تشهد الصناعات والاستراتيجيات العسكرية تطورات مستمرة على مستوى العالم، بهدف تحقيق التفوق العسكري من جانب، وتوفير أعلى درجة ممكنة من الحماية والتأمين ضد الأعداء أو الخصوم المنافسين من جانب آخر. ومن المجالات المهمة التي تشهد اشتداد حدة المنافسة بين القوى الإقليمية والدولية في هذا الصدد هو مجال البرامج الصاروخية وأنظمة الدفاع المخصصة لمواجهتها، والتي شهدت بدورها تطورات كبيرة في الآونة الأخيرة، ليس فقط على مستوى الصناعات والتقنيات المستخدمة فيها، ولكن أيضاً على مستوى استراتيجيات التوظيف، حيث أصبحت النظم الصاروخية هي السلاح الرئيسي في الحروب المعاصرة بالنظر لدورها المحوري في تدمير مراكز القيادة والسيطرة والأهداف الحيوية لدى العدو عن بُعد وتمهيد الساحة لتسهيل مهمة باقي القوات في تحقيق أهدافها، ما دفع العديد من دول العالم إلى تطوير أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي للتصدي لهذه الهجمات الصاروخية.
من بين الاستراتيجيات المهمة التي ظهرت في هذا المجال ما يعرف باسم «استراتيجية الإغراق الصاروخي» التي طورتها بعض الدول المتطورة عسكرياً وحتى تلك الأقل تطوراً، واستخدمتها حتى بعض الجماعات والفصائل المسلحة من غير الدول لتحقيق نجاحات عسكرية باستخدام تقنيات وصواريخ بدائية ولكنها أثبتت نجاعتها في بعض الأحيان. وتسعى هذه الدراسة إلى تحديد ماهية استراتيجية «الإغراق الصاروخي» وأهدافها وكيفية عملها، وتطور التعامل مع هذه الاستراتيجية على صعيد تطوير منظمات الدفاع الصاروخي، وبعض القوى التي تطبقها في منطقة الشرق الأوسط ولاسيما إيران والقوى التي تدور في فلكها.
أهداف«الإغراق الصاروخي»
تقوم فكرة «الإغراق الصاروخي» (MISSILE DUMPING) بشكل عام على إطلاق عدد كبير من الصواريخ مرة واحدة، في ما بات يعرف بالدفعات الصاروخية، لإغراق منظومات الدفاع الجوي والصاروخي لدى الخصم أو العدو، بحيث لا تستطيع هذه المنظومات اعتراض كل الصواريخ في الوقت ذاته، ومن ثم إحداث اختراق مهم في دفاعات العدو وإصابة الأهداف الحيوية المراد تدميرها.
وتستخدم استراتيجية «الإغراق الصاروخي» في الأغلب ضد خصم أو عدو لديه منظومات متطورة مضادة للصواريخ، بحيث لا تستطيع هذه المنظومات أن تُسقط جميع الصواريخ المهاجمة في نفس الوقت، حتى لو كانت نسبة إصابتها للأهداف مائة بالمائة؛ نظراً لكثافة النيران وعدم كفاية الصواريخ المضادة لاعتراض جميع هذه الصواريخ المهاجمة مرة واحدة. كما تُستخدم هذه الاستراتيجية أيضاً من قبل بعض الدول أو الجماعات المسلحة للتأكد من إصابة هدف ما في حال لم تكن تمتلك صواريخ بالدقة الكافية، حيث يتم إطلاق عدد كبير من الصواريخ على أمل أن يتمكن أحد هذه الصواريخ من إصابة الهدف المطلوب.
فضلاً عن ذلك، تستهدف استراتيجية «الإغراق الصاروخي» تضليل منظومات الدفاع الجوي والصاروخي للخصم، خاصة إذا تعددت منصات إطلاق الصواريخ المستخدمة وتنوعت مدياتها وتم نشرها على مساحات واسعة، وفي بعض الأحيان تكون هذه المنظومات هي نفسها هدفاً للهجمات الصاروخية بهدف تدميرها أو تحييدها بشكل يسهل استكمال قصف المنشآت والمرافق الحيوية والحساسة.
