في 1 أغسطس 2020، كانت دولة الإمارات العربية المتحدة على موعد مع إنجاز تاريخي جديد، حيث بدأت المحطة الأولى من محطات براكة للطاقة النووية عملها، لتكون بذلك أول مفاعل نووي في العالم العربي، ولتنفتح الآفاق أمام نجاحات أوسع وإنجازات أكبر وطموحات لا تحدها حدود، لدولة اختارت قيادتها الرشيدة أن تمضي بها نحو المستقبل بعزم لا يلين، وإرادة لا تنكسر، وتصميم على الوصول إلى صدارة دول العالم.
نهضة علمية شاملة
ربما يكون المدخل الصحيح لفهم النجاح في تشغيل أول محطة نووية، هو الحديث عن منظومة علمية كاملة في دولة الإمارات العربية المتحدة، خُطط لبنائها في وقت قياسي. والتقدم العلمي هو أحد الأهداف التي ركزت عليها خطط التنمية المستقبلية في دولة الإمارات، إذ نصت “رؤية الإمارات 2021” في الركيزة الثالثة منها، تحت عنوان “مُتحدون في المعرفة” على أن الابتكارات والأبحاث والعلوم والتكنولوجيا تشكل الركائز الأساسية لاقتصاد معرفي تنافسي عالي الإنتاجية. وتؤكد الرؤية ضرورة الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا والأبحاث على مختلف مستويات الاقتصاد الإماراتي.
واحتل العلْم موقعاً محورياً لدى القيادة الرشيدة في دولة الإمارات العربية المتحدة، مقروناً بالدور الرئيسي لشباب الدولة وثروتها البشرية، إذ خُصصت وزارة دولة للعلوم المتقدمة ضمن مجلس الوزراء، أُسندت إلى شابة إماراتية هي معالي سارة بنت يوسف الأميري. ويبدو هذا الموقع المحوري في قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، إن “المستقبل للأمم التي تمكن أجيالها الشابة بالعلوم المتقدمة وتسلحها بالأدوات والمعارف والمهارات التي تجعلها قادرة على التكيف مع التغيرات العالمية المتسارعة.. دولة الإمارات بنت منهجيتها على توظيف المعارف والعلوم المتقدمة في تصميم خططتها واستراتيجياتها المستقبلية”.
وفي الإطار ذاته تحدث صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، في كلمة بتاريخ 13 أغسطس 2018، جاء فيها: “إننا في سباق مع العالم لا يتوقف، لكننا نستطيع تحقيق التقدم من خلال استثمارنا في ركيزتين أساسيتين، هما العلم، والكوادر الوطنية النوعية المتميزة.. لتحقيق ما تصبو إليه من مستويات عالمية، مستعينين بالله تعالى أولاً، ثم بما يتسلحون به من معرفة وعلوم مع توظيف معطيات العصر من ذكاء اصطناعي وأحدث التكنولوجيا”.
وتضم شبكة العلوم والتكنولوجيا التي بنتها دولة الإمارات مجموعة كبيرة من المبادرات والمؤسسات والمشروعات، من بينها “أجندة الإمارات للعلوم المتقدمة 2031” التي أطلقت في إبريل 2018، وانبثقت عنها “استراتيجية الإمارات للعلوم المتقدمة 2021”. ويمكن الإشارة كذلك إلى “منصة الإمارات للمختبرات العلمية”، و”الاستراتيجية الوطنية للابتكار”، و”سياسة العلوم والتكنولوجيا والابتكار”، و”صندوق محمد بن راشد للابتكار”، و”مركز محمد بن راشد لأبحاث المستقبل”. و”مجلس علماء الإمارات”.
كما يستند التطور العلمي والتقني إلى منظومة تعليمية قوية، تضم عدداً من الكليات والجامعات والمراكز التي ترفد المؤسسات العلمية بكوادر إماراتية مؤهلة تأهيلاً رفيعاً. ومن بينها “كلية محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي” و”جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا والبحوث” التي احتلت المركز 211 عالمياً في تصنيف «كيو إس» للجامعات العالمية لعام 2021، متقدمة 57 مرتبة عن عام 2020، برغم حداثة عمرها. كذلك تؤدي المشروعات البحثية المشتركة والشراكات العلمية مع أكبر الجامعات والمؤسسات العالمية دوراً في تعزيز مهارات الكوادر الإماراتية.
إن هذه البيئة العلمية المتطورة التي حظيت باهتمام القيادة، تمثل حاضنة ملائمة تماماً للمشروعات العلمية الكبرى، وكان تشغيل المحطة الأولى في مفاعل “براكة” ثمرة طبيعية لها.
