من المتعارف عليه أن الأفلام العسكرية هي نمط الأفلام الذي يهتم بتناول الحروب والموضوعات المتصلة بها، مثل أسرى الحرب والعمليات العسكرية السرية منها والمعلن عنها وكذا التدريبات العسكرية والحياة اليومية للجنود أو للمدنيين وقت الحرب. وقد تكون الأفلام مستندة إلى رواية أو قصة تاريخية حقيقية أو سيرة إحدى الشخصيات العسكرية، كما قد يكون الفيلم عبارة عن أحداث وثائقية عسكرية.
من بين أهم أهداف الأفلام العسكرية تعزيز الروح الوطنية وحب الوطن والانتماء والتعاضد المجتمعي وتنمية رأس المال الاجتماعي خصوصاً لدى الأجيال الجديدة التي تتعرض بشكل يومي لأنواع أخرى من الدراما قد تكون لها تأثيرات سلبية عليها. فالحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيزها يحتاج إلى وسائل عديدة، من بينها إنتاج الأفلام العسكرية لتعزيز رأس المال الاجتماعي، والذي بات يحتل أهمية قصوى في عصر تُستهدف فيه الهويات والثقافات بشكل غير مسبوق، وما ترتب على ذلك من تأثيرات سلبية على النسيج الاجتماعي والثقافة الوطنية للعديد من المجتمعات العربية. حيث تساهم هذه الأفلام، من خلال قدرتها على تشكيل وجدان الأفراد، في تكوين وتعزيز رأس المال الاجتماعي وقيمه المؤسسة وتعزز من دوره الإيجابي في المجتمع. ومن أهم تلك القيم: القدرة على العمل الجماعي المشترك، قيم الثقة بين الأفراد، وبينهم وبين المؤسسات المختلفة، الحكومية وغير الحكومية. والثقة بين الفرد والدولة، وقيم التعاون والتضامن، والقيم التي تعزز الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية. والقيم التي تُعلي من شأن تماسك النسيج الاجتماعي وتعزيز القيم والمعايير الأخلاقية التي تدفع أفراد المجتمع نحو التضامن والتعاون وتعزز لديهم قيم الولاء والانتماء وهي جوهر الهوية الوطنية.
التاريخ والحاضر
يعتبر فيلم «ولادة أمة» لدايفيد غريفيث المنتج عام 1915 أول فيلم عسكري في تاريخ السينما العالمية، ويعد من أنجح وأضخم الأعمال السينمائية في تلك الفترة، وتدور أحداثه حول تأثير الحرب الأهلية الأمريكية على عائلتين مختلفتين إحداهما من الشمال والأخرى من الجنوب. ثم تزايدت تلك الأفلام بعد الحرب العالمية الأولى وكان معظمها يستهدف في الأساس الدعاية للجيش الأمريكي وشيطانة الجيوش المعادية له. وأصبح الكثير من تلك الأفلام يمثل علامات في الحياة الوطنية الأمريكية، مثل فيلم المخرج جورج كوهان «هناك» والذي ما زال يردد أغنيته الرئيسية «امسك بندقيتك» الجنود في الولايات المتحدة حتى الآن في مناسبات عدة.
وعندما احتاجت الولايات المتحدة الأمريكية لسن قوانين تفرض على كل شاب أمريكي دخول الخدمة العسكرية أثناء الحرب العالمية، تم إنتاج أفلام مثل «المجند باك» و«في البحرية» و«استمر بالطيران» لتسويغ تلك الفكرة.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أخذت سينما الأفلام العسكرية بالتطور، فبدأت بطرح قضايا البطولة والتضحية وخدمة الوطن إضافة إلى المغامرة والشجاعة والبطولة، مثل «أفضل سنوات في حياتنا» 1946 و«قرار القائد» 1948 و«ساحة المعركة» 1949 و«أرض الشجعان» 1949 و«أسلحة نافارون» 1961. وبمرور الوقت وصلت السينما في هوليوود من التقدم والحرفية العالية لدرجة بداية من أفلام مثل «الخيط الأحمر الرفيع» ومروراً بأفلام مثل «رامبو» و«إنقاذ الجندي رايان» من إخراج ستيفن سبيلبيرغ وصولا لأفلام مثل «American Sniper».
