على مدار التاريخ العسكري، احتلت الحواجز والتحصينات العسكرية مكانة متميزة، فقد كانت حاضرة في العديد من الحروب الحديثة، خاصة تلك التي شهدها العالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين والواحد والعشرين، والتي كان أبرزها خط سيغفريد الألماني (1916 – 1917)، وخط ماجينو الفرنسي (1929 – 1938)، وكذلك خط بارليف الإسرائيلي (1968 – 1973).
يمكن تعريف الحصون والحواجز، في العلوم العسكرية، بأنها هياكل ثابته تقام لتقوية الموقف الدفاعي لدولة من الدول في مواجهة دولة معادية. وتكون التحصينات عادة من نوعين: دائمة وميدانية. وتشمل التحصينات الدائمة الحصون وملاجئ القوات، والتي يتم تشييدها غالباً في أوقات السلم، أو عند التهديد بالحرب، بينما يتم إنشاء التحصينات الميدانية، في أثناء المواجهات العسكرية، أو عندما تكون وشيكة. وعادة ما تتكون الحصون من مواقع محصنة للأفراد والأسلحة، وعوائق مثل الألغام المتفجرة، والأسلاك الشائكة، والخنادق المضادة للدبابات وغيرها. وغالباً ما تستفيد التحصينات الميدانية والدائمة من العوائق الطبيعية، مثل القنوات والأنهار، وعادةً ما تكون مموهة أو مخفية.
أهداف التحصينات والحواجز
وتهدف التحصينات والحواجز إلى تعزيز القوة النارية للقوات المدافعة، وتوفير غطاء لحماية القوات المتحصنة خلف هذه الحواجز، بالإضافة إلى إعاقة تقدم قوات العدو، أو الحد من حرية حركته عبر إجباره على السير في مسارات محددة، أي أن دورها بالأساس هو دور دفاعي، غير أن ذلك لا ينفي أنها في بعض الأحيان تلعب دوراً في الاستيلاء على أراضٍ جديدة، أي أنها تلعب دوراً في الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية على حد سواء.
وفي الحروب المعاصرة، يوجد مثالان رئيسيان على التحصينات الدفاعية، وهما ما يعرف باسم «خط سوروفيكين» الروسي، والجدار الحديدي الإسرائيلي. وبمراجعة الحالات التاريخية المختلفة، ساد اعتقاد بأن الحواجز العسكرية لا تكون على نفس مستوى الفاعلية المتصورة عند بنائها، إذ إن التوقعات من قدرتها على مواجهة الهجوم المضاد يكون عادة مرتفعاً، ويتسبب هذا في حدوث مفاجئة استراتيجية عندما تنهار هذه الحصون بشكل غير متوقع. ويمكن استقراء ذلك من خلال الرجوع إلى عدد من الحالات التاريخية، بما في ذلك خط سيغفريد الألماني وماجينو الفرنسي وخط بارليف.
وتسعى هذه الدراسة إلى محاولة فهم هذا الأمر من خلال الفرضية التالية، وهي أن التحصينات تكون أكثر فعالية، إذا كانت جزءاً من استراتيجية دفاعية متطورة، تسعى للاستفادة من العوامل البيئية والجغرافية القائمة في ميدان المعركة، أي أن الخطوط الدفاعية لا تعد بمفردها عاملاً محدداً للنصر أو الهزيمة، بل يتوقف الأمر على الاستراتيجية الدفاعية التي تتبناها القوات المسلحة للدولة المعنية. وسوف يتم اختبار هذه الفرضية بالتطبيق على حالتي خط سوروفيكين الروسي في أوكرانيا، وكذلك الجدار الحديدي الإسرائيلي حول قطاع غزة. وقد تعرض الأول لاختبار في منتصف عام 2023، عندما بدأت القوات الأوكرانية هجومها المضاد، بينما تعرض الجدار الإسرائيلي لاختبار في 7 أكتوبر 2023.