بصمة إماراتية.. وإطار مؤسسي قوي
تُظهر الطريقة التي بدأ بها المشروع النووي الإماراتي بعض السمات التي يمكن اعتبارها “بصمة إماراتية” مميزة، ويمكن أن نجد خطوطها العريضة ذاتها في مشروعات عملاقة أخرى نفذتها دولة الإمارات. وأول هذه السمات هو أن الأهداف تكون كبيرة جداً، وتبدو للوهلة الأولى ضرباً من الخيال، فكيف يمكن لدولة صغيرة لا تمتلك المعرفة اللازمة أو القدرات العلمية المتطورة أو الخبرة في مجال معقد بطبعه أن تُنجز مثل هذا المشروع الضخم؟ غير أن القيادة الرشيدة للدولة آمنت قبل وقت طويل بأن الأهداف الصغيرة لا تصنع تقدُّماً، وأن الأهداف الكبرى هي التي تحفز القدرة على مواجهة التحديات، ولاسيما مع وجود بيئة مجتمعية داعمة وثروة بشرية استثمرت فيها الدولة عقوداً، وأصبحت قادرة على تنفيذ ما تخطط له القيادة باقتدار وتمكُّن.
والسمة الثانية، أن دولة الإمارات تختار البدء من حيث انتهى الآخرون، وتُقدم على تنفيذ المشروعات من آخر نقطة وصل إليها العلم في مشروعاتها الكبرى، واثقة من أن أبناءها قادرين على سد فجوة المعرفة بسرعة، وأن بإمكانهم قطع المراحل بحكم ما يتوافر لهم من تدريب رفيع وفرص لتطوير مهاراتهم في أفضل المؤسسات ومراكز التدريب والبحث في العالم بأسره.
والسمة الثالثة أن الوقت الذي تحدِّده دولة الإمارات لتنفيذ مشروعاتها الكبرى يبدو قصيراً جداً لمن لا يعرفون الروح التي تحكم العمل في الدولة، ولمن لا يُقدِّرون الطاقة الهائلة للحماسة الوطنية التي تجعل ساعات العمل المضاعفة أمراً طبيعياً ومُعتاداً، وأن ثقافة العمل ليل نهار عن طيب خاطر أصبحت متجذرة لدى مواطني دولة الإمارات.
والسمة الرابعة أن دولة الإمارات تبني لكل مشروع من مشروعاتها الكبرى إطاراً مؤسسياً يجمع بين القوة والمرونة. وفي حين أن المشروعات تكون حكومية، فإن قيم الشركات الخاصة التي تتضمن المنافسة والربحية والاستفادة القصوى من كل الأصول تُعدُّ من بين ركائز العمل فيها. ولذا فإنه ضمن الهيكل الحكومي يمكن أن تنشأ شركات خاصة محددة المهام والوظائف، تتولى أدوراً حيوية في تنفيذ المشروعات الكبرى.
إطار مؤسسي قوي
في عام 2008، صدرت “سياسة دولة الإمارات العربية المتحدة المتبعة لتقييم وإمكانية تطوير برنامج للطاقة النووية السلمية في الدولة”، وهي تقوم على ست ركائز أساسية، أولها الشفافية التشغيلية التامة، وثانيتها الالتزام بأعلى معايير حظر الانتشار النووي، والركيزة الثالثة هي ترسيخ أعلى معايير السلامة والأمن، والرابعة هي التنسيق المباشر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والالتزام بمعاييرها، والخامسة هي بناء شراكات متينة مع الدول المسؤولة والمؤسسات ذات الخبرة. وآخر هذه الركائز هو ضمان استدامة الطاقة النووية على المدى البعيد.
وفي ديسمبر 2009، أُنشئت “مؤسسة الإمارات للطاقة النووية”، بموجب مرسوم صادر عن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بهدف توفير طاقة نووية آمنة وصديقة للبيئة وموثوقة وفعالة لدولة الإمارات. وتضمنت مهام المؤسسة ما يلي:
تصميم أولى محطات الطاقة النووية بدولة الإمارات العربية المتحدة وإنشاؤها وامتلاكها.
العمل عن كثب مع حكومة أبوظبي والحكومات الاتحادية لضمان توافق برنامج الطاقة النووية السلمية مع خطط البنية التحتية الصناعية لدولة الإمارات العربية المتحدة.
تطوير الموارد البشرية لبرنامج الطاقة النووية بالتنسيق مع قطاع التعليم في الإمارات.
رفع مستوى وعي المجتمع الإماراتي بشأن المشروع ودور الطاقة النووية في استراتيجية الطاقة في الإمارات.
