نجاح روسيا والصين في تطوير صواريخ فرط صوتية، وهي نوعية الصواريخ، التي لم تطورها بعد أي دولة غربية.
الختام
يمكن القول إن أزمات سلاسل إنتاج الرقائق الإلكترونية، ومساعي بعض الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة، لتوظيف نفوذها العالمي، على بعض الشركات الرائدة في هذا المجال، خاصة الشركات التايوانية، ودفعها لقطع إنتاجها عن شركات صينية، أو روسية سوف يدفع الدول إلى محاولة تعزيز استقلاليتها التقنية في مجال إنتاج هذه الرقائق، خاصة في ظل اعتماد العديد من الصناعات المدنية والعسكرية عليها، أي أن هذه الرقائق الإلكترونية يمكن توظيفها في تهديد الأمن القومي للدول، بشقيه الاقتصادي والعسكري.
» د. شادي عبدالوهاب (باحث عسكري واستراتيجي)