خط سوروفيكين
تداولت وسائل الإعلام الغربية مصطلح «خط سوروفيكين» في نهاية عام 2022، حيث استخدمته لوصف الخطوط الدفاعية التي أنشأها الجيش الروسي على طول الجبهة. وتم ربط التسمية باسم القائد السابق للقوات الروسية في منطقة العملية العسكرية الخاصة، سيرجي سوروفيكين.
ويتكون خط سوروفيكين من ثلاثة خطوط دفاعية، مع خط أخير من الخنادق و«أسنان التنين»، وهي عبارة عن عوائق خرسانية على شكل هرم تهدف إلى إبطاء المركبات والمدرعات وإجبارها على السير في شكل خطوط مستقيمة، بصورة تحد من قدرتها على المناورة، ومن ثم تجعلها أكثر عرضة للاستهداف والتدمير. ويلاحظ أن الروس قد سيطروا كذلك على أجواء المعركة، سواء من خلال نظم دفاعهم الجوي المتقدمة، أو من خلال الحرب الإلكترونية، والتي ساهمت في إسقاط عدد كبير من الطائرات المسيرة الأوكرانية، بالإضافة إلى التشويش على اتصالات القوات الأوكرانية المهاجمة، مما أدى إلى افتقادها القدرة على شن هجمات منسقة.
وعندما بدأت أوكرانيا هجومها المضاد في مطلع يونيو 2023، كانت القوات الأوكرانية تتوقع وجود حقول ألغام، غير أنها فوجئت بكثافة توزيع الألغام، فقد كانت الأرض مغطاة بالمتفجرات، ولذلك لم تتمكن وحدات إزالة الألغام سوى من تطهير ممرات ضيقة، والتي حينما سارت عليها القوات الأوكرانية باستخدام مدرعات برادلي الأمريكية، أو غيرها من المدرعات الغربية أو السوفييتية القديمة، قامت القوات الروسية المتمركزة على الأراضي المرتفعة بتوجيه الصواريخ المضادة للدبابات، مما أصاب بعض المركبات في القافلة، وأجبر الآخرين الذين كانوا خلفها على الانحراف عن المسار، الذي تم تطهيره من الألغام، مما أدى إلى انفجارها بالألغام. كما انقضت المروحيات والطائرات المسيرة الروسية وهاجمت ما تبقى من الرتل العسكري، وهو ما أجبر الوحدات المهاجمة على الانسحاب، أكثر من مرة لإعادة تنظيم صفوفها، ثم معاودة الهجوم، متكبدة نفس النتائج الدموية. وقد اعترف الجنرال، فاليري زالوجني، القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، في أواخر عام 2023، أن الحرب في أوكرانيا قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن المكاسب العسكرية التي حققتها أوكرانيا كانت محدودة.
ويرجع النجاح الروسي إلى عدة عوامل أبرزها سيطرة روسيا على الأجواء من خلال نظم الدفاع الجوي المتقدمة ووسائل الحرب الإلكترونية، واللتان تمكنتا معاً من إسقاط أغلب المقاتلات والطائرات المسيرة الأوكرانية، خاصة تلك التي تستخدمها كييف في الاستطلاع لتحديد مواقع انتشار القوات الروسية. كما أن الجيش الأوكراني أخفق في منع الجيش الروسي من استخدام سلاحه الجوي بفاعلية، خاصة المقاتلات والمروحيات والطائرات المسيرة في استهداف وحدات الجيش الأوكراني المهاجمة، كما أن القوات الأوكرانية عجزت عن القيام بأي مناورة بسبب حقول الألغام وكذلك الخنادق المضادة للدبابات.