وتعمل المؤسسة أيضاً بصفتها ذراعاً للاستثمار لحكومة أبوظبي، فهي ستتولى تنفيذ استثمارات استراتيجية في قطاع الطاقة النووية على الصعيدين المحلي والدولي.
وتزامن مع إنشاء “مؤسسة الإمارات للطاقة النووية” الجناح الآخر الضروري لعملها، وهو “الهيئة الاتحادية للرقابة النووية” التي بدأت عملها في سبتمبر 2009، لتكون الجهة الرقابية المسؤولة عن تنظيم القطاع النووي في الدولة. وتمارس الهيئة عملها من خلال تطبيق برامج رقابة نووية على الأمان، والأمن، والوقاية من الإشعاعات، والضمانات، وهي برامج تحقق في مجملها الأهداف الرئيسية في عملية الترخيص والتفتيش وفقاً لأفضل الممارسات الدولية. كما تشرف الهيئة كذلك على تطبيق التزامات دولة الإمارات العربية المتحدة بموجب المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالقطاع النووي، وتحديد المعايير الإدارية التي تدعم تحقيق التميز في مجالات الرقابة.
وكان إنشاء “الهيئة الاتحادية للطاقة النووية” إحدى الخطوات التي ضمنت للبرنامج النووي الإماراتي أعلى درجات الأمان والسلامة، إذ أبرمت الهيئة في وقت مبكر عدداً من الاتفاقيات والمواثيق مع جهات دولية مرموقة في مجال ضمان الأمان النووي، حيث وقعت عام 2011 اتفاقاً مع مفوضية الأمن والسلامة النووية الكورية الجنوبية للتعاون في مجالات الرقابة النووية، ووقعت اتفاقيةً عام 2012 مع هيئة الأمان النووي الفرنسية بهدف تبادل المعلومات الفنية والتعاون في مجال الرقابة على الأمان النووي والوقاية من الإشعاعات. وبلغ عدد الاتفاقيات التي وقعتها الهيئة 24 اتفاقية مع جهات أجنبية للرقابة النووية، بما ضمن لعملها موثوقية ومصداقية عاليتين على المستوى الدولي، كانتا من أهم عوامل نجاح البرنامج النووي الإماراتي.
محطات براكة للطاقة النووية
عام 2010، اختيرت براكة الواقعة في منطقة الظفرة لتكون موقعاً للمحطات النووية الأربع الأولى في دولة الإمارات، وتقع براكة جنوب غرب مدينة الرويس، بنحو 53 كيلومتراً. واختير الموقع بعد دراسات مطولة شاركت فيها الهيئة الاتحادية للرقابة النووية ومعهد أبحاث الطاقة الكهربائية ومفوضية الرقابة النووية الأمريكية والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وروعي في الاختيار عوامل شتى من بينها نشاط الزلازل في المنطقة، وبعدها عن المناطق ذات الكثافة السكانية، والقرب من موارد المياه وشبكة الكهرباء، ومن البنية التحتية ذات الصلة بالصناعة والنقل.
في يوليو 2012، وافقت الهيئة الاتحادية على رخصة إنشاء المحطتين الأولى والثانية في براكة، ليبدأ على الفور صب خرسانة السلامة في المحطة الأولى كفاتحة للأعمال الإنشائية فيها. وقد اختارت مؤسسة الإمارات للطاقة النووية الشركة الكورية للطاقة الكهربائية (كيبكو) لتتولى تصميم محطات الطاقة النووية في الدولة، وإنشاءها، والمساعدة في تشغيلها. واعتمد هذا الاختيار على سجل موثوق وحافل بالنجاحات لشركة كيبكو، شارك فيه 75 خبيراً دولياً مرموقاً في مجال الطاقة، اعتماداً على تقييم دقيق لعمليات الشركة استغرق عاماً كاملاً.
كوريا الجنوبية والإمارات.. نقاط التقاء
من المؤكد أن اختيار شركة من كوريا الجنوبية قد تم على أساس مقارنات شاملة ودقيقة مع منافسين آخرين قدَّموا عروضاً للفوز بهذه الصفقة الكبيرة، لكن فوز كوريا الجنوبية دون غيرها إنما يحمل بعداً ثقافياً ومعنى يتجاوز الجانب الاقتصادي المحض، ولعل ذلك البعد هو ما يفسِّر العلاقات الإماراتية- الكورية الجنوبية الوثيقة التي تنمو في كل المجالات، وهو يرتبط برحلة كوريا الجنوبية من دولة فقيرة متواضعة الإمكانيات يعاني أهلها شظف العيش، إلى واحدة من أكثر تجارب النجاح العالمي في صنع الرخاء والازدهار والتقدم العلمي والتقني المذهل الذي وضعها في مصاف القوى الاقتصادية العالمية الكبرى.
