» علي أبوالخير )باحث متخصص في الاقتصاد الدولي (
بعد أن شهد أداء الاقتصاد العالمي خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، توسعاً كبيراً ومتسارعاً، وازدهاراً غير مسبوق في التجارة وحركة رؤوس الأموال، فقد كان عام 2008 بداية لتغير جوهري في ذلك المشهد، ومازالت ملامحه مسيطرة على الاقتصاد العالمي حتى الآن، فقد تراجع زخم التجارة العالمية وأصبحت حركة رؤوس الأموال بين الدول أقل مرونة، ومالت السياسات التجارية للدول إلى الانعزالية .(1)
خيمت تبعات هذه الظروف والمعطيات بوضوح على أداء الاقتصاد العالمي عام 2019، وتسببت في تراجع نموه إلى 2.5%، وهو النمو الأدنى له منذ بدايات الأزمة المالية العالمية عام 2008، مقارنة بنمو بلغ 3.2% و3.1% في عامي 2017 و2018 (2) .وقد وصف الصندوق تراجع النمو بهذا الشكل بـ»الخطير»، وأرجعه إلى تزايد الحواجز التجارية، بشكل زاد من عدم اليقين المحيط بالتجارة؛ بجانب عوامل أخرى تتعلق بالأوضاع الجيوسياسية غير المستقرة في بعض مناطق العالم، كالشرق الأوسط؛ بالإضافة إلى عوامل «متفردة»، تتسبب في ضغوط كلية على اقتصادات الأسواق الصاعدة؛ وعوامل هيكلية، مثل نمو الإنتاجية الضعيف وشيخوخة التركيبة الديمغرافية في الاقتصادات المتقدمة.(3)
ظلال الحرب التجارية تُضعف النمو العالمي
تلخص هذه المقدمة ما يعيشه الاقتصاد العالمي من ظروف ومعطيات غير مواتية منذ ما يزيد على عشرة أعوام، والتي من دون أدنى شكل ستظل ذات ثقلٍ وصدى كبير على أدائه خلال عام 2020؛ فبرغم أن صندوق النقد الدولي يرى فرصاً لعودة بعض الزخم للنمو العالمي هذا العام، لكن تقديراته تشير إلى أن هذا النمو لن يتجاوز بأي حال مستوى 2.7%، كما هو موضح في الشكل رقم .(1) ويعد هذا الأمر منطقياً إلى حدٍ بعيدٍ، لاسيما أن الميل إلى»الإنعزالية» ستظل سمة مشتركة في السياسات التجارية للاقتصادات الكبرى طوال العام، ومن المرجح أن تمتد لفترة زمنية تتراوح بين ثلاثة وخمسة أعوام على أقل تقدير.
وإذا كانت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والتي هي العنوان الرئيسي لحالة الانعزالية التجارية التي يعيشها العالم منذ فترة، شهدت تراجعاً نسبياً خلال الشهور الأخيرة، وذلك كما أعلنت الدولتان اقترابهما من إبرام اتفاق تجاري أطلقتا عليه «اتفاق المرحلة الأولى»، تم توقيعه في الخامس عشر من يناير،(4) 2020 لكن من الصعوبة بمكان تصور انتهاء هذه الحرب كلياً خلال العام، في ظل عوامل عدة، أهمها صعوبة تسوية القضايا الخلافية بين البلدين، كقضية العملة الصينية، المُقيَّمة بأقل من قيمتها، وفق الرؤية الأمريكية، في وقت تُنكِر فيه الصين ذلك؛ بجانب التوجه السلبي للإدارة الأمريكية تجاه الشركات والمنتجات الصينية، وهنا يمكن الإشارة إلى أن الاتفاق الموقع بين الطرفين يبقي على رسوم نسبتها 25% على منتجات صينية بقيمة 250 مليار دولار(5) .كما أن الصبغة الأيديولوجية، التي سيطرت على التوجهات الاقتصادية والتجارية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ودفعته لتبني شعار «أمريكا أولاً»، وانعكست في إيمانه بأن «الحمائية تؤدي إلى ازدهار وقوة كبيرين» لبلاده(6)، ستبقى من دون شك محددة لسياساته تجاه الصين خلال عام 2020.