وعلى الجانب الصيني حطم الفيلم العسكري «Zhan Lang 2» كل الأرقام القياسية في النجاح، والذي تم إنتاجه عام 2017 تزامناً مع الاحتفال بالعام بمرور 90 عاماً على إنشاء الجيش الأحمر، ويحكي مغامرات عضو سابق في القوات الخاصة الصينية في منطقة حرب في إفريقيا.
ومنذ وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 1999، والسينما الروسية تسعى من جانب لاعادة الهيبة لجيشها، ومن جانب آخر لمواجهة تراجع حساسية الشباب للوطنية ورغبتهم بالمشاركة في الأحداث الجماهيرية. ومن أجل ذلك، أطلقت روسيا في أبريل 2019 قناة Pobeda (النصر) التي تستهدف الشباب وتبث أفلاماً على مدار اليوم تشيد ببطولة الجيش مثل فيلم Tanks for Stalin.
وعلى الجانب الفرنسي، لا تتوقف السينما العسكرية عن الازدهار منذ الحرب العالمية الثانية، ويساهم الجيش في صناعة الأفلام العسكرية وحتى بكتابة سيناريوهات بعض تلك الأفلام، ولكن أهم ما يقدمه هو أماكن التصوير والمعدات العسكرية اللازمة للإنتاج، فكما يقول الفرنسيون: «لن تبدو أي دبابة حقيقية مثل الدبابة الحقيقية».
وعلى المستوى العربي، أنتجت في مصر أفلام عسكرية عديدة خصوصاً بعد حرب أكتوبر المجيدة مثل الرصاصة لا تزال في جيبي (1974)، أبناء الصمت (1974)، الوفاء العظيم (1974)، بدور (1974)، العمر لحظة (1978)، إعدام ميت (1985)، حكايات الغريب (1992)، الطريق إلى إيلات (1993)، يوم الكرامة (2004)، وتطورت تلك الأفلام ووصلت لدرجة عالية من الجودة من خلال أفلام أنتجت حديثا مثل أولاد العم (2009)، والممر (2019).
«الكمين».. الرسالة ودلالات التوقيت
في هذا السياق، نستطيع القول إن السينما الإماراتية العسكرية ولدت عملاقة بإنتاجها لفيلم الكمين بتكلفة 128.5 مليون درهم، وتبلغ مدته 109 دقائق. وهو إنتاج مشترك بين « إيميج نيشن أبوظبي» و«إيه جي سي إنترناشيونال»، ويُعد «الكمين» أكبر إنتاج سينمائي باللغة العربية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، وصورت كافة مشاهده في الإمارات، وبالتحديد في رأس الخيمة بموقع جبلي ناءٍ، يحاكي موقع الحدث الرئيسي في اليمن. واستغرق العمل عليه حوالي عامين، حيث بدأ التصوير في فبراير 2020.
وشارك في الفيلم ممثلون وطاقم عمل يزيد على 400 سينمائي، على رأسهم المخرج الشهير بيير موريل مخرج فيلم «تسكن» و«ديستريكت بي 13»، والمنتج «ديريك داوتشي» منتج فيلم «فرانكشتاين» والمنتجة «جينيفر روث» منتجة فيلم «بلاك سوان» إلى جانب الجنود الإماراتيين الذين حدثت معهم قصة الفيلم على أرض الواقع مثل العقيد محمد المزروعي قائد مهمة تخليص الجنود من الكمين، وأبطال العمل من الممثلين الواعدين من الإماراتيين الذين أُسندت إليهم الأدوار الرئيسية في الفيلم، ومن بينهم: مروان عبدالله صالح، وخليفة الجاسم، ومحمد أحمد، ومهيرة عبدالعزيز.
وتدور أحداث الفيلم حول أحداث حقيقية حدثت في شتاء عام 2018 لبعض القوات الإماراتية التي كان مكلفة بتقديم المساعدات الإنسانية للشعب اليمني، والتي وردت إليها معلومات خاطئة أوقعتهم في كمين داخل واد جبلي، تحت حصار عناصر من المتمردين الحوثيين. مما أدى إلى استشهاد جندي وإصابة آخرين. ويستعرض الفيلم بالتفصيل الملحمة التي تسرد كيف تحرك ضباط القوات الإماراتية لإخراج زملائهم من الكمين في مهمة خطيرة من نوعها، مخاطرين بحياتهم ليتمكنوا من إنقاذ زملائهم.
ونجح الفيلم من جانب في نقل بطولات الجنود بصورة باهرة لازمها التشويق والإثارة من البداية وحتى النهاية، ومن جانب آخر في إثارة شعور أبناء الإمارات بالفخر بأبطالهم الذين وضعوا حياتهم على المحك في سبيل وطنهم وفي سبيل ترسيخ قيمه النبيلة، وذلك من خلال مشاهد تعج بهذه القيم ومنها الأخوة والوحدة القومية والتضحية وبذل الغالي والنفيس من أجل الوطن. وبهذا سيخلد الفيلم تلك الملحمة في ذاكرة الإمارتين عبر الأجيال.
كما استطاع الفيلم تقديم قوة تدريب الجيش الإماراتي واحترافيته وامتلاكه أحدث الأسلحة المتطورة، وبسالة قواته المسلحة في اليمن، وضمن عاصفة الحزم، والتي كما صرح المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، أنور قرقاش تستحق الكثير من المؤلفات والأعمال السينمائية والدرامية لسرد قصصهم البطولية وتضحياتهم.
ومن اللافت للنظر أن فيلم «الكمين» خرج للنور أواخر شهر نوفمبر وغرة شهر ديسمبر في توقيت جمع بين يوم الشهيد وعيد الاتحاد الخمسين، مما يمثل إشارة مهمة على رمزية خروج الفيلم في ذلك التوقيت. مما يجعلنا نستطيع القول إن فيلم الكمين جسد نظريات علم الاجتماع في تعزيز الانتماء الوطني مثل «خريطة فوائد الفنون» لبراون، ونظرية مكارثي «لتنشيط المجتمع» و«التداعيات العامة أو الصدى العام» لآزيفيدو، وذلك بتعزيزه لرأس المال الاجتماعي الذي يلعب دوراً أساسياً في بناء الفعل الجماعي وتقوية وتدعيم أسس التناسق والانسجام داخل المجتمع.
فتصدر وسم الفيلم #الكمين، موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، حيث حقق عدد مشاهدات تزيد على « 15 مليون» مشاهدة حول العالم في يوم عرضه الأول. وعبر المغردون من خلال الوسم عن فخرهم واعتزازهم بجنودهم الذين يضحون بأرواحهم في سبيل الدفاع عن قناعاتهم والدفاع عن القيم السامية التي تعلموها في المجتمع الإماراتي كالأخوة والشجاعة والتضحية وحب الوطن.
وعبر الكثير من المغردين عن كيف أثر عليهم فيلم الكمين، فقال أحدهم: «الكمين فيلم إماراتي مؤثر ورائع، يخلد ذكرى شهدائنا في حرب اليمن.. تأثرت جداً بهذا العمل.. هذا النوع من الأعمال التي تسطر تضحيات جنودنا تستحق من يخلدها».
أخيراً في كتابه «تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية» يقول محمد جابر الأنصاري إن الدولة التي لم تحارب هي دولة غير مكتملة التكوين، ويمكننا القول هنا إن الدولة التي حاربت ولم تؤرخ سينماتها بطولات جنودها هي سينما لم تولد بعد. ويمكننا القول إن فيلم الكمين أَرَّخَ لميلاد السينما العسكرية الإماراتية العملاق، بعد إنتاجها فيلم «خورفكان 1507»، المقتبس عن المؤلَّف التاريخي «مقاومة خورفكان للغزو البرتغالي – سبتمبر 1507» لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، والذي طرح في شهر نوفمبر 2020، وقدم ملحمة مقاومة الشعب الإماراتي للغزو البرتغالي الذي كان يسعى للسيطرة على شواطئ مدينة خورفكان في القرن السادس عشر ميلادي.
فدولة الإمارات التي لم تشهد صناعة فيلم محلي سوى في العام 1988 وهو فيلم «عابر سبيل» للمخرج علي العبدول، استطاعت خلال الأعوام الماضية أن تتقدم بخطوات واثقة على صعيد عدد الأفلام المنتجة ومضامينها ومستواها الفني، لإيمانها أن السينما، خصوصاً العسكرية منها، هي صناعة ثقافية ممنهجة وناجعة، وآثارها جلية في تشكيل الأبعاد الفكرية والنفسية والوجدانية والمزاجية والدينية والقيمية لدى قطاع كبير من الأفراد.
أ.د. وائل صالح باحث رئيسي ورئيس وحدة متابعة الاتجاهات المعرفية في العالم بتريندز للبحوث