أدت المصالح الاستراتيجية للصين في المنطقة البحرية لآسيا والمحيط الهادئ حتماً إلى وقوعها في صراع مع الدول المجاورة منذ إعلان جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. وقد رسمت السنوات الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية خطوط المعركة. في الشرق، عندما وقعت الولايات المتحدة معاهدات دفاع جماعي مع الفلبين (في عام 1951) ومع اليابان (في عام 1960) بهدف وقف مد الشيوعية. كما كانت المواجهة حول وضع تايوان كدولة مستقلة مصدر توتر شديد.
شهدت التسعينات عدداً من التطورات التي الحسابات المعقدة بين واشنطن وبكين، وبحلول بداية القرن العشرين، أظهرت المواجهات بين الصين من جانب، والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين من جانب آخر أن استراتيجية الصين لتطوير بحرية المياه الزرقاء مع فرض القوة على المنطقة بأكملها أصبحت مركزية للتخطيط العسكري الصيني. يرى المراقبون الآن الموقف على أنه جزء من استراتيجية جديدة واعية للعمليات «الهجينة» أو «الرمادية»، حيث تحقق الصين بشكل تدريجي مكاسب استراتيجية بينما لا تصل إلى حد الحرب الشاملة مع الولايات المتحدة وحلفائها. تم وصف التحول الملحوظ في الاستراتيجية العسكرية الصينية في كتاب جديد صدر عن معهد الدراسات البحرية الصينية التابع للبحرية الأمريكية في الولايات المتحدة في عام 2019، بعنوان «عمليات المنطقة البحرية الرمادية الصينية».
الخلفية التاريخية
على الرغم من تطورها كدولة مركزية بفترة زمنية كبير سبقت ظهور القوى الكبرى الأخرى للغرب، لم تُظهر الصين أبداً اهتماماً كبيراً بتطوير بحرية قوية في المياه العميقة. بالأحرى، كانت القوى الأوروبية هي التي أصبحت في نهاية المطاف قوى استعمارية كبيرة في أواخر العصور الوسطى. عندما بدأت الدولة الشيوعية الصينية في إعادة تنظيم اقتصادها للنمو بشكل أكثر فاعلية في ظل ما يسمى بمؤسس الصين الحديثة، دينغ شياو بينغ، من عام 1978 فصاعداً، ويشير التفكير الاستراتيجي التقليدي إلى أن الصين بدأت بالتفكير في موقف عسكري أكثر توسعية وميلاً إلى اتخاذ وضع يتناسب مع تطلعاتها كقوة عظمى قادرة في النهاية على تحدي الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة.
في التسعينات، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، كان هناك عاملان رئيسيان شكلا سياسة الصين تجاه بحر الصين الجنوبي. الأول هو اكتشاف حقول نفط وغاز جديدة في بحر الصين الجنوبي. في دخول اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) حيز النفاذ، والتي تم تطبيقها في عام 1994. تمت صياغتها في الأصل والاتفاق عليها في عام 1982 بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك الصين. أحد الأهداف الرئيسية لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار يتمثل في توفير آلية تحكيم محايدة بشأن إدارة الموارد الطبيعية في المناطق البحرية.
وأدت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار بـ «خط الفواصل التسع» (الغامض) سيئ السمعة في الصين. تم طرح هذا الخط في الأصل من قبل رسام خرائط قومي خلال الحرب الأهلية الصينية في الأربعينات، وهو يرسم حدود المياه الزرقاء التي تغطي معظم بحر الصين الجنوبي خارج الهوامش الساحلية المباشرة للولايات الإقليمية للفلبين وماليزيا وبروناي وفيتنام. تدعي الصين أنها تتمتع بالسيادة على الموارد المعدنية لهذه المنطقة البحرية الضخمة، وقد عبرت عن هذه النقطة بشكل واضح ومتزايد في البحار. وتأثرت تايوان أيضاً، مما أدى إلى تفاقم خطر الصراع المحتمل على الجزيرة.