هذه التجربة تلتقي في بعض جوانبها مع تجربة دولة الإمارات التي قطعت بدورها خطوات طويلة في فترة وجيزة، واكتسبت من الازدهار والرخاء والتقدم والمكانة الدولية ما يجعلها واحدة من تجارب النجاح المرموقة في العالم، وهي تمضي بثبات وقوة على طريق تعزيز المعرفة والاستثمار في العلوم والتقنيات الحديثة واستخدامهما في توليد الثروة وتحقيق نقلة نوعية في ركائز التجربة التنموية تضمن استدامتها وتطورها المستمر بعيداً عن الموارد النفطية التي ستنضب يوماً ما.
لا بد أن هذه المعايير كانت موجودة بشكل ما عند اختيار الشركة الكورية لهذا المشروع الضخم، فهي لا تتولى التصميم والإنشاء وتشارك في التشغيل فحسب، بل إن عمالها ومهندسيها ومديريها إنما ينقلون مع هذا قيم الدولة الناهضة التي قهرت التحديات، وتفاؤل الذين استطاعوا إدراك النجاح في أصعب الظروف. إنهم تجسيد حيٌّ للقدرة على تحقيق ما كان يُنظر إليه على أنه مستحيل، وهو ما حققته دولة الإمارات أيضاً، غير أن وجود النموذج الملموس يعزز هذه القيمة، ويُذكي طاقة الموارد البشرية الوطنية من خلال الاحتكاك والمعايشة اليومية التي تخلق الفهم المتبادل.
وقد تضمن التعاقد مع شركة “كيبكو” الذي بلغت قيمته عشرين مليار دولار، بنوداً تضمن نقل الخبرات وتوفير التدريب المتخصص المكثف، وتطوير الموارد البشرية الإماراتية وطرح البرامج الدراسية، لكي تتمكن دولة الإمارات من بناء قدرات بشرية متخصصة لصناعة الطاقة النووية.
وفي عام 2016، اكتمل الإطار المؤسسي للبرنامج النووي الإماراتي، بإنشاء شركة “نواة” للطاقة، مع التقدم الذي شهده العمل في محطات براكة. و”نواة” هي شركة مساهمة خاصة تمتلك مؤسسة الإمارات للطاقة النووية 82 % منها، فيما تمتلك الشركة الكورية للطاقة الكهربائية 18 %. وتتولى شركة “نواة” مهمة تشغيل المحطة الأولى في “براكة” التي بدأت العمل بالفعل، وسوف تتولى تشغيل وصيانة المحطات الثلاث الباقية، من خلال فريق عمل متخصص متعدد الثقافات والجنسيات تحت قيادة إماراتية.
طاقة نظيفة وفوائد كبيرة
حين تصل محطات براكة إلى كامل طاقتها التشغيلية، فإنها ستنتج 5600 ميجاواط من الطاقة الكهربائية بواقع 1400 ميجاواط للمحطة الواحدة على مدار الساعة، وهو ما سيغطي 25 % من احتياجات دولة الإمارات من الطاقة الكهربائية.
يخدم استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء أهدافاً متعددة لدولة الإمارات العربية المتحدة، وعلى رأسها الحفاظ على البيئة، حيث يمكن للطلب المتصاعد على الطاقة في الدولة أن يتسبب في زيادة كبيرة في الانبعاثات الكربونية، بما يترتب على ذلك من آثار بيئية وصحية. ويقول تقرير صادر عن “مؤسسة الإمارات للطاقة النووية” إن محطات براكة الأربع ستلغي 21 مليون طن من الانبعاثات الكربونية سنوياً، وهو ما يعادل إزالة 3,2 مليون سيارة من طرقات الدولة كل عام. وتعمل الدولة على استخدام مصادر أخرى نظيفة للطاقة، مثل الطاقة الشمسية، حيث تتضمن استراتيجية الإمارات للطاقة رفع مساهمة الطاقة النظيفة في إجمالي مزيج الطاقة المنتجة في الدولة من 25 % إلى 50 %، والحد من الانبعاثات الكربونية بنسبة 70%. ويحظى استخدام الطاقة النووية للحصول على الكهرباء بنسبة عالية من التأييد لدى مواطني دولة الإمارات.
وينتشر توليد الكهرباء من الطاقة النووية في كثير من دول العالم المتقدمة، حيث تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية 100 مفاعل نووي، وفرنسا 58 مفاعلاً، واليابان 50 مفاعلاً، وروسيا 33 مفاعلاً، وكوريا الجنوبية 23 مفاعلاً، وكندا 20 مفاعلاً، والهند 20 مفاعلاً. وتشهد حركة إنشاء المفاعلات النووية نموا مطَّرداً، وعلى سبيل المثال فقد أعلنت فرنسا عام 2019 عن نيتها بناء ستة مفاعلات جديدة. وتُعدُّ فرنسا من أكثر الدول اعتماداً على الطاقة النووية في توليد الكهرباء، إذ تنتج منها نحو 70 % من حاجتها.
ويشير تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أنه “على الرغم من ارتفاع نسبة التكلفة الاستثمارية قياساً بتوليد الطاقة من الوقود الأحفوري والطاقة المتجددة، فإن تكلفة التشغيل أقل كثيراً، بما يجعل التكلفة متقاربة على المدى الطويل. غير أن ما يميز الطاقة النووية أنه يمكن الاعتماد عليها في الصناعة والتنمية بدرجة أكبر من بقية أنواع الطاقة، حيث إنها لا تخضع لعوامل الجو كما هي الحال مع الطاقة المتجددة، ولا لعوامل تقلب سوق الفحم والنفط والغاز”.
الصورة 4
كما يمثل الاعتماد على الطاقة النووية استعداداً مبكراً لإنهاء الاعتماد على النفط في دولة الإمارات باعتباره مورداً ناضباً، وهو الأمر الذي أكدت عليه القيادة الرشيدة للدولة في كل المناسبات. فقد صرَّح صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ، خلال حديثه أمام القمّة الحكومية التي انعقدت بدبي عام 2015، قائلاً: “إننا سنحتفل عند تصدير آخر برميل للنفط بعد 50 عاماً، وإن رهاننا الحقيقي في هذه الفترة، وعندنا خير، أن نستثمر كل إمكانياتنا في التعليم”. وستكون الطاقة النووية مع غيرها من المشروعات التي تعتمد على المعرفة المتطورة والعلوم والتكنولوجيا والموارد البشرية الرفيعة التأهيل هي المصدر الحقيقي لثروة لا تنتهي ولا يطالها النضوب.
إجراءات صارمة للسلامة والأمن النوويين
إن الحلول المطروحة على الأمم والشعوب لا ينطوي أيٌّ منها على خير مطلق أو شر مطلق، بل على خليط معقَّد من العناصر التي تجعل عملية اتخاذ القرار قائمة على مفاضلة بين بدائل ملتبسة، والقرار الأقرب إلى الصواب هو الذي يدرس بوعي وبعمق وتأنٍّ كل الفرص والتحديات. وليس قرار اختيار توليد الكهرباء من الطاقة النووية استثناء من ذلك، فهو ينطوي على فرص هائلة وكبيرة، لكن مخاوفه ليست بالهيِّنة، وهي تتعلق بالسلامة التامة والتأمين الكامل من الأخطار النووية المحتملة. ولقد كان الأمان والسلامة هما العنصران اللذان نالا أكبر الاهتمام حين كان المشروع النووي الإماراتي لا يزال في مراحل تبلوره كفكرة، ومشروع لم يبدأ أولى خطواته بعد.
منذ أطلقت دولة الإمارات مشروعها النووي السلمي كانت “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” شريكاً في كل الخطوات التي اتُّخذت عبر عقد كامل من العمل. وتُمثل السلامة والأمن النوويان أحد ثلاثة محاور لعمل المنظمة، حيث إن من مهامها “تحسين السلامة والأمن النوويين، والاستعداد والاستجابة للطوارئ. وهذا العمل محكوم بالاتفاقيات والمعايير والتوجيهات الدولية. والهدف الرئيسي هو حمايه الناس والبيئة من الآثار الضارة للإشعاع. وقسم إدارة السلامة والأمن النوويين هو المحور التنظيمي لهذا العنصر من عمل الوكالة”. وتُعد الوكالة الجهة الأكثر موثوقية واعتمادية في مجال السلامة والأمن النوويين، وصاحبة الخبرة الأوسع التي تمتد إلى أكثر من ستة عقود من العمل تحت إشراف الأمم المتحدة.