واعترف أحد كبار المسؤولين الأوكرانيين السابقين بالتفوق الجوي الروسي، إذ أوضح أن المقاتلات الأوكرانية القديمة من طراز ميج 29 يمكن أن تكتشف الأهداف ضمن دائرة نصف قطرها 40 ميلاً، وتطلق النار لمدى يصل إلى 20 ميلاً. وفي المقابل، يمكن لمقاتلات «سو – 35» الروسية تحديد الأهداف على بعد أكثر من 90 ميلاً، وإسقاطها لمسافة تصل إلى 75 ميلاً. وعلى الرغم من أن المسؤولين الأوكرانيين يلقون باللوم على نظرائهم الأمريكيين لتأخرهم في إمداد أوكرانيا بالمقاتلات الأمريكية من طراز «إف – 16»، فإن مسؤولاً دفاعياً أمريكياً كبيراً أكد أنه لو تم إمداد كييف بطائرات «إف – 16»، كان سيتم إسقاطها في اليوم الأول، لأن الدفاعات الجوية الروسية في أوكرانيا قوية وقادرة للغاية.
أما ثاني العوامل، فيتمثل في إخفاق النظرية العسكرية الغربية، والتي اعتبرت أن التحصينات الثابتة أصبحت بلا قيمة عسكرية بسبب تطور الأسلحة، خاصة المدفعية دقيقة التوجيه، والتي يمكن استخدامها في استهداف تحصينات العدو بدقة عالية، ومن ثم تدميرها، بالإضافة إلى رهان الغرب على تكتيك مناورات الأسلحة المشتركة، والتي يقصد بها توظيف القوات البرية والجوية معاً بشكل متزامن في شن الهجوم ضد تحصينات العدو، غير أن روسيا في المقابل، قد أخفقت هذا الرهان الغربي على الأسلحة المتطورة وتكتيك المناورات المشتركة من خلال استخدام شبكة من التحصينات المعقدة، والتي وقفت عصية عن التدمير. ويتمثل ثالث هذه العوامل في تهوين الغرب من قدرات الجيش الروسي، فقد كان أحد الحسابات الخاطئة للدول الغربية الداعمة لأوكرانيا، هو اعتقاد الاستخبارات العسكرية الأمريكية أن الدفاعات الروسية في أوكرانيا كانت ضعيفة، ولا يتوفر بها عدد كاف من القوات للدفاع عنها، بالإضافة إلى انهيار معنويات الجيش الروسي، بل ووصل الأمر إلى تقديم هذه التقارير الاستخباراتية أن القادة الروس يعتقدون أن فرصهم في الانتصار في الحرب ضد أوكرانيا كانت محدودة. ويلاحظ أن هذه الاستنتاجات قد اتضح فيما بعد عدم صحتها، بل تمكن الروس، وفي وقت قصير، من بناء تحصينات عسكرية على امتداد يزيد على ألف كيلومتر، وعمق يصل إلى خمسين كيلومتراً، وهو ما يكشف عن تمتع الروس بقدرات هندسية عسكرية عالية للغاية.
الهجوم الأوكراني المضاد
ومن جهة أخرى، فإن ما مكن القوات الروسية من إحباط الهجوم الأوكراني المضاد ليس فقط الحواجز العسكرية، ولكن كذلك التكتيك العسكري المتبع، والمتمثل في «الدفاع في العمق»، أو ما يسمى الدفاع المرن، وهي استراتيجية عسكرية تنطوي على بناء طبقات متعددة من الخطوط الدفاعية لإبطاء أو إيقاف تقدم العدو. ويتمثل الهدف من هذه الاستراتيجية هو جعل من الصعب على العدو اختراق دفاعات البلاد قدر الإمكان، فضلاً عن إجبار العدو على القتال على جبهات متعددة، الأمر الذي يمكن أن يضعف عزيمته ويستنزف موارده، ومن ثم قدرته على مواصلة القتال. كما أنه في إطار هذه الاستراتيجية، يتم الاستفادة من التضاريس والخصائص الجغرافية من جبال ومستنقعات وأنهار، والتي تخلق حواجز دفاعية يمكن أن تبطئ أو توقف تقدم العدو، وبالتالي فقد تمكنت روسيا عبر تطبيق هذه الاستراتيجية من تكبيد أوكرانيا خسائر فادحة.
