تعود بدايات التدريب الافتراضي إلى الثمانينات من القرن العشرين، عندما تم استخدام محاكاة التدريبات من خلال أجهزة الكمبيوتر، مما منح الأفراد العسكريين فرصة للتدريب في بيئة آمنة وخاضعة للرقابة. ويأخذ الواقع الافتراضي التدريب القائم على الكمبيوتر إلى المستوى التالي، فهو لا يُمَكِّن الجندي من التدرب في بيئة آمنة فحسب، بل يؤهله للتدرب في بيئة تحاكي الواقع الفعلي، وهو ما يُمَكِّن الجنود من تطوير قدراتهم العسكرية. وسوف يلقي هذا التحليل الضوء على التدريب الافتراضي وأبرز أشكاله، بالإضافة إلى الفوائد المتعددة التي يقدمها للجيوش، كما أنه سوف يشير إلى التجربتين الأمريكية والصينية في الاستفادة من بعض أشكال التدريب الافتراضي.
يعتبر التدريب الافتراضي أحد تطبيقات الواقع الافتراضي، والذي يقصد به البيئة الاصطناعية التي تنشأ عبر الكمبيوتر وأجهزة تكنولوجيا المعلومات الأخرى وأدواتها. فالواقع الافتراضي هو عالم يصنعه الحاسوب بطريقة مجسمة ثلاثية الأبعاد، بحيث يُمكن للفرد أن يتحرك ويتفاعل فيه بمساعدة بعض الأجهزة التقنية المرافقة، مثل خوذة الرأس المخصصة والنظارات والسماعات وقفازات خاصة تُمَكِّن من مسك الأشياء في العالم الافتراضي.
ويوجد كذلك ما يسمى بالواقع المعزز، والذي يختلف عن تقنية الواقع الافتراضي في بُعْد واحد مهم، وهو أن المستخدم سيتمكن من رؤية مشاهد وهمية في محيطه الحقيقي بعرض ثنائي وثلاثي الأبعاد، إذ يتم دمج المشاهد مع الواقع الحقيقي للمستخدم لتُنتج ما يُعرف بـ «الواقع المعزز» (Augmented Reality).
وتُمارس في «التدريب الافتراضي» الأفعال والسلوكيات والخبرات بصورة أقرب ما تكون إلى ما يجري على أرض الواقع، مثل البيئات الافتراضية، التي تستخدم في التدريب على الطيران، أو الملاحة البحرية، وغيرها.
وقدم بعض المحللين تعريفاً أعم لـ«تدريب المحاكاة» أو التدريب الافتراضي، إذ اعتبروا أنها «عملية تستخدم بشكل شامل تقنية المحاكاة الحديثة القائمة على تكنولوجيا الكمبيوتر، وتقنية الواقع الافتراضي، وتقنية المحاكاة الموزعة وتقنية الذكاء الاصطناعي لمحاكاة أداء نظام الأسلحة، والبيئة القتالية، والخصوم، والمهام القتالية، والعملية القتالية بدقة عالية، والتي يمكن من خلالها أن يشعر المتدربون بجو قريب من أجواء القتال الفعلي، بما يرفع في النهاية من مستواهم التدريبي إلى الحد الأقصى».
وقد بلغ حجم سوق التدريب الافتراضي والمحاكاة العسكرية نحو 10.31 مليار دولار أمريكي في عام 2016. ومن المتوقع أن يصل إلى 12.67 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2021، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 4.20 % خلال هذه الفترة، بل وتذهب بعض التقديرات إلى أن هذا السوق سوف يتنامى بشكل أكبر ارتباطاً بجائحة كورونا، وما تسببت به من تأجيل عدد من التدريبات العسكرية المشتركة حول العالم. ويمكن تقسيم التدريب الافتراضي إلى أربعة أنواع رئيسية:
1 تدريب محاكاة قدرات الأسلحة: يهدف هذا النوع من التدريب إلى تحسين المستوى التشغيلي للمعدات، وصيانتها، لذا يمكن أن تنقسم إلى محاكاة التشغيل، ومحاكاة الصيانة.
2 تدريب محاكاة الحملات العسكرية: يهدف إلى محاكاة العمليات العسكرية، والتي تدور حول تنفيذ مهام قتالية محددة.
3 تدريب المحاكاة الاستراتيجي: يساعد كبار القيادات والقيادات الوسطى على اتخاذ القرارات الاستراتيجية، كما يساعد أيضاً في تنمية التفكير الاستراتيجي.
4 محاكاة تشغيل الأسلحة: يتم محاكاة طريقة عمل المعدات والأسلحة، مما يوفر الوقت والجهد اللازمين، كما أنه يمكن أن يقلل من التآكل التقني للأسلحة والمعدات، ويستخدم على نطاق واسع في أنواع مختلفة من تدريب المعدات العسكرية.