في منتصف التسعينات، أدت أزمة حول تايوان إلى قيام الولايات المتحدة بنشر حاملات الطائرات، إندبندنس ونيميتز في المنطقة، للإشارة إلى التزاماتها تجاه حلفائها العسكريين. في عام 2009، واجهت الفرقاطات البحرية الصينية السفينة الأمريكية، إمبيكابل، عندما أبحرت بالقرب من جزيرة هاينان الصينية. شهد العام نفسه بداية رواية صينية أكثر قوة حول مطالباتها بالسيادة على مياه بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، معلنة عن استراتيجية بحرية «دفاعية» جديدة بقيادة الميليشيات البحرية للقوات المسلحة الشعبية (PAFMM). وتلا ذلك عدد من الحوادث، بما في ذلك مواجهات مباشرة مع السفن الفلبينية والفيتنامية واليابانية، إجراء اختبارات صاروخية استفزازية مضادة للسفن بشكل دوري، والضم الواضح للجزر غير المأهولة ولكن المتنازع عليها مثل سلاسل جزر باراسيل وسبراتلي. فيما يتعلق بالأخيرة، قامت الصين ببناء إنشاءات على الجزر بين عامي 2013 و2017 وبناء مهبط طائرات جديد مهم، مما وفر للطائرات العسكرية الصينية قاعدة مهمة في المنطقة.
أدى الوضع في جزر سبراتلي إلى تطور كبير، حيث قررت الفلبين إحالة الصين رسمياً إلى محكمة الأمم المتحدة بموجب أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. بموجب هذه الدعوة صدر الحكم ضد الصين في يوليو 2016. شمل الحكم عدداً من النقاط، بما في ذلك رفض مبادئ «خط الفواصل التسع»؛ وأن جزر سبراتلي والجزر المجاورة لا يمكن أن تخضع للحقوق الاقتصادية الحصرية من قبل أي دولة بمفردها، لأنها غير صالحة من الناحية الفنية لكي تكون مؤهولة بالسكان. من الواضح أن بكين رفضت الحكم ووصفته بأنه «ليس سوى قطعة من ورق المهملات». كما زعم الرئيس الفلبيني، رودريغو دوتيرتي، أن رئيس الوزراء الصيني لي جين بينغ هدده شخصياً بعمل عسكري في حالة محاولة الفلبين استغلال احتياطيات الغاز في منطقة متنازع عليها تعرف باسم بنك ريد.
مفهوم عمليات المنطقة الرمادية
يرى العديد من المعلقين، بمن فيهم إريكسون ومارتينسون، محررا الكتاب الأخير للمعهد البحري الأمريكي حول أنشطة المنطقة الرمادية في الصين، التغييرات في السلوك الصيني على مدار العقود الأخيرة كدليل على تحول استراتيجي كلاسيكي في بكين نحو المبادئ الأساسية «للحرب الهجينة». ففي نهاية المطاف، كان الخبير الاستراتيجي العسكري الصيني في القرن الخامس، صن تزو، هو الذي كتب أن أفضل طريقة لتحقيق النصر العسكري هي تجنب الصراع الكبير تماماً.
بدلاً من «عقيدة جيراسيموف» المُختلف عليها والتي يُزعم أن موسكو نشرتها في السنوات الأخيرة، والتي يُنظر خلالها إلى الأنشطة البحرية الأخيرة للصين على أنها استراتيجية إبداعية لشن حرب استنزاف منخفضة الوتيرة في بحر الصين الجنوبي والشرقي، حيث يتم تحقيق مكاسب إضافية دون إثارة اندلاع أعمال عدائية مفتوحة. يوصف الهدف أحياناً بأنه «أفعال أقل من الحرب». أو «حرب بدون دخان أسلحة». في البيئة المعاصرة، يمكن استخدام مجموعة من الاستراتيجيات لتطبيق مثل هذه الاستراتيجية، والتي لها فائدة في إبطال هيمنة القوة النارية التقليدية للقوى الغربية. وتشمل هذه عدم وضوح الحدود بين الميليشيات العسكرية والمدنية أو الجهات الغامضة الأخرى، استخدام الاستراتيجيات النفسية والإعلامية لخوض معارك إعلامية، واستخدام القدرات السيبرانية، حيث تنطبق مجموعة من المشكلات القانونية والتعريفية على طبيعة الهجمات وما إذا كانت تشكل «أعمالاً حربية». يمكن أن تشمل الأبعاد الأخرى «الحرب القانونية»، مما يعني استغلال أوجه الغموض والتعقيدات القانونية والتنظيمية، وتوريط الخصوم في نقاشات طويلة وغير مثمرة في نهاية المطاف في المحاكم ووكالات الأمم المتحدة.