كفاءة منظومات الدفاع الصاروخي
منذ إطلاق ألمانيا النازية لأول صاروخ باليستي عام 1943 (أثناء الحرب العالمية الثانية) واستخدام هذه الصواريخ بكثافة ضد بريطانيا وباقي الحلفاء، شهد العالم تطورات كبيرة على صعيد إنتاج منظومات الصواريخ الحربية وتلك المضادة لها. وتركزت المنافسة في البداية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، اللذين طورا قدراتهما بشكل كبير في مجال إنتاج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والتي تمكنا من خلالها من غزو الفضاء، وإطلاق حرب النجوم، وكذلك منظومات الدفاع الصاروخي المتطورة، التي تستخدمها غالبية جيوش العالم اليوم، قبل أن تبدأ دول أخرى في دخول سباق المنافسة مؤخراً.
ويتصدر العالم اليوم خمس دول رئيسية في إنتاج منظومات الدفاع الصاروخي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وإسرائيل والهند.
الولايات المتحدة:
١ منظومة الدفاع الأرضي GBMD لاعتراض الصواريخ البالستية بعيدة المدى التي قد تنطلق من كوريا الشمالية أو إيران أو روسيا أو أي دولة أخرى، وهو نظام مخصص لحماية الأراضي الأمريكية دون غيرها.
٢ نظام «أيجيس» للدفاع الصاروخي البحري، الذي يضم مجموعة منصات إطلاق صواريخ وأجهزة رادار يتم تنصيبها على السفن والمدمّرات الحربية. ويستهدف هذا النظام الصواريخ «التكتيكية» القصيرة ومتوسطة المدى. ويستفيد من هذا النظام حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا ودول حلف الناتو.
٣ نظام الدفاع الصاروخي «باتريوت PAC-3» والذي تم استخدامه على نطاق واسع بين دول حلف «الناتو»، ويوجد حالياً لدى العديد من حلفاء واشنطن مثل: ألمانيا وإسبانيا واليونان ورومانيا وإسرائيل واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والسعودية والإمارات والكويت وغيرها، وهو نظام مخصص لاعتراض الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى.
٤ نظام «ثاد» الدفاعي THAAD، المخصص لاعتراض الصواريخ القصيرة والمتوسطة على ارتفاعات تصل إلى 200 كيلومتر خارج الغلاف الجوي.
روسيا:
١ منظومة الدفاع الجوي والدرع الصاروخية «إس– 500»، وهي أول منظومة قادرة على تدمير الأقمار الصناعية والصواريخ فرط الصوتية، كما بمقدورها تعقب طائرات العدو على مسافة حتى 800 كيلومتر وإصابة الأهداف بصواريخ على مسافة 600 كيلومتر.
٢ منظومة «إس- 400»، والتي تعد مكافئة لنظام ثاد الأمريكي. وتستخدم هذه المنظومة طيفاً واسعاً من الصواريخ، ما يجعلها نظاماً متعدد المهام، وبمقدورها تدمير الطائرات الشبحية على مسافة بعيدة وتوجيه 160 صاروخاً وتدمير حتى 80 هدفاً في وقت واحد.
٣ منظومة «إس- 300» المكافئة لنظام «باتريوت» الأمريكي، وهي من أكثر الأنظمة انتشاراً لدى جيوش العالم، وأكثر كفاءة في اعتراض الصواريخ على ارتفاعات منخفضة تصل حتى 60 كيلومتراً، وبمدى يصل لأربعة كيلومترات. وتتضمن الكتيبة الواحدة من هذه المنظومة راداراً بعيد المدى لاكتشاف الأهداف المعادية، وعربة قيادة لتحليل البيانات، و6 عربات تعمل كمنصات إطلاق للصواريخ (كل عربة تحمل 6 صواريخ) وراداراً قصير المدى يقوم لتتبع الأهداف وتوجيه الصواريخ نحوها. ويمكن لهذه المنظومة التعامل مع 24 طائرة أو 16 صاروخاً باليستياً حتى مسافة 250 كيلومتراً في وقت واحد.
وبالإضافة للولايات المتحدة وروسيا اللتين تتصدران سباق التنافس العالمي في مجال منظومات الدفاع الصاروخية، توجد دول أخرى تشهد تطورات مهمة في هذا المجال مثل:
الصين:
نجحت في تطوير منظومة HQ-9B بعيدة المدى، والتي تعتبر نموذجاً مطوراً لـ «إس – 300 بي إم أو – 2» الروسية التي تم تصنيعها مطلع التسعينات. وبمقدورها تدمير الأهداف الجوية على مدى 250 كيلومتراً. أما صواريخها فتحلق بسرعة 4.2 ماخ وتمتلك أنظمة للتوجيه تضمن لها الدقة.
الهند:
تمتلك نظامين للدفاع هُما منظومة «بريتفي» للدفاع الجوي PAD، والمخصصة لاعتراض الصواريخ على ارتفاعات عالية من 50 إلى 80 كيلومتراً، ومنظومة دفاع الجو AAD، والمخصصة لاعتراض الصواريخ على ارتفاعات منخفضة حتى 30 كيلومتراً على الأكثر، وهما أقل تطوراً وإمكانيات من نظرائهما لدى روسيا والصين.
إسرائيل:
١ منظومة القبة الحديدية: وهي منظومة دفاع جوي تكتيكية صممتها إسرائيل لاعتراض الصواريخ قصيرة المدى، وقد ذاع صيتها أثناء الحروب الأخيرة مع حماس واعتراضها لعدد من الصواريخ القادمة من قطاع غزة، مما دفع دولاً عدة لطلب شرائها. وفي فبراير 2020، أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية، إجراء تجربة ناجحة لنسخة حديثة من منظومة «القبة الحديدية».
٢ منظومة مقلاع داوود: وهي منظومة دفاع جوي مصممة لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى وتم تطويرها مع الولايات المتحدة الأمريكية. وتستطيع التصدي لصواريخ يتراوح مداها من 100 إلى 200 كلم، مثل تلك التي في ترسانة «حزب الله» أو طائرات أو صواريخ كروز على ارتفاعات منخفضة. ولا تمتلك تلك المنظومة ميزة تعدد المهام والقابلية للحركة التي تمتلكها المنظومات الروسية، لكنها تمتلك ميزة مهمة أخرى وهي استخدامها لنظامي التوجيه الراداري والبصري الإلكتروني، ما يضمن التقاط الهدف ومرافقته بفاعلية فائقة. كما أن صواريخها تتميز بدقة عالية.
٣ منظومة «آرو»: وتتصدى للصواريخ الباليستية والصواريخ بعيدة المدى وتم تصميمها بالتعاون مع الولايات المتحدة. وأحدث طرازاتها «آرو - 3»، التي يصل مدى صواريخها إلى 2400 كلم.
والسؤال المطروح هنا:
هل هذه المنظومات الدفاعية قادرة على التعامل بفاعلية مع استراتيجية الإغراق الصاروخي؟ تشير الوقائع والأحداث إلى استحالة إقامة درع وقاية يحمي مختلف الدول بشكل كامل من الهجمات الصاروخية، وذلك لعدة عوامل منها:
١ أكثر منظومات الدفاع الجوي القائمة حالياً تستطيع التعامل مع عدد من الصواريخ لا يتجاوز العشرات على أقصى تقدير، وهو ما يعني أن إطلاق كم كبير من الصواريخ يتجاوز قدرة هذه المنظومات على التعامل معه سيعني نجاح هذه الاستراتيجية في إصابة الأهداف المتوخاة، لأن بعضها لن يتم اعتراضه.
٢ تطور منظومات الدفاع الصاروخي والجوي يدفع الدول والقوى المنافسة إلى تطوير قدراتها الصاروخية وتكثيف هجماتها الصاروخية لتعوض الصواريخ التي ستنجح الأنظمة الدفاعية في اعتراضها وإسقاطها، بحيث تتمكن في النهاية من اختراق حائط الحماية الذي تمثله هذه المنظومات الدفاعية.
٣ بعض الدول أو الجماعات المسلحة تلجأ عادة إلى استخدام صواريخ محلية بدائية أو قليلة التكلفة، في حين أن استخدام منظومات الدفاع الصاروخي المتطورة لاعتراض هذه الصواريخ يتم بتكلفة عالية جداً، ويعني ذلك استنزاف القدرات المالية والاقتصادية للطرف الذي يستخدم هذه المنظومات. فعلى سبيل المثال تشير بعض التقديرات إلى أن تكلفة صواريخ حركة حماس قصيرة المدى تتراوح بين 300 و500 و800 دولار لكل صاروخ، بينما تتراوح تكلفة صواريخ القبة الحديدية التي تعترضها بين 50 – 100 ألف دولار. وكذلك الحال بالنسبة لصواريخ «باتريوت» الأمريكية التي يبلغ ثمن الواحد منها نحو 3 ملايين دولار.
«الإغراق الصاروخي» في إيران:
تمثل استراتيجية «الإغراق الصاروخي» إحدى أوراق التهديد التي تلوح بها إيران في مواجهة خصومها وأعدائها، ولاسيما الولايات المتحدة وإسرائيل. وهو أمر ليس بالجديد، ففي أكتوبر 2007، قال الجنرال محمود شاهارباجي، قائد مجموعة الصواريخ داخل الحرس الثوري إن «إيران قادرة على إطلاق 11 ألف صاروخ على قواعد العدو خلال الدقيقة الأولى من تعرضها لأي هجوم».