تحدي تباطؤ الاقتصادات الصاعدة
هناك عامل ثاني سيُلقي بظلاله على أداء الاقتصاد العالمي خلال عام 2020، وهو التراجع الملحوظ في نمو الاقتصادات الصاعدة، وهو عامل مهم ومحوري، لاسيما أن هذه الاقتصادات ظلت هي المحرك الأكثر فاعلية للنمو العالمي طوال العقدين الأخيرين، وفي ظل تجاوز نموها في بعض السنوات ثلاثة أضعاف نمو الاقتصادات المتقدمة، كما حدث عام 2008، وخلال الفترة 2011-2014، وكما هو موضح في الشكل رقم. (2) ومع تجاوز الوزن النسبي للاقتصادات الصاعدة 56% من الحجم الكلي للاقتصاد العالمي، وتراجع الوزن النسبي للاقتصادات المتقدمة إلى 44% منه، فإن تراجع معدل النمو المتوقع لتلك الاقتصادات مستوى 3.9% عام 2020، كأدنى مستوى له منذ عام 2002، فسيكون ذلك سبباً في فقدان الاقتصاد العالمي الكثير من الزخم.
ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى تباطؤ الاقتصاد الصيني، باعتباره الأكثر تأثيراً على أداء الاقتصاد العالمي ككل، لاسيما أن الاقتصاد الصيني هو أكبر الاقتصادات الصاعدة حجماً، وهو ثاني أكبر اقتصاد عالمياً، بناتج محلي إجمالي بلغ 14.1 تريليون دولار بنهاية عام 2019(7)، بما يساوي 16.2% من الاقتصاد العالمي. وبعد أن ظل نموه محفزاً للنمو العالمي طوال السنوات الماضية، ببلوغه 9.5% سنويّاً على مدار العقود الأربعة الأخيرة، فإن تباطؤ نموه خلال السنوات القليلة الماضية، وبلوغه نحو 6.2% عام 2019، أفقد هذا الاقتصاد مكانته. ولأن تقديرات صندوق النقد الدولي تشير إلى تراجع نمو الاقتصاد الصيني إلى نحو 5.8% عام 2020(8)،فإن ذلك سيولد بدوره ضغوطاً على النمو العالمي خلال العام.
فقاعة ديون عالمية تلوح في الأفق
هناك عامل ثالث لا يقل أهمية عن العاملين السابقين، يتوقع أن يلقي بظلاله على المناخ الاقتصادي العالمي طوال عام 2020، وهو يرتبط بالارتفاع المتواصل في إجمالي الديون العالمية(9)،التي تشير تقديرات معهد التمويل الدولي إلى بلوغها 253 تريليون دولار بنهاية الربع الثالث عام 2019، بنسبة تبلغ 322% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وترجح تقديرات المعهد بلوغها 257 تريليون دولار بنهاية الربع الأول عام 2020(10)؛ وفي حال استمرار ارتفاعها بهذا المعدل فقد تتجاوز 263 تريليون دولار بنهاية العام. ويمثل الارتفاع المتواصل للديون بهذا الشكل خطراً محدقاً بالاقتصاد العالمي، فهو من زاوية يهدد بارتفاع مخاطر التخلف عن السداد، ويدفع نحو أزمة مالية عالمية مشابهة لأزمة عام 2008، ومن زاوية أخرى فإنه يقلص قدرة الدول والشركات على الحصول على التمويل اللازم لتنفيذ المشروعات الجديدة، بما يقلص فرص النمو العالمي.
ولا تقتصر أزمة الديون العالمية على أزمة ارتفاع الحجم فقط، بل تنامي ديون الاقتصادات النامية والصاعدة، يمثل بدوره تحدٍ للاقتصاد العالمي عام .2020 ففي الوقت الذي تظهر فيه البيانات تراجع وتيرة نمو إجمالي الديون العالمية، فإن ديون تلك الدول تتجه إلى الزيادة باضطراد(11)، حتى أنها وصلت إلى مستويات استثنائية في الأرجنتين والبرازيل والصين والهند وإندونيسيا وماليزيا والمكسيك وجنوب إفريقيا وتركيا وتايلاند، وبلغت ديون هذه الدول بنهاية عام 2019 ضعفي حجم ديونها عام 2009(12). وهناك جانب آخر مقلق أيضاً للدول النامية والصاعدة في هذا الصدد، ألا وهو الارتفاع المتواصل لديونها الحكومية منذ عام 2011، إلى أن تجاوزت نسبتها 53.3% من ناتجها المحلي الإجمالي عام 2019، ومن المتوقع تجاوزها نسبة 55.7% عام 2020، كما هو موضح في الشكل رقم .(4)