الصورة 3
وقد أشار سعادة حمد علي الكعبي، المندوب الدائم لدولة الإمارات لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى دقة عمليات التحقق من السلامة والأمان النوويين، في حديث أدلى به إلى “وكالة أنباء الإمارات” في 28 ديسمبر 2019، قائلاً إنه “خلال العقد الماضي رحبت دولة الإمارات بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، والجمعية العالمية لمشغلي الطاقة النووية للقيام بأكثر من 40 مهمة تضمنت إجراء المراجعات والمقارنات وجمع آراء الخبراء حول مشروع محطات براكة للطاقة النووية السلمية، وذلك بهدف ضمان سير العمليات الإنشائية قبل البدء بالتشغيل الفعلي وفق أفضل الممارسات العالمية”. والجمعية العالمية لمشغلي الطاقة النووية بدورها هي أحد الروابط المهنية المرموقة عالمياً، وقد أُنشئت عام 1989، من أجل العمل على تحسين مستويات الأمن والسلامة في محطات الطاقة النووية عبر العالم. وقد انضمت مؤسسة الإمارات للطاقة إلى عضوية الرابطة منذ عام 2010، حيث تؤدي دوراً فاعلاً فيها.
وتعتبر مؤسسة الإمارات للطاقة النووية السلامة أهم أولوياتها منذ نشأتها إلى الآن، ولذا فقد أنشأت “مجلس مراجعة السلامة النووية” من عدد من أكبر الخبراء والشخصيات العلمية المرموقة في هذا المجال حول العالم، للتأكد من السلامة في كل مراحل العمل، وهم الدكتور ديل كلاين الرئيس السابق لمفوضية الرقابة النووية الأمريكية، والدكتور شانغ سن كانج أستاذ الهندسة النووية في جامعة سيؤول الوطنية، وجيمس رينسك الرئيس السابق لـ”بكتل للطاقة النووية”، وجيمس شيبرد، الرئيس السابق والرئيس التنفيذي لشركة إس تي بي النووية، والدكتور كونيهيسا سودا مستشار السلامة النووية بوكالة الطاقة الذرية اليابانية.
وتضم المؤسسة عدداً من فرق العمل بهدف إدارة ورصد الصحة والسلامة والبيئة والاستدامة، ومن بين هذه الفرق: فريق الصحة الوظيفية والسلامة المؤسسية، وفريق الإشراف الإنشائي، وفريق السلامة النووية وثقافة السلامة، وفرق الاستجابة للطوارئ واستمرارية الأعمال. وتشجع المؤسسة موظفيها على “الإعراب عن مخاوفهم المرتبطة بالسلامة وتحديد الجوانب اللازمة للتحسين، وتضع برامج تدريب دورية لضمان السلامة وإجراء تقييمات للحفاظ على الدقة التي تعزز التحسين المستمر وتكوين بيئة عمل تدرك أهمية السلامة”.
وتشمل خطط السلامة إجراءات دقيقة من أجل إدارة الوقود النووي المستهلك، وتخزينه تخزيناً آمنا داخل محطة “براكة” وفق أرقى المعايير العالمية، وبالتعاون مع منظمات وهيئات مختصة، ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو إعادة معالجته من خلال إعادة تدويره وتحويلة إلى وقود جديد.
وهذه المنظومة من التدابير والإجراءات والبنية الإدارية والشراكات مع الجهات الدولية والمنظمات الموثوق بها، والاستعانة بشكل منتظم بالخبراء العالميين في السلامة والأمن، هو ما منح المشروع النووي الإماراتي أحد أهم عناصر نجاحه، وهو الثقة العالمية التامة في التزام أعلى درجات الأمن السلامة، وإنهاء أي مخاوف بشأنهما، لأن أي حادث نووي عارض لن تقتصر تأثيراته على المكان الذي يحدث فيه فحسب، بل ستكون ممتدة جغرافياً، وطويلة الأمد، وذات تداعيات فادحة.
مصداقية.. وترحيب دولي
كثيراً ما يرتبط الحديث عن المفاعلات النووية بمخاوف وشبهات من استخدامها لأغراض عسكرية، ويقف ذلك عائقاً في بعض الأحيان دون تنفيذ بعض الدول مشروعاتها النووية، كما هي الحال مع إيران على سبيل المثال. ويمكن لأي مراقب أن يلاحظ أن دولة الإمارات لم تكن يوماً محل شبهة من هذا النوع، ولم يُثر حتى أعداؤها شكوكاً حول الأهداف السلمية للمشروع النووي الإماراتي. ولم ينبع ذلك من فراغ، فهو في الأساس ناجم عن تراث طويل من المصداقية التي أصبحت مرادفة لدولة الإمارات في العالم. وأدت سمعة الدولة باعتبارها صانعة للسلام وصاحبة دور في إرساء الاستقرار في منطقتها والعالم، إلى ثقة عالمية مطلقة بأن أهدافها التي أعلنتها هي الأهداف الحقيقية للمشروع.