الجدار المستحيل
تلعب الحواجز العسكرية بالنسبة لإسرائيل دوراً مهماً في عقيدتها العسكرية، بالنظر إلى كونها تفتقد للعمق الاستراتيجي، بل والتكتيكي، إذ إن معظم سكانها يقعون ضمن نطاق المدفعية للدول المجاورة، وفي كثير من الحالات، يصدق هذا القول حتى بالنسبة إلى الأسلحة الصغيرة، بالإضافة إلى عجز إسرائيل عن القيام باستدعاء سريع ومتكرر لقوات الاحتياط. وساهم هذان العاملان في لجوء إسرائيل إلى الاعتماد على الحوائط الدفاعية، خاصة إذا ما فشلت آلية الردع، وكذلك الإنذار المبكر، أي تنبيه مراكز صنع القرار الإسرائيلي بوجود تهديدات أمنية لإسرائيل.
ولعل من الأمثلة على ذلك خط بارليف الذي بدأت إسرائيل في بنائه في عام 1968، وعجز عن الصمود في عام 1973، أي بعد خمس سنوات من بنائه، بل وأخفق في تحقيق أي من أهدافه العسكرية التي كان يسعى لتحقيقها، وهو ردع القوات المصرية عن مهاجمة إسرائيل ابتداءً، أو مساعدة القوات الإسرائيلية على إفشال هجوم القوات المصرية في حال أخفق الردع. فقد تكون خط بارليف من حوالي 30 نقطة محصنة، تفصل بين كل واحدة منها وأخرى بمسافة 7 أميال، وكان من المقرر أن يتم دعم هذه النقاط بقوات مدرعة متنقلة متمركزة بعيداً عن القناة بغرض إحباط أي هجمات مصرية.
وكانت حوالي 14 نقطة من هذه النقاط الحصينة مغلقة، ولم يكن بها قوات تدافع عنها وقت هجوم القوات المصرية على الخط في عام 1973. أما النقاط المأهولة، فقد كان بها حوالي 15 جندياً إسرائيلياً، غير أنهم لم يمتلكوا الذخيرة الكافية التي تؤهل هذه النقاط لكي تشكل نقاط دفع حصينة. وقامت القوات المصرية بشن الهجوم على الوحدات غير المأهولة، وعندما طورت القوات المصرية هجومها باتجاه النقاط الحصينة، فإنها عجزت عن إعاقة تقدم القوات المصرية، أو تحويل اتجاهات الهجوم إلى مسارات يمكن للقوات الإسرائيلية مهاجمتها بسهولة. وبالتالي فقد عجز خط بارليف عن إمداد القوات الإسرائيلية بالإنذار المبكر لتحرك القوات المصرية، أو إفشال الهجوم، وهو ما ترتب عليه، في النهاية، أكبر هزيمة لإسرائيل في القرن العشرين.
وعلى الرغم من حرص إسرائيل على استخلاص الدروس من حرب 6 أكتوبر 1973، فإنه كان من الواضح أنها لم تجدِ نفعاً، حينما قامت حركة حماس بشن هجوم 7 أكتوبر 2023، ضد السياج الأمني الإسرائيلي. فقد أنفقت تل أبيب، على مدى السنوات القليلة الماضية، أكثر من 1.1 مليار دولار أمريكي لبناء حاجز أمني مترامي الأطراف على طول حدودها مع قطاع غزة، والذي يبلغ طوله حوالي 40 ميلاً.
وزعمت تل أبيب أن هذا السياج هو الأكثر تحصيناً على الإطلاق، إذ إنه يتكون من سلسلة من الحواجز السلكية والفولاذية والخرسانية متعددة الطبقات التي يبلغ ارتفاعها 20 قدماً، كما دمج «السياج الذكي» شبكة واسعة من الكاميرات وأجهزة استشعار الحركة، بالإضافة إلى الرادارات، وأنظمة الأسلحة التي يتم التحكم فيها عن بعد، والتي يتم مراقبتها جميعاً بواسطة عشرات الأبراج. وبالتالي، فقد كان هذا الجدار بمثابة مركز بيانات ومراقبة وتصنت عالي التقنية. ولم يتم الاقتصار على بناء جدار حصين فوق الأرض، ولكنه تم كذلك مد جدار تحت الأرض ونظام استشعار، مصمم لمنع التسلل عبر الأنفاق، ويمتد هذا الجدار تحت الأرض على طول الحدود بأكملها مع قطاع غزة. وبالتزامن مع ذلك كله، يقوم نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي المتقدم «القبة الحديدية» بحماية السماء، أي أن الجدار الإسرائيلي يوفر حماية كاملة، في مواجهة كافة التهديدات المحتملة.
وطورت العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية، نظراً لإدراكها بافتقادها للعمق الاستراتيجي، استراتيجية «العمق العملياتي»، والذي يتكون من ثالوث، يتمثل أولها فيما يعرف باسم «العمليات العميقة»، والتي يمكن النظر إليها باعتبارها محاولة الإضعاف المبكر لقدرات العدو، ويطلق على ذلك بالعبرية اسم «مابام»، والذي يعني «الحرب بين الحروب»، أو الحرب الدائمة منخفضة الحدة، كما تعرف إسرائيلياً كذلك باسم عملية «الردع النشط»، أو الحرب الاستباقية، فالهدف العام من هذه النوعية من الحروب هو الضغط على الخصم باستمرار «لاستنزاف قوته» من خلال الاستهداف المنهجي لقدراته العسكرية الناشئة على أرضه، وذلك لتأجيل «الحرب الكبرى» التالية. ويساعد على تمكين هذه النوعية من الحروب التطور التكنولوجي، خاصة الذكاء الاصطناعي، والاستخبارات، إذ إنه من خلال استخدام كميات كبيرة من أجهزة الاستشعار المتصلة ببعضها بعضاً بمساعدة عمليات الأتمتة، يتم الكشف بسرعة عن أي عملية لإطلاق الذخائر المعادية والاشتباك معها بواسطة شبكة من الصواريخ الموجودة لدى أي من التشكيلات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي.
أما ثاني مكونات هذا الثالوث، فيتمثل في «العمق الأمامي»، في مواجهة التهديدات القادمة من المناطق القريبة المجاورة لإسرائيل، وكذلك مناطق التهديد البعيدة، مثل إيران، ويتم ذلك من خلال تثبيت قواعد خارجية للدفاع عن إسرائيل، مثل أذربيجان أو قبرص أو البلدان المجاورة الأخرى.
وأخيراً، فإن آخر مكونات هذا الثالوث، يتمثل في قوات كافية من الاحتياط، والتي تؤهل الجيش الإسرائيلي للقيام بنقلة نوعية بين الجانبين، أو الانتقال من الدفاع إلى الهجوم. وبعبارة أخرى، فإن الثالوث الإسرائيلي يتكون من القدرة على توظيف القوة، وامتصاص التهديدات، والقيام بمناورات عسكرية برية، إلى جانب الضربات الجوية. ويهدف هذا الأسلوب إلى إنزال خسائر فادحة بالخصم بصورة تؤدي إلى استعادة الردع، وذلك من خلال إجبار العدو على التفكير مرتين قبل مهاجمة إسرائيل.
ويلاحظ أن هجوم 7 أكتوبر قد أسقط العديد من مكونات الاستراتيجية الإسرائيلية السابقة، إذ إن آخر مرة خاضت فيها إسرائيل حرباً برية في غزة، كان في عام 2014، والتي استمرت 50 يوماً، وسوّت مساحات كبيرة من القطاع بالأرض، ونتج عنها مقتل أكثر من 70 إسرائيلياً و2000 فلسطيني. ومع ذلك، فإن هذا الأمر لم ينتج عنه ردع حماس عن شن هجوم 7 أكتوبر 2023.
