يعد القرن الحادي والعشرون واحداً من أهم فترات التغيير، حيث تتكثف خلاله وتيرة التغير المناخي، وهو ما استدعى أفضل الجيوش في العالم لمواجهة التحدي المستقبلي لتغير المناخ وتشكيل مفهوم للحرب من خلال تطوير الاستراتيجيات العسكرية لمواجهة تلك التغيرات، والتحسب لآثرها على قواتهم المسلحة. وعلى ضوء ذلك، بات تغير المناخ نسخة بطيئة الحركة من وباء «كوفيد 19»، وهو ما تتحسب له الجيوش العظمى مستقبلاً، وسيكون موضع التناول في المحاور التالية من الدراسة:
ترجح أغلب التقديرات إلى زيادة حدة الصراع العنيف والمسلح في القرن الحادي والعشرين، وأن العديد من تلك الصراعات ستنشأ نتيجة عدة عوامل من أبرزها تغير المناخ. فهناك دراسات سابقة تشير إلى أن ما تسمى بـثورات «الربيع العربي» كان من ضمن أسباب اندلاعها ما له علاقة بالمناخ، وذلك بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وما إلى ذلك. ولذا ليس من الصعب أن نرى أن تغير المناخ من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم وتأجيج الاضطراب الاجتماعي وربما يتطور إلى صراع عنيف.
لذا بات تغير المناخ، بلا شك، عاملاً مضاعفاً لتهديد الصراع، وعلى ضوء ارتباط النزاع المسلح بالتغير المناخي، فقد أشارت بيانات إحصائية إلى زيادة نسبة 10 إلى 20 % فيما يتعلق بخطر النزاع المسلح المرتبط بكل زيادة نصف درجة في درجات الحرارة المحلية، ويمكن أن يكون ذلك تقديراً متحفظاً. علاوة على أن هناك إجماعاً واسعاً من الباحثين حول تأثير تغير المناخ على زيادة انعدام الأمن الغذائي، وندرة المياه، والتنافس على الموارد، وتعطيل سبل العيش، وتحفيز الهجرة أو ما يسمى بـ «لاجئي البيئة»، وجميعها عوامل يمكن أن تلعب دوراً رئيسياً في تشكيل الصراعات الدامية. وهناك بالفعل دراسات قد أثبتت أن المناخ قد أثر على ما بين 3 % و20 % من مخاطر الصراع المسلح خلال القرن الماضي وأن التأثير سيزداد بشكل كبير على الأرجح في القرن الحادي والعشرين. وحسب متخصصين في مجال البيئة فإن تقدير دور تغير المناخ وتأثيراته الأمنية مهم ليس فقط لفهم التكاليف الاجتماعية لانبعاثاتنا المستمرة في الاحتباس الحراري، ولكن أيضاً لتحديد أولويات الاستجابات، وهو ما دفع الجيوش العظمى للتحسب لاحتمالية نشوب صراع في المستقبل واتخاذ قرارات مستنيرة حول الكيفية التي ينبغي بها التخفيف من حدة تغير المناخ على ساحات القتال المستقبلية. وجد الباحثون في جامعة برينستون وجامعة كاليفورنيا في بيركلي أن ارتفاع متوسط درجة الحرارة السنوية بمقدار درجة مئوية واحدة (1.8 درجة فهرنهايت) يؤدي إلى زيادة ما نسبته 4.5 % في الحرب الأهلية في ذلك العام.
هل يسبب تغير المناخ الحروب؟
في ظل تصاعد أزمة المناخ هناك تساؤل يطرح نفسه وهو: كيف ستبدو ساحة المعارك المستقبلية، بالنظر إلى حروب القرن العشرين التي دارت على الأرض والدين والاقتصاد، فيما يتوقع الباحثون أن حروب القرن الحادي والعشرين سيتم خوضها على شيء مختلف تماماً: تغير المناخ، ونقص المياه والغذاء الذي سينتج عنه. وقد خلصوا إلى أنه عندما تكون ظروف بقاء مجموعات من الناس مهددة، فإن احتمال قيام صراع عنيف يبقى عالياً، وهذا مبدأ أساسي للغاية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاحتباس الحراري لن تفيد الشرق الأوسط بأي شكل من الأشكال، فهناك أدلة كثيرة على أن المنطقة ستكون الأكثر تضرراً من تغير المناخ. ويتوقع الخبراء أنه بسبب الاحتباس الحراري، فإن نهري دجلة والفرات «سيختفيان هذا القرن»، مما يجعل الصراع أكثر إغراءً إذا عادت السيطرة السياسية المتنازع عليها إلى «الهلال الخصيب».
وفي ظل تسريع الاحتباس الحراري من وتيرة الصراعات التي تؤدي إلى الأعمال العدائية، يشار إلى أن حوالي نصف الدول الخمس والعشرين الأكثر عرضة للأزمة هي أيضاً في صراع عسكري. وفي رؤية استشرافية نحو المستقبل نجد أن أفغانستان باتت تجسد نوعاً جديداً من الأزمات الدولية، حيث تضاعفت درجات الحرارة في بعض المناطق أكثر من المتوسط العالمي، وتضاءلت أمطار الربيع بشكل مقلق في أهم منطقة زراعية بالبلاد. تزيد أزمة المناخ من تفاقم النزاعات على المياه، مما دفع السكان إلى مغادرة منازلهم. وقد أجبر الجفاف الذي ضرب أفغانستان عام 2018 أربعة ملايين شخص على الاعتماد على المساعدات الغذائية.
الجيوش العظمى
وعلى ضوء مخاطر التغيرات المناخية على أمن الدول العظمى، فقد خلص مجلس الأمن الروسي في مناقشة كيفية تأثير التغيرات في مناخ الأرض بشكل مباشر على أمن روسيا وعلاقاتها مع جيرانها، إلى أنه على الصعيد المحلي، فإن روسيا معرضة للخطر أكثر من معظم الدول؛ نظراً لحجم منطقة التربة الصقيعية في روسيا (ما يقرب من 66 % من مساحة البلاد)، فإن الانصهار الذي يحدث الآن يهدد بتقويض أسس مدن بأكملها، حرفياً. على حد تعبير أحد الخبراء، ستصبح ربع المنازل المبنية في تيكسي، وياكوتسك، وفوركوتا، وغيرها من المراكز السكانية غير صالحة للسكن على الإطلاق. لقد أصبح تغير المناخ وعواقبه مصدر قلق عام رئيسي وقضية سياسية في العديد من البلدان. ففي بعض البلدان، يشمل هذا أيضاً الجهات الفاعلة في مجال الأمن القومي، ولا سيما القوات المسلحة على وجه الخصوص، في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تعد سياسات تغير المناخ من القضايا الرئيسية للجيوش.
في حين أن المعرفة بتأثير تغير المناخ على دور القوات المسلحة والعمليات العسكرية والمنشآت شحيحة، فيما بدأت في العقد الحالي تحركات نحو التخطيط لمستقبل يتسم بتغير المناخ. علاوة على ذلك، تم بالفعل اتخاذ بعض الإجراءات، لا سيما فيما يتعلق بجهود التخفيف في هذين البلدين. في كلا البلدين، على سبيل المثال، تم وضع أهداف محددة لخفض غازات الدفيئة لمعظم الأنشطة العسكرية .
لا تزال هناك اختلافات واضحة. ففي الولايات المتحدة، كان الجيش، وتحديداً البحرية، رائداً في سياسات تغير المناخ. كان كل من قادة البحرية الأمريكية السابقين والنشطين من أوائل المؤيدين لأخذ تغير المناخ على محمل الجد، في وقت كانت فيه السياسة الأمريكية الرسمية لا تزال متشككة بشأن حقيقة تغير المناخ. يبدو أن الدور القيادي للبحرية في الولايات المتحدة يتعلق بالمخاوف العامة بشأن اتجاه سياسة الولايات المتحدة بشأن تغير المناخ أكثر من ارتباطها بالمصالح المباشرة للبحرية. ومع ذلك، فهي موجودة أيضاً، على سبيل المثال فيما يتعلق بإمكانية الحاجة إلى حماية أفضل للقواعد البحرية أو حتى نقلها. مقارنة بالبحرية الأمريكية، تأخر انضمام أفرع أخرى من القوات المسلحة الأمريكية. علاوة على ذلك، لديهم أولويات مختلفة إلى حد ما، حيث ينصب التركيز الأساسي للقوات الجوية والجيش على تقليل استهلاك الطاقة وأمن الطاقة، مع خفض غازات الاحتباس الحراري كأثر جانبي مرحب به. في المملكة المتحدة، العلاقة بين تغير المناخ وسياسات الطاقة أقل قوة مما هي عليه في الولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، تبنى الجيش البريطاني أجندة مفصلة ومحددة بشأن تغير المناخ. ويشمل، بالإضافة إلى جهود التخفيف، دراسات حول الآثار المستقبلية لتغير المناخ والتزام عام بتحسين الاستعداد لمواجهة هذه التحديات.
فيما يبدو أن كلاً من الجيشين الروسي والصيني لم يوليا سوى اهتمام ضئيل لعواقب تغير المناخ على أنشطتهما المستقبلية. ومع ذلك، هناك اختلافات واضحة مرة أخرى. في الحالة الروسية، تحظى القضايا الأخرى العاجلة بأولوية أعلى بكثير على أجندات الجهات الفاعلة في مجال الأمن القومي. أولها إعادة بناء القوات المسلحة الروسية وتحديثها وإصلاحها. علاوة على ذلك، فإن تغير المناخ ليس حجة جيدة لأولئك الذين يضغطون من أجل التحديث بسبب القليل من الاهتمام بعواقب تغير المناخ في الخطاب العام والسياسي في روسيا. ومع ذلك، فإن هذا يختلف فيما يتعلق بالقطب الشمالي، هنا يوجد اهتمام كبير بروسيا. لكن في الوقت الحالي، تُفضل الأساليب التعاونية في سياسة القطب الشمالي الروسية. على عكس الحالة الروسية، في الصين، يبدو أن القيادة العسكرية مدركة تماماً للتأثيرات المحتملة لتغير المناخ على دورها ومطالبها العملياتية ومنشآتها. ومع ذلك، فإن التصريحات العامة، وربما حتى المناقشات الداخلية، تقتصر إلى حد كبير على غرس الأشجار والإغاثة من الكوارث. هذه العمليات، إذا كان بوسع المرء تسميتها كذلك مهمة للجيش الصيني، لكن الأكثر حسماً في الجدل الصيني هي الحدود التي تضعها القيادة السياسية. إن اتخاذ موقف أكثر فاعلية للجيش الصيني بشأن قضايا تغير المناخ من شأنه أن يقوض الموقف الصيني الرسمي، وهو أن تغير المناخ هو قضية تنموية وليست أمنية. في حين أن تكيف استراتيجيات وعمليات القوات المسلحة مازالت في مرحلة الدراسة، حتى في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فإن تحليل تهديد تغير المناخ للمنشآت، وخاصة ارتفاع مستوى سطح البحر، يكون أكثر إلحاحاً. تقوم كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وربما الصين أيضاً، بالتحقيق في هذه المشكلة بالتفصيل.
الاستراتيجيات المستقبلية
بدأت في مطلع العقد الجديد تولي الجيوش العظمى أهمية قصوى لانعكاسات التغير المناخي على قواتها المسلحة، حيث لم تعد أزمة تغير المناخ تمثل مشكلة لقادة الدفاع في المستقبل فحسب، بل باتت تحدياً فورياً، والآن بعد سنوات من تجنب إدارة ترامب القضية، طلبت إدارة بايدن 617 مليون دولار في السنة المالية 2022 من أجل الاستعداد لتغير المناخ والتكيف معه والتخفيف من آثاره.
بالإضافة إلى ذلك، أطلق وزير الدفاع لويد أوستن، بعد أن حدد بالفعل تغير المناخ كأولوية قصوى، مجموعة عمل المناخ استجابةً لأمر تنفيذي صدر في يناير وقعه الرئيس جو بايدن. وتكشف الاستراتيجية التي يعكف الجيش الأمريكي على كتابتها عن خطة عمل «مفصلة للغاية» بشأن تغير المناخ تحدد جهداً متعدد السنوات لكيفية معالجة الجيش لقضايا المناخ. فمن جانبه يبحث سلاح الجو، الذي يعد بحد ذاته مساهماً رئيسياً في تغير المناخ، عن طرق جديدة لتحسين القدرة القتالية لأسطوله مع تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. كما يدرس الجيش تقنيات الإمداد بالطاقة والتخزين، وتوزيع الطاقة على مستوى النظام الذي يدعمه الذكاء الاصطناعي، واستخدام مصادر الطاقة المتجددة للاستخدام في السياقات التشغيلية، بما في ذلك قواعد التشغيل الأمامية والتكتيكية واستخدام مصادر الوقود البديلة التي من شأنها زيادة القدرة على التحمل التشغيلي داخل القوة مع تقليل انبعاثات الكربون. علاوة على حاجة الجيش الأمريكي إلى توليد الطاقة في ساحة المعركة في البيئات الصعبة. ويساهم سلاح المهندسين بالجيش أيضاً في الجهود المبذولة على مستوى الإدارة، بعد أن صمم أداة التقييم المناخي لوزارة الدفاع، والتي تتنبأ بآثار تغير المناخ على ما يقرب من 1400 موقع تابع لوزارة الدفاع. بالإضافة إلى ذلك، يتم البحث عن مناهج فريدة لتطوير مواد البناء لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وأما عن الاستراتيجية العسكرية للجيش البريطاني لمواجهة تغير المناخ، فقد قررت حكومة المملكة المتحدة في عام 2021 وما بعده أن تجعل معالجة تغير المناخ أولويتها الدولية الأولى. وفي الإطار المتعلق بالدفاع، ستأخذ زمام المبادرة في الاستجابة للتهديدات الجيوسياسية الناشئة والمتعلقة بالصراع والتي تفاقمت بسبب تغير المناخ، حيث تتطلب البيئات المستقبلية من قواتها المسلحة توقع التغيير في بلوغ درجات الحرارة القصوى، وزيادة الفيضانات، وأسباب جديدة غير مألوفة للصراع، أي أن الطريقة التي يمكن أن يغير بها تغير المناخ عالمنا في نهاية المطاف معقدة ويصعب التنبؤ بها. ففي المرحلة الأولى من الاستراتيجية العسكرية لجيش المملكة المتحدة تم وضع الأسس (2021 – 2025)، حيث ستقدم وزارة الدفاع خطوة تغيير في المشاريع التي تم التخطيط لها بالفعل ستشمل:
الحقبة الأولى: العمل مع الموردين لتحديد طرق تقليل الانبعاثات في سلسلة التوريد من خلال المعدات التي تستخدم، وسيتم بناء قاعدة بيانات وخط أساس شامل للسماح باتخاذ قرارات بشأن خطة مفصلة لجميع الموضوعات في الحقبتين الثانية والثالثة، كما سيتم الاستدامة الأوسع من خلال خطط الدفاع السنوية.
الحقبة الثانية: التقليل والملاءمة للمستقبل (2026 – 2035) فستقوم بناءً على النجاحات التي تحققت من الحقبة الأولى، في السنوات التالية، وسيتطلع الدفاع إلى تقليل الانبعاثات بشكل كبير باستخدام التكنولوجيا الحالية والناشئة، وتعظيم الفرص لتعزيز الاستجابة العالمية للتهديد الذي يفرض تغير المناخ على القدرة التشغيلية الحالية والمستقبلية وبناء مزيد من المرونة في العقارات وسلسلة التوريد والمعدات المستقبلية.
الحقبة الثالثة: تسخير المستقبل (2036-2050) والتي ستتم في فترة الخمسة عشر عاماً الأخيرة والتي يتوجب أن تبذل وزارة الدفاع فيها كل ما في وسعها لتسخير التقنيات الجديدة التي تزيد من المرونة وتقلل من الانبعاثات.. ستعتمد هذه الحقبة على الكفاءة والفعالية التشغيلية على الابتكار والاستبصار في العصور السابقة في ضوء الثقافة والسلوك المستدامين.
وأما عن موقف الجيش الصيني من أزمة التغير المناخي فهناك بعض التقارير عن بديل استخدام الوقود من قبل الجيش الصيني، لكنه ليس من الواضح مدى كثافة أو نجاح هذه الجهود. كما تنظر مجموعات الدراسة العسكرية على ما يبدو إلى العواقب المحتملة جراء تغير المناخ على القواعد البحرية. وفي ضوء ذلك لا يزال الجيش الصيني يتعرض لضغوط لتحسين كفاءة الطاقة لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
خاتمة
مما لا يثير الدهشة أن الولايات المتحدة وروسيا والصين تصنف كأقوى الجيوش في العالم، على التوالي بهذا الترتيب. بالإضافة إلى القوة العسكرية لهذه الدول الثلاث، فإنها تمثل أيضاً بعضاً من الدول الأكثر من حيث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. لذلك، بما أن هذه البلدان تتكبد آثاراً ضارة من غازات الدفيئة، فإن التهديدات وتصوراتها السياسية ستشكل كيف يقررون التصرف عسكرياً. ستواجه كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين تحديات فريدة من نوعها على جيوشها بسبب تغير المناخ، وبالتالي تطلب الأمر استجابات فريدة من أجل التكيف. إلى جانب التأثير على كيفية التخطيط للاستراتيجية العسكرية، هناك أيضاً نقاش بين علماء الاستراتيجية العسكرية حول كيف سيؤدي تغير المناخ إلى زيادة الصراع المسلح على مستوى العالم.
د. رانيا فوزي )باحثة في الشؤون الإسرائيلية(