وبالمقارنة بمشروعات أخرى في المنطقة التي بدأ بعض دولها التفكير في إنشاء برامج نووية منذ الستينيات من القرن الماضي، فإن البرنامج النووي الإماراتي دخل مرحلة التشغيل في وقت قياسي، ولم تعرف مسيرته التعثر أو الارتباك، إذ كان يمضي بخطى واثقة على الدوام. وقد أوضحت ماريا كورسنك الرئيس والرئيس التنفيذي لمعهد الطاقة النووية في الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الجانب قائلة إن “الوصول لمرحلة التشغيل بعد ثماني سنوات فقط من بدء العمليات الإنشائية يوضح كيف يمكن لأي دولة أن تزيد إمداداتها من الكهرباء الخالية من الكربون وفق درجة عالية من السلامة و الكفاءة”.
ولا شك في أن التخطيط الجيد من بين عوامل هذا المسار السلس للموضوع، لكن المؤكد أيضاً أن شفافية دولة الإمارات وثقة العالم بها قد ساعدتا على تجنُّبها كثيراً من العراقيل والمشكلات. وقد أثبتت المصداقية والشفافية أنهما ثروة حقيقية ذات مردود اقتصادي كبير، فقد وفرتا على الدولة وقتاً طويلاً تُقدر كلفته في مشروع كبير مثل مشروع الإمارات النووي بمئات الملايين من الدولارات.
وقد عكست ردود الفعل الدوليةُ المرحبةُ المصداقيةَ التي تحظى بها دولة الإمارات، حيث تقدَّم مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل ماريانو غروسي، بالتهنئة إلى الدولة على استهلال العمليات التشغيلية في المحطة النووية الأولى، وأكد أن الوكالة تدعم دولة الإمارات في مسعاها إلى استخدام الطاقة النووية التي تساهم في توفير طاقة صديقة للبيئة بكلفة معقولة. كما كتب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على حسابه بموقع “تويتر”: أهنئ دولة الإمارات الشقيقة وأخي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد على بدء تشغيل محطة براكة للطاقة النووية السلمية وهو إنجاز جديد يضاف إلى سجل إنجازاتها، يجسد الحلم المنشود لتكون الأمة العربية صاحبة ريادة وتفوق وتميز في جميع المجالات التي تخدم الإنسانية”.
الصورة 7
وقال هانز بليكس، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأحد الشخصيات التي تحظى باحترام عالمي كبير إن”الطريقة العملية والمهنية التي رأيتها في المشروع، وتتبعها الحكومة والجهات المسؤولة تفيض بالاحترام والثقة. لقد استفاد الإماراتيون بشكل كامل من الخبرة النووية العالمية الواسعة.. وأصبحوا نموذجاً يحتذى به للدول الأخرى التي ترغب في دخول صناعة الطاقة النووية الحديثة”.
كذلك تبدو أهمية الإنجاز الإماراتي، والترحيب الدولي به، في كلمات وزير الطاقة الأمريكي دان بروليت، الذي قال إن الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع إلى شراكة مستمرة مع دولة الإمارات في الوقت الذي تشرع فيه بتطوير هذا الشكل النظيف والموثوق به من الطاقة، ملتزمةً بأعلى معايير منع انتشار الأسلحة النووية والسلامة.
كفاءات إماراتية تقود العمل في “براكة”
منذ بدء المشروع النووي الإماراتي عام 2009، كان تأهيل الموارد البشرية الإماراتية من أجل العمل فيه، ولاسيما في الوظائف التي تحتاج إلى معرفة علمية رفيعة، من أهم أهداف القيادة الرشيدة والمسؤولين عن سير العمل فيه. وتبلغ نسبة المواطنين الإماراتيين بين العاملين في شركة “نواة” للطاقة المسؤولة عن تشغيل محطة “براكة” 60 %. ولا تنبع أهمية هذا الرقم من نسبة التوطين العالية من جهة العدد فقط، بل من حقيقة ارتفاع عدد العاملين في الوظائف التخصصية الدقيقة والحساسة، المتصلة بتشغيل المحطة، على الرغم من القصر النسبي للمدة التي تفصل بين بدء المشروع النووي الإماراتي عام 2009، ودخول المحطة الأولى في براكة حيز التشغيل الفعلي.