ومن جهة أخرى، فإن إسرائيل قد أخفقت في تحجيم قدرات حماس العسكرية، إذ إن استراتيجيتها القائمة على الحروب بين الحروب لتقليم قوة خصومها لم تكن فاعلة في مواجهة حماس، فقد اعتمد الجيش الإسرائيلي على مزيج من التفوق العملياتي والاستخباراتي لإضعاف وتدمير قدرات حماس وبنيتها التحتية وقيادتها، معتقداً أن استخدام القوة على فترات منتظمة كان كافياً لإجبار حماس على إعادة تقييم فاعلية هجومها، على الأقل، حتى تتمكن من إعادة بناء القدرات التي دمرتها إسرائيل. وكان من الواضح من هجوم 7 أكتوبر أن إسرائيل لم تكن تتخيل تنامي قوة حركة حماس إلى الحد الذي يمكنها من شن هجوم منسق متزامن من البر والجو والبحر، فقد كان من الواضح أن قدرات حماس قد تطورت، ولم تتراجع. ومن جهة أخرى، فإن هجوم إسرائيل الكاسح ضد قطاع غزة لم يردع الجماعات الأخرى، مثل حزب الله اللبناني، عن شن هجمات ضد إسرائيل، وهو ما أكد انهيار استراتيجية الردع الإسرائيلية، وهي إحدى الركائز الأساسية لعقيدتها الدفاعية.
وارتباطاً بما سبق، فقد أدى اعتقاد إسرائيل بتفوقها التقني والعسكري على خصومها، خاصة حركة مثل حماس، إلى إعطائها شعوراً مزيفاً بالأمان. وأفضل مثال على ذلك هو السياج الحدودي «الذكي»، وهو حاجز على طول قطاع غزة يبلغ ارتفاعه 20 قدماً، وطوله 40 ميلاً، ومجهز بأجهزة استشعار متطورة ورشاشات تعمل عن بعد.
وأدى السياج، الذي يُطلق عليه أيضاً اسم الجدار الحديدي، إلى الاعتقاد الخاطئ لدى إسرائيل بأنه لم تكن هناك حاجة لأعداد كبيرة من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي على الأرض للحماية من الهجمات المحتملة من حماس، مما يسمح بنشر المزيد من القوات البرية للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وأماكن أخرى. وقد تفاقم هذا الشعور الزائف بالأمان بسبب الاعتقاد بأن نظام القبة الحديدية للدفاع الصاروخي الإسرائيلي، الذي تم تقديمه لأول مرة في عام 2011 والمصمم لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى والمدفعية، سيوفر حماية كافية ضد الهجمات الصاروخية والمدفعية من غزة وجنوب لبنان في حالة حدوث صراع إقليمي واسع النطاق. ومما عزز من هذا الاعتقاد بأنه لم تعد هناك خيارات استراتيجية صعبة يجب على إسرائيل اتخاذها هو قدراتها المتطورة في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، والتي تجعل من غزة وجنوب لبنان والضفة الغربية من أكثر الأراضي الخاضعة للرقابة في العالم من جانب تل أبيب. ويعتقد الإسرائيليون أن هذا سيوفر وقتاً كافياً للتحذير للرد على أي تهديد عسكري ناشئ، ومن الواضح أن ذلك الأمر أعطى إسرائيل إحساساً زائفاً بالأمان، إذ إنها لم تتمكن من رصد هجوم حماس والتعامل معه بفاعلية وحسم.
كما ترتب على ذلك الأمر تداعيات مباشرة على تخطيط الجيش الإسرائيلي، فقد ساعد الاعتقاد في التفوق التكنولوجي في تشكيل عقيدة تكتيكية إسرائيلية أكثر اعتماداً على الدفاع والقوة النارية، وتحديداً الضربات الصاروخية من الجو في المقام الأول، بدلاً من القيام بمناورة باستخدام القوات البرية لتحقيق أهداف عسكرية.