وعلى الرغم من أن قدرات إيران الصاروخية ليست متطورة بصورة كبيرة، فإن طهران تعتمد استراتيجية الكم، من خلال إنتاج وتخزين ترسانة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى والتي يصل بعضها لنحو ألفي كيلومتر، بحيث تستخدم هذه الصواريخ عند الضرورة من خلال استهداف قواعد خصومها بكم كبير من الصواريخ يصعب اعتراضها جميعاً من قبل منظومات الدفاع الصاروخي والجوي. كما بدأت في السنوات الأخيرة تعمل على تطوير كفاءة ودقة هذه الصواريخ الموجودة في ترسانتها. وضمن سعيها لتوسيع نطاق هذه الاستراتيجية لجأت طهران إلى تزويد حلفائها الإقليميين الموالين لها، مثل «حزب الله» و»الحوثيين» وحركة «حماس» وربما بعض الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لها، بأعداد كبيرة من الصواريخ لتقوم هذه الجماعات بدور الداعم لها في تطبيق استراتيجية «الإغراق الصاروخي» وقت الحاجة، بحيث تتعدد منصات إطلاق الصواريخ وتغطي أكبر مساحة ممكنة، إضافة إلى استغلال هذه الجماعات الموالية في تنفيذ هجمات عسكرية ضد من تعتبرهم إيران خصومها، وهو ما برز واضحاً في كثير من جبهات الصراع في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية.
«القبة الحديدية» في مواجهة صواريخ الفصائل الفلسطينية:
نجحت شركة «رافائيل» الإسرائيلية الحكومية المحدودة لأنظمة الدفاع المتطورة في تطوير نظام أطلقت عليه اسم «القبة الحديدية» في عام 2010 يستطيع اعتراض صواريخ «الكاتيوشا» قصيرة المدى التي يطلقها «حزب الله» والفصائل الفلسطينية، وتم نشر هذه المنظومة في صيف عام 2011 بالقرب من قطاع غزة، كما تم نشر بطاريات أخرى منه خصوصاً قرب مدينتي عسقلان وأشدود وجنوب «تل أبيب» وقرب مدينة «نتيفوت» الواقعة على مسافة 20 كيلومتراً من حدود غزة.
وتعمل القبة الحديدية عن طريق تتبع المقذوفات قصيرة المدى القادمة بواسطة رادار، ثم تحليل البيانات حول منطقة السقوط المحتملة عن طريق وحدة التحكم، وفي حال أشارت نتيجة التحليل إلى أن الصاروخ سيصيب هدفاً أو منطقة مأهولة فإن منظومة التحكم ترسل إشارة أوامر إلى القاذفة لإطلاق صاروخ للاعتراض. وقد تم تجهيز كل بطارية برادار كشف وتتبع، ونظام تحكم بالإطلاق و3 قاذفات كل واحدة تحمل 20 صاروخاً.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية في اختراق منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية وإصابة العديد من الأهداف والمدن الإسرائيلية، حيث أطلقت حركة «حماس» والفصائل الفلسطينية حوالي 3000 صاروخ خلال 8 أيام من قطاع غزة باتجاه إسرائيل، أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات، كما وصلت لأهداف بعيدة لم تكن في الحساب سابقاً، الأمر الذي أعاد الجدل داخل إسرائيل حول فاعلية هذه المنظومة، ولاسيما في ظل التكلفة العالية التي تتكبدها إسرائيل للتصدي لصواريخ «حماس» البدائية قليلة التكلفة.
خاتمة:
خلصت مجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية في تقييمها لإخفاق منظومة القبة الحديدية الإسرائيلية في مواجهة صواريخ الفصائيل الفلسطينية خلال حرب غزة الأخيرة للقول إنه لا يوجد نظام دفاع صاروخي، مهما كان متقدماً، يتمتع بحصانة كاملة ضد الهجمات الصاروخية المكثفة، وهذه الخلاصة تؤكد بمفهوم المخالفة أن استراتيجية «الإغراق الصاروخي» هي استراتيجية فاعلة، في حال طبقتها دول أو جماعات مسلحة، متى ما توافر لديها ترسانة كبيرة من الصواريخ بصرف النظر عن مدى تطورها، وهو الأمر الذي قد يشجع مزيد من الدول والجماعات المسلحة على استخدامها واللجوء إليها مستقبلاً كإحدى الاستراتيجيات للضغط على الخصم وإرباك دفاعاته الاستراتيجية.●