وقد أطلقت مؤسسة الإمارات للطاقة النووية منذ عام 2009 برنامج “رواد الطاقة”، الذي يستهدف استقطاب المواطنين الإماراتيين المتفوقين من طلبة القسم العلمي في المرحلة الثانوية، وخريجي كليات الهندسة والتخصصات الأخرى ذات الصلة، وتوفير فرص الدراسة والتدريب التي تتيح لهم العمل في قطاع الطاقة النووية بالدولة. وقد تعاونت المؤسسة مع “معهد أبوظبي بوليتيكنيك” في إعداد برنامج تدريبي متخصص يمنح من يلتحقون به “الدبلوم العالي في تكنولوجيا الطاقة النووية”. ويركز البرنامج على إعداد الملتحقين به من خريجي الثانوية العامة للمساعدة على تشغيل محطات الطاقة النووية، من خلال برنامج دراسي يجمع بين الدراسة النظرية والتدريب العملي اللذين يقدمهما خبراء عالميون مختصون. وقد تخرَّج في برنامج “رواد الطاقة” حتى الآن 380 طالباً وطالبة.
وحظي المواطنون الإماراتيون الذين تلقوا التأهيل في المجال النووي على اهتمام من القيادة الرشيدة بمتابعة تقدُّمهم العلمي وتشجيعهم على مزيد من تحصيل المهارات اللازمة لعملهم. فقد التقى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في 12 نوفمبر 2019، المجموعة الأولى من المهندسين الإماراتيين الذين حصلوا على ترخيص الهيئة الاتحادية للرقابة النووية للعمل مديري تشغيل ومشغلي مفاعلات نووية، ليكونوا أول من يحصل عليها في تاريخ الدولة. وخلال اللقاء قال صاحب السمو إن “الكفاءات الإماراتية تمتلك طاقات كبيرة وقدرات مبدعة، ونحن على ثقة بتمكنهم من إنجاز وتشغيل أول مشروع للطاقة النووية السلمية في العالم العربي وفق أعلى المعايير العالمية الخاصة بالسلامة والجودة والأداء التشغيلي”.
وفي الوقت الحالي يزيد عدد من حصلوا على الترخيص على 30 مهندساً إماراتياً، تلقوا تدريبهم داخل دولة الإمارات وفي كوريا الجنوبية والولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا. ويتولى مشغل المفاعلات مسؤولية تشغيل وإدارة غرفة التحكم الرئيسية في محطات الطاقة النووية السلمية خلال عمليات التشغيل الاعتيادية وحالات الطوارئ، بما في ذلك تشغيل المفاعلات النووية وإيقافها ومراقبة مؤشراتها. بينما يتولى مدير تشغيل المفاعلات مسؤولية إدارة غرفة التحكم والإشراف على عمل مشغلي المفاعلات النووية والمشغلين الميدانيين، وبما يضمن الالتزام بأعلى معايير السلامة النووية.
وكان للمرأة الإماراتية حضورها الكبير ضمن الكوادر العاملة في مواقع قيادية في المشروع النووي الإماراتي، وهناك ثلاث نساء إماراتيات بين مجموعة المهندسين المواطنين الذين حصلوا على ترخيص الهيئة الاتحادية للرقابة النووية للعمل مديري تشغيل ومشغلي مفاعلات نووية. وقد ركز الإعلام الإماراتي على نماذج ناجحة من مواطنات الدولة اللائي حققن إنجازات كبيرة خلال عملهن في المجال النووي بالدولة، من بينهن المهندسة مريم قاسم رئيس قسم تصنيع الوقود النووي في مؤسسة الإمارات للطاقة النووية، وتعدّ أول مهندسة إماراتية متخصصة في هذا المجال، وعالية الحمادي مدير إدارة تقنية المعلومات والاتصالات في مؤسسة الإمارات للطاقة النووية، وشيماء عبدالله الملا، مديرة إدارة التأهب للطوارئ في شركة نواة للطاقة.
خاتمة
سيظل يوم تشغيل أولى المحطات في “براكة” يوم فخر واعتزاز لكل مواطن إماراتي وعربي، حيث أثبت المشروع النووي الإماراتي قدرة العرب على تحقيق إنجازات عالمية كبرى تعتمد على التخطيط والإدارة الجيدة والكفاءة العلمية والتقدم التقني. وفي ظل التقدُّم العلمي الكبير الذي تحرص الدولة على إرسائه وبناء مجتمع المعرفة والأخذ بكل الأسباب التي تضمن تحقيق هذه الأهداف، فإن مزيداً من الإنجازات الكبرى تنتظر دولة الإمارات، في ظل حكمة القيادة الرشيدة وقدرتها على تحديد أنسب الطرق نحو المستقبل، وفي ظل دولة عزيزة منيعة يحميها أبناؤها المخلصون، ويبذلون من أجلها النفيس والغالي.
عناوين جانبية
المصادر
المصدر: صحيفة “الاتحاد”
المصدر: فرسان الإمارات
المصدر: صحيفة “البيان”
المصدر: موقع “العين الإخبارية”
المصدر: موقع “كيو بوست”
المصدر: وكالة أنباء الإمارات