صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراوي أحاديثه، أمير المؤمنين وخالهم، أول ملوك الإسلام وخيرهم، كاتب الوحي، الداهية الحليم، العاقل الحكيم، العالم الفقيه، العفو القوي، المتواضع الورع، الجواد الكريم، أول من غزا البحر، كنيته أبو عبدالرحمن، واسمه معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي القرشي رضي الله عنه وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كان رضي الله عنه أميراً حليماً من أمراء المؤمنين، وملكاً خَيِّراً من ملوك المسلمين، وقائداً حكيماً من قادة مدرسة رسول رب العالمين، وهذه إطلالة على أهم ملامح قيادته رضي الله عنه:
1 القائد العالم الفقيه:
من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً عالماً فقيهاً حريصاً على العلم والتعليم واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان أخص كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وألزمهم له، وروى عنه أحاديث كثيرة أحصيت بمائة وثلاثة وستين حديثاً، وشهد له الصحابة بالعلم والفقه، فقد قيل لابن عباس: «هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه» (البخاري: 3765)، وكان رضي الله عنه حريصاً على تلقي العلم، فقد روي عنه أنه كتب إلى المغيرة بن شعبة فقال: «اكتب إلي ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة»، فأملى المغيرة مولاه وراد فقال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»، وقال وراد: ثم وفدت بعد إلى معاوية، فسمعته: يأمر الناس بذلك القول (البخاري: 6615)، وكان رضي الله عنه حريصاً على السنة والاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن معاوية عندما دخل مكة سأل ابن عمر فقال: «يا أبا عبدالرحمن، أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام دخلها؟ قال: بين العمودين المقدمين اجعل بينك وبين الجدر ذراعين أو ثلاثاً» (أخبار مكة للأزرقي: 1/270-271)، وعن حميد بن عبدالرحمن بن معاوية سمع معاوية يقول بالمدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم يوم عاشوراء، وهو يقول: من شاء منكم أن يصومه فليصمه، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا، وأخرج قصة من شعر من كمه فقال: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذتها نساؤهم» (مسند أحمد: 16891).
2 القائد الحليم العفو:
من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً حليماً عفواً، فقد كان يضرب به المثل في الحلم والعفو وكظم الغيظ والإحسان إلى المسيء، فيروى أن رجلاً أسمع معاوية كلاماً شديداً، فقيل له: لو سطوت عليه، فقال: «إني لأستحيي أن يضيق حلمي عن أحد من رعيتي»، وفي رواية: قال له رجل: يا أمير المؤمنين، ما أحلمك! فقال: «إني لأستحيي أن يكون جرم رجل أعظم من حلمي»، ويروى أن رجلاً قال لمعاوية: ما رأيت أنذل منك، فقال معاوية: «بلى، من واجه الرجال بمثل هذا»، ويروى أن رجلاً يدعى أبا جهم جرى بينه وبين معاوية كلام، فتكلم أبو الجهم بكلام فيه غم لمعاوية، فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: «يا أبا الجهم، إياك والسلطان، فإنه يغضب غضب الصبيان، ويأخذ أخذ الأسد، وإن قليله يغلب كثير الناس»، ثم أمر له بمال، فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية:
نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا
نقلبــــه لنخـ بر حالتيه
فنخبر منهما كرماً ولينا
وقد شهد لمعاوية بالحلم خلق كثير، من ذلك ما قاله عبدالملك بن مروان: «ما رأيت مثله في حلمه واحتماله وكرمه»، وقال قبيصة بن جابر: «ما رأيت أحداً أعظم حلماً، ولا أكثر سؤدداً، ولا أبعد أناةً، ولا ألين مخرجاً، ولا أرحب باعاً بالمعروف من معاوية»، وقال عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما: «لله در ابن هند، والله إن كنا لنفرقه – وما الليث على براثنه بأجرأ منه – فيتفارق لنا، وإن كنا لنخدعه – وما ابن ليلة من أهل الأرض بأدهى منه – فيتخادع لنا، والله لوددت أنا متعنا به ما دام في هذا الجبل حجر»، وأشار إلى أبي قبيس، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «قد علمت بم غلب معاوية الناس، كانوا إذا طاروا وقع، وإذا وقعوا طار».