فوائد متعددة
يمكن توضيح عدد من الفوائد التي تترتب على التدريبات الافتراضية، وهي:
1 خفض التكلفة: كشفت وزارة الدفاع البريطانية أن تكلفة تدريب جندي واحد في الجيش البريطاني على المهارات القتالية الأساسية هو 38 ألف جنيه إسترليني. وبطبيعة الحال، فإن التدريبات المتقدمة والمتخصصة والتمارين القتالية التي تتضمن المزيد من المعدات، سوف تتطلب إنفاقاً يتجاوز الإنفاق السابق بكثير.
فمن المعروف أن إجراء التدريبات العسكرية يتطلب إنفاق قدر هائل من الأموال، فضلاً عن تحريك كمية هائلة من المركبات، وتعبئة عدد كبير من القوات لتدريبهم، كما أن التشريعات الوطنية تفرض قيوداً صارمة على الأماكن التي يمكن للقوات التدرب فيها، وهو ما يمثل مزايا إضافية للتدريب الافتراضي. وتقلل اللوائح الصارمة المتزايدة قائمة الأماكن التي يمكن للقوات المسلحة أن تتدرب فيها. ومن ذلك ألمانيا، والتي تقدم مثالاً على كيف أصبح التأثير على السكان المدنيين عاملاً مقيداً لعدد المرات، وأين يمكن للقوات المسلحة أن تتدرب.
2 تقليص الخسائر في صفوف القوات المسلحة: تشير بعض الإحصاءات العسكرية إلى أن 1 من كل 20 جندياً يتوفون في التدريبات العسكرية، وهو ما يدل على أهمية تقنية الواقع الافتراضي والمعزز في التدريب دون خسارة الأرواح، إذ تعتبر هاتان التقنيتان آمنتان جداً إضافة إلى كونهما أقل تكلفة. وفي الولايات المتحدة، وقعت 31.9 % من إجمالي وفيات الجيش الأمريكي بين عامي 2006 و2018 أثناء التدريب، بينما حدثت 16.3 % فقط من الوفيات في أعمال قتالية.
3 صقل مهارات المتدربين: يعد التدريب على الواقع الافتراضي طريقة جيدة لمنح الأفراد العسكريين فرصة لتعلم المهارات الأساسية للبقاء على قيد الحياة في بيئات شديدة الضغط وخطيرة ومتنوعة، وذلك في مكان آمن وخالٍ من المخاطر. ويمكن أن يساعد التدريب الافتراضي والمعزز الأفراد على صقل مهاراتهم القتالية واتخاذ القرار كرد فعل على السيناريوهات المختلفة، وكذلك التفكير التكتيكي والاستراتيجي.
4 توفير فرصة التدريب الجماعي: تتمثل القدرة على الاعتماد على الزملاء أمر بالغ الأهمية لجميع الوحدات العسكرية لكي تؤدي وظائفها بكفاءة. ويمنح تدريب الواقع الافتراضي الوحدات فرصة للتدريب معاً، مما يعني أنه يمكن أن يساعد في التدريب على كيفية العمل بشكل فعّال بالاعتماد المتبادل بين المتدربين، وفهم التأثير الذي يمكن أن تحدثه أفعالهم على زملائهم.
5 التدريب الجماعي مع القدرة على التقييم الفردي: يساهم التدريب الافتراضي والمعزز على تدريب أعداد كبيرة من الأفراد في نفس الوقت، كما أن هذا الأمر يساعد في خفض تكاليف التدريب، إلى جانب ضمان اتساق طريقة التدريب بين آلاف الأفراد العسكريين، مع ميزة إضافية تتمثل في القدرة على مراقبة الأداء الفردي وتقييمه.
6 تجسيد بيئات معقدة: يمكن أن يوفر الواقع الافتراضي تصويراً رقمياً واقعياً للبيئات المعقدة، مما يمكن الجنود من تعلم كيفية التعامل مع العدو بشكل آمن، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً العوامل الخارجية، مثل وجود المدنيين، فضلاً عن الظروف المتنوعة، بما في ذلك أوقات اليوم المختلفة، وتباين الظروف المناخية. كما أنه من خلال التدريب على الواقع الافتراضي والمعزز، يمكن للجنود تعلم كيفية التعامل مع المواقف شديدة الإجهاد وتحسين مجموعة من المهارات، من الاتصالات الفعالة إلى تقنيات القتال الحاسمة. ويمكن أن يساعدهم أيضاً على تعلم كيفية التعامل مع البيئات المعادية، مثل المفجرين الانتحاريين أو هجمات القناصة.
7 التدريب في ظل الأوبئة: أثارت جائحة كورونا تساؤلات حول كيفية قيام القوات العسكرية بتنفيذ تدريباتها واستعداداتها لحماية الأوطان ضد أي تهديدات محتملة في ظل الالتزام بتنفيذ إجراءات السلامة والوقاية من الإصابة من العدوى بفيروس كورونا المُستجد. وجاءت إجابات الخبراء والمتخصصين بأن هناك ضرورة بالتعجيل بخطط تطوير وتحديث برامج التدريب وزيادة الاستثمار في تكنولوجيا الواقع الافتراضي الجديدة.
