لعلّه راودك هذا التساؤل الذي يدور حوله الجدل منذ أمد طويل، وهو: من يقود الآخر… السياسة أم الاقتصاد؟ الأغلب، ومن خلال الأحداث والمعطيات المتسارعة، مال كثيرون لاعتبار الاقتصاد قائداً. أنا أيضاً، عندما أتابع العديد من الملفات أميل للتصنيف نفسه أحياناً، لكن ما رأيته مؤخراً، تحديداً من تغير فيما يمكن وصفه بالقيم الدولية، جعلني أُراجع كل القناعات القديمة.
الأكيد، أن لا الاقتصاد ولا السياسة يملكان القيادة الدائمة، وإنما المصلحة الوقتية بحسب كل ملف، وكل دولة. بل إن التغيير في الملف نفسه قد يحدث بتطور الظروف المصاحبة، ووجود ما يلغي قيادة أحدهما. هذه الحقيقة التي يجب أن نتذكرها على الدوام.
السرد آنفاً، فقط لأقول بمباشرة إن تعاطي بعض دول العالم مع النفط، وأعني مواقفها تجاه منظمة “أوبك” ومجموعة “أوبك بلس” ينطلق من مواقفها السياسية بالدرجة الأولى تجاه الدول المُنتجة فقط لا غير. لذلك تجد الإعلام يضخم من رواية ارتفاع أسعار النفط (الأسواق المنظمة)، ويتجاهل عمداً كل التضخم في أسواق الغاز وبقية أسواق الطاقة وغيرها (غير المنظمة).
بعيداً ذهب البيت الأبيض في رد الفعل على قرار “أوبك بلس” الأخير، بخفض إنتاج النفط بواقع مليوني برميل يومياً. وُضع القرار في سياق التأثير على مسار الانتخابات النصفية من باب رفع تكلفة الوقود على الناخب الأمريكي وإثارة غضبه على الديمقراطيين. ثمة أصوات قفزت إلى استنتاجات عجيبة مفادها أن “أوبك” اختارت التحالف مع موسكو في المعركة الدائرة بين الأخيرة وعموم عواصم الغرب على خلفية النزاع الروسي – الأوكراني.