وفيما يتعلق بالجانب الآخر من المعادلة، وهي تخطيط حركة حماس لهجوم 7 أكتوبر 2023، فقد استغرقت العملية شهوراً من التخطيط المعقد، وهو ما وضح في إطلاق حماس حوالي 5000 صاروخ خلال فترة وجيزة ضد إسرائيل، وذلك حتى تصيب منظومة القبة الحديدية بالشلل، نظراً لعجزها عن تتبع وتحديد مسار كل صاروخ من هذه الصواريخ، وهو ما ترتب عليه في النهاية فشل المنظومة في اعتراض أي منها.
وبالتزامن مع الهجوم الصاروخي ضد إسرائيل، قامت وحدات من حماس بشن هجمات عديدة منسقة ومباشرة على 27 موقعاً مختلفاً. وكانت أبعد نقطة توغلت فيها حماس هي بلدة أوفاكيم، التي تقع على بعد 22.5 كيلومتر شرق غزة. واستخدمت حماس أساليب مختلفة في اجتياز الجدار الإسرائيلي، ففي المناطق قليلة الحراسة، تم استخدام الجرافات في هدم جزءاً من السياج المغطى بالأسلاك الشائكة، بينما قامت وحدات أخرى من حماس بتفجير الحاجز الخرساني الإسرائيلي، ثم مهاجمة نقاط تفتيش إسرائيلية شديدة التحصين، وقتل من فيها، بينما حاول بعض مقاتلي حماس تجاوز الحاجز بالكامل عن طريق التحليق فوقه بطائرات شراعية وبالقوارب.
ومن الواضح أن حركة حماس لم تستهدف فقط تدمير الجدار الإسرائيلي، ولكنها تمكنت كذلك من مهاجمة الاستراتيجية الإسرائيلية الدفاعية التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي. ومن جهة أخرى، فإنه من الملاحظ أن هناك تشابهاً في إخفاق 6 و7 أكتوبر، ففي كلا الحالتين ظنت إسرائيل أن حصونها منيعة، وأنه يمكنها الاعتماد عليها في درء أي تهديد أمني موجه لها، ليثبت في النهاية خطأ هذا الاعتقاد في المرتين.
الخاتمة
بمراجعة الحالتين السابقتين، يمكن القول إن التحصينات الروسية في مواجهة الجيش الأوكراني قد أثبتت فاعلية كبيرة، وذلك على الرغم من اعتقاد الغرب بنهاية الدفاعات الثابتة، ويرجع ذلك إلى تمكن الجيش الروسي من تنظيم خطوط دفاعية ضخمة متعددة الطبقات، مصحوبة بالتطبيق الناجح لاستراتيجية الدفاع في العمق، والتي أنهكت وحدات الجيش الأوكراني المهاجمة، وأدت إلى إنزال خسائر فادحة بها، بشرية ومادية.
وفي المقابل، فإن ارتكان إسرائيل إلى الجدار الحديدي، والتكنولوجيا المتقدمة، ومحاولتها الاعتماد على عدد محدود من القوات العسكرية لتطويق قطاع غزة، ومحاولة فرض العزلة عليه، قد أثبت في النهاية فشله، وهو ما وضح من تمكن حماس من اختراق الدفاعات الإسرائيلية، كما أنه كان من الواضح أن التفوق الإسرائيلي في المراقبة والاستطلاع والتجسس لم يكن على القدر المتوقع من الدقة، إذ إن إسرائيل عجزت عن رؤية تطور القدرات العسكرية لحماس، فلم تكن الأخيرة منهكة جراء آخر مواجهة وقعت مع الجيش الإسرائيلي في عام 2014، بل تمكنت من تطوير قدراتها العسكرية، بل ودراسة القدرات العسكرية الإسرائيلية، خاصة التقنية، وتطوير أدوات لمواجهتها، بل والتغلب عليها.
ويكشف ما سبق أن التحصينات الدفاعية قادرة على تحقيق الانتصار العسكري إذا ما تم تبني استراتيجية دفاعية واقعية مناسبة، تستند إلى حسابات دقيقة لنقاط القوة والضعف، لدى الدولة، وكذلك لدى خصومها.
» د. شادي عبدالوهاب (أستاذ مشارك بكلية الدفاع الوطني ـــ أبوظبي(