الخبرة الأمريكية
يتجه الجيش الأمريكي إلى تحويل تركيزه إلى القتال في بيئة متعددة المجالات، ولذلك طلب الجيش التعاقد على نظام جديد يتيح التدريب الجماعي عبر الجو والأرض والبحر والإنترنت والفضاء، كما أن هذا النظام لن يتم استخدامه لأغراض التدريب، ولكن كذلك كأداة للتخطيط للمهام العسكرية. وللوفاء بمتطلبات هذا النظام الجديد، تم تطوير «بيئة التدريب التركيبية» (Synthetic Training Environment).
وتعد بيئة التدريب التركيبية أداة تدريب ثلاثية الأبعاد للجنود تجمع بين بيئات التدريب والألعاب الافتراضية لمساعدة القوات على الاستعداد بشكل أفضل للحرب ضد الأعداء المتطورين تقنياً مثل الصين وروسيا أو أي أعداء محتملين آخرين.
ويتكون هذا النظام من عالم واحد (One World Terrain)، يجمع خرائط افتراضية واقعية ودقيقة لكافة المناطق، بالإضافة إلى برنامج محاكاة التدريب، وأداة لإدارة التدريب ومدربين جماعيين افتراضيين. وتتمثل فكرة هذا النظام في أن يكون المتدرب قادراً على النقر فوق أي مكان على الكرة الأرضية الافتراضية والذهاب إلى هناك.
ويمكن للجنود بعد ذلك أن يتدربوا فعلياً في بيئة محددة يتوقعون فيها العمل في الواقع. وقبل بضع سنوات فقط، كان بناء هذا النظام شاقاً ومملاً ومكلفاً، ولكن من خلال تطبيقات التكنولوجيا الجديدة، فإن ما كان يستغرق تسعة أشهر في بنائه يمكن أن يستغرق الآن ثماني ساعات.
كما يدعم برنامج محاكاة التدريب عملية التدريب في وقت واحد عبر العديد من المواقع ومنصات التدريب. وتسمح أداة إدارة التدريب للمستخدمين ببناء سيناريوهات التدريب بالاستناد إلى قواعد بيانات المحاكاة. وتتوقع الولايات المتحدة أن تنتهي من هذا النظام، وأن يكون قابلاً للتوظيف في التدريب العسكري بدءاً من السنة المالية 2023.
الخبرة الصينية
يستخدم سلاح القوة الصاروخية للجيش الصيني الواقع الافتراضي لتدريب جنوده على استخدام أنظمة الصواريخ، وهي خطوة تعني إمكانية القيام بالتدريبات بشكل متكرر وبتكلفة منخفضة، إذ يمكن للقوات التدرب على عملية إطلاق الصواريخ دون نصب الصواريخ بشكل فعلي وإعدادها للإطلاق، كما بات بإمكان الجنود الصينيين التدرب على التكتيكات المرتبطة بعملية إطلاق الصواريخ دون مغادرة القاعدة.
وتمكن منصة تدريب الواقع الافتراضي الجديدة الجنود الصينيين العاملين في القوة الصاروخية من ممارسة القيادة والعمل والدعم في بيئة تشبه العالم الحقيقي. وقد حولت التكنولوجيا أيضاً التدريبات الصاروخية «واسعة النطاق» في الماضي إلى تدريب «هادئ ويتسم بالفاعلية».
ويشمل تمرين إطلاق صاروخ في الواقع العملي مشاركة آلاف الجنود، كما تتطلب نقل قطع كبيرة من المعدات إلى بيئة تدريب. ولكن «أرض التدريب الافتراضية» تعني أنه يمكن محاكاة كل ذلك بحيث يمكن للجنود استخدامه للتدريب في كثير من الأحيان. وتسعى الصين إلى محاكاة أكثر جيوش العالم تطوراً في هذا المجال.
كما يتحول جنود المظلات في الصين إلى الواقع الافتراضي لمحاولة تعزيز استعدادهم القتالي، حيث تحاول قياداتهم العسكرية نقل نموذج التدريب من النموذج الروسي إلى النموذج الأمريكي، ومعالجة نقص الخبرة القتالية الحقيقية.
ونقل عن قائد لواء صيني قوله إن المجندين الجدد خضعوا جميعاً لتدريب القفز بالمظلات باستخدام الواقع الافتراضي لأول مرة، وهم راضون عن النتائج. ويلاحظ أن تدريب الواقع الافتراضي المحمول جواً يتسم بالمرونة للغاية في عمليات المحاكاة الخاصة بالإقلاع بالإقلاع والهبوط، بالإضافة إلى بعض حالات الطوارئ، كما أنه يقدم تجارب حقيقية جداً، مما يسمح لهم بتعلم المهارات والنظريات الأساسية لعمليات القفز بالمظلات.
الختام
يمكن القول إن العديد من الدول بدأت تتجه للاستفادة من التدريب الافتراضي لرفع مهارات قواتها المسلحة، نظراً للمزايا العديدة التي يقدمها، والتي يتمثل أبرزها في خفض النفقات، وتعزيز كفاءة القوات المسلحة، كما أن التداعيات المترتبة على جائحة كورونا دفعت لتسريع وتيرة اتجاه الدول لتبني «التدريب الافتراضي».
الدكتور – شادي محمد
باحث في الشؤون العسكرية