في السياق البحري الصيني، يؤكد إريكسون ومارتنسون استخدام بكين سفن خفر السواحل وسفن الميليشيات «شبه البحرية» مثل سفن PAFMM لإثارة المواجهات، بدلاً من استخدام فرقاطات بحرية. وعلى الجانب المعلوماتي، تستخدم الصين خطابا إعلاميا مزدوجا، حيث تؤكد إصرارها على تحقيق السيطرة الإقليمية على جميع المياه الإقليمية، بما في ذلك تلك الموجوة في خط الفواصل التسعة وتتبنى خطابا مغايرا في وسائل الإعلام الصينية الناطقة بالإنجليزية، حيث تصف الصين بأنها عضو مسؤول و«سلمي» في المجتمع الدولي. كما تخلق لغة مثل «حماية الحقوق البحرية» ضباباً من عدم اليقين بشأن الفرق بين الإجراءات الدفاعية والهجومية، تماماً كما كان اتجاه الاتحاد السوفييتي في الأيام الأولى للحرب الباردة. وعلى جبهة الحرب القانونية، تشير المزاعم إلى أن الصين تلعب لعبة مزدوجة معقدة. فمن ناحية، سوف ترى ميزة في تقديم نفسها كعضو مسؤول وملتزم بالقانون الدولي في الأمم المتحدة، مع الامتثال لالتزاماتها بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار والمعاهدات الدولية الأخرى التي وقعت عليها. كما تم التأكيد مراراً وتكراراً على مبدأ عدم التدخل في سيادة الدول الأخرى. ولكن على الجانب الآخر٬ توجه الصين ترهيبا عسكريا للدول الأصغر وذات المستوى الدفاعي الأدنى مثل فيتنام والفلبين حتى لاتختصم العملاق الإقليمي الصيني في المحاكم. في الوقت نفسه، من المأمول، نظراً لتعقيد القانون الدولي وغموض بعض جوانبه، أن أي تحديات قانونية لأنشطته ستستغرق عموماً سنوات للوصول إلى أي نوع من الحلول. خلال هذا الوقت، يمكن للصين تحقيق مكاسب فعلية، ومن ثم يصعب للغاية عكس مسارها دون استخدام القوة العسكرية التصعيدية ضد بكين.
سلبيات الاستراتيجية «الرمادية»
على الرغم من كل هذه الأهداف المفترضة من جانب الصين، هناك عيوب كبيرة محتملة لاستراتيجيتها في بحر الصين الجنوبي والشرقي، والتي قد تحد في النهاية من التهديد. في حين أن بكين رفضت بتهديد النتائج التي تم التوصل إليها ضدها في محكمة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في عام 2016، فإن الضرر الرمزي سيكون قد لحق بسمعتها كعضو مسالم وجدير بالثقة في المجتمع الدولي. وفي حين أن هناك مؤشرات على أن الصين قد تتجه لتجاهل سلطة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار وتبني تصرفات أحادية. فإنه على الجانب الآخر، فإن هناك أدلة على أن الصين تمتثل للأحكام بهدوء إلى حد معين، ليس أقلها أنه من الصعب القيام بخلاف ذلك عندما تكون من الدول الموقعة على المعاهدة.
هناك أيضاً حجة اقتصادية مفادها أن الصين لا تستطيع تحمل عزل الدول الإقليمية كثيراً، حيث إنها تعتمد عليها كعملاء لمنتجاتها. لكن يوجد هناك عداء عميق الجذور بالفعل مع اليابان، ولكن إذا دفعت الصين بدول من أمثال فيتنام والفلبين وماليزيا بعيداً إلى المعسكر الأمريكي اقتصادياً وسياسياً، فقد يكون هذا ضاراً على المدى الطويل.
وإحدى المشاكل المركزية في الحرب الهجينة أنها يمكن أن تأتي بنتائج عكسية. فقد تبنت فيتنام، على وجه الخصوص، استراتيجية للإعلان عن التجاوزات التي جرت ضد سفنها والتأكد من أن التفاصيل تجد طريقها إلى الصحافة الدولية قدر الإمكان. يمكن أن يضيف ذلك إلى الإضرار بسمعة الصين على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتصويرها على أنها الدولة المتنمرة في الساحة. تسلط مثل هذه الحوادث الضوء على عدم التوافق بين الخطاب السلمي والتكتيكات العدوانية للصين. في غضون ذلك، مع تغيير الإدارة الأمريكية في واشنطن العاصمة، لم يتضح بعد ما إذا كان بايدن سيغير الموقف العدائي العام الذي يتبناه ترامب تجاه الصين وتطلعاتها الاستراتيجية. والشعور العام هو أن الرسالة الموجهة لبكين لن تخفَّف بشكل خاص، لكن الضغط لإيجاد حلول حول طاولة المفاوضات قد يكون مفضلاً على المواجهة العسكرية المباشرة.
» البروفيسور جوليان ريتشاردز
مركز الدراسات الأمنية والاستخباراتية – جامعة باكنغهام BUCSIS