وكان رضي الله عنه يوصي بالحلم ويحث عليه، فقد روي أن ابن أخته عبدالرحمن بن أم الحكم قال لمعاوية: إن فلاناً يشتمني، فقال له: «تطأطأ لها تمر فتجاوزك»، وقال معاوية: «يا بني أمية، قاربوا قريشاً بالحلم، فوالله لقد كنت ألقى الرجل في الجاهلية فيوسعني شتماً وأوسعه حلماً، فأرجع وهو لي صديق، أستنجده فينجدني، وأثور به فيثور معي، وما رفع الحلم عن شريف شرفه، ولا زاده إلا كرماً»، وقال: «لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة الحلم»، وقال رجل لمعاوية: من أسود الناس- أي: أكثرهُم سيادة-؟ فقال: «أسخاهم نفساً حين يسأل، وأحسنهم في المجالس خلقاً، وأحلمهم حين يستجهل« (ينظر لكل ما سبق البداية والنهاية: 11/439-443)، هكذا نجد أن معاوية رضي الله عنه ساد الناس بحلمه وخلقه العظيم، وثبت أركان حكمه بعفوه وإحسانه الكبير.
3 القائد الداهية الفطن:
من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان عاقلاً داهيةً ذكياً فطناً، فقد شهد له أئمة الإسلام بالدهاء والعقل وحسن السياسة، فيروى عن الفاروق عمر رضي الله عنه أنه قال: «تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية» (تاريخ الطبري: 5/330)، ويروى عن أبي محمد الأموي أنه قال: «خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله، وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك، قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عِزًّا، فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت أصر إليه، قال: ويحك، ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك» (تاريخ الطبري: 5/331)، وقال الذهبي رحمه الله عن معاوية: «فهذا الرجل ساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه ورأيه» (سير أعلام النبلاء: 3/133).
4 القائد المحسن الجواد:
من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان قائداً محسناً كريماً جواداً، فقد اشتهر عنه إكرام الصحابة بالعطايا وقضاء حاجاتهم، فيروى عن سعيد بن عبدالعزيز أنه قال: «قضى معاوية عن عائشة أم المؤمنين ثمانية عشر ألف دينار كانت عليها»، ويروى عن عبدالله بن بريدة أنه قال: «قدم الحسن بن علي على معاوية فقال: لأجيزنك بجائزة لم يجز بها أحد كان قبلي، فأعطاه أربعمائة ألف ألف«، ويروى عن الأصمعي قوله: «وفد الحسن وعبدالله بن الزبير على معاوية، فقال للحسن: مرحباً وأهلاً بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمائة ألف، وقال لابن الزبير: مرحباً وأهلاً بابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بمائة ألف»، ويروى عن أبي مروان المرواني: «بعث معاوية إلى الحسن بن علي بمائة ألف، فقال: لجلسائه: من أخذ شيئاً فهو له، وبعث إلى الحسين بمائة ألف، فقسمها على جلسائه، وكانوا عشرة، فأصاب كل واحد عشرة آلاف»، ويروى أنه كان لعبدالله بن جعفر على معاوية في كل سنة ألف ألف، فاجتمع عليه في بعض الأوقات دين خمسمائة ألف، فألح عليه غرماؤه، فاستنظرهم حتى يقدم على معاوية، فيسأله أن يسلفه شيئاً من العطاء، فركب إليه، فقال له: ما أقدمك يا ابن جعفر؟ فقال: دين ألح علي غرماؤه، فقال: وكم هو: قال: خمسمائة ألف، فقضاها عنه، وقال له: إن الألف ألف ستأتيك في وقتها (ينظر لكل ما سبق ذكره: البداية والنهاية:11/443-446).
5 القائد الغازي الرائد:
من أهم ملامح قيادته رضي الله عنه أنه كان أول من غزا البحر، وذلك عندما طور الأسطول البحري الإسلامي واهتم بصناعة السفن وتقوية الثغور البحرية في كل من الشام ومصر، ومن ثم أرسل الحملات البحرية الاستطلاعية، فغزا البحر الأبيض المتوسط وفتح جزيرة قبرص وأرواد ورودس وكريت، وغزا مدينة القسطنطينية وحاصرها مرتين، وبذلك نال رضي الله عنه الفضل العظيم الذي ورد فيما أخرجه البخاري من طريق أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان، قالت: «نام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني، ثم استيقظ يتبسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: أناس من أمتي عرضوا علي يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة، قالت: فادع الله أن يجعلني منهم فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت مثل قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت من الأولين، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين، فنزلوا الشام، فقربت إليها دابة لتركبها، فصرعتها، فماتت» (البخاري: 2799)، وما أخرجه البخاري من طريق أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا، قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا» (البخاري: 2924)، وهكذا نجد أن معاوية رضي الله عنه مهد الطريق لفتح القسطنطينية لمن جاء بعده من قادة المسلمين العظام.
وختاماً: رضي الله عن الصحابي الجليل الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به» (الترمذي: 3842)، وقوله: «اللهم علمه الكتاب، والحساب، وقه العذاب» (سير أعلام النبلاء: 3/124)، والحمد لله رب العالمين.
الدكتور ناصر عيسى البلوشي – كبير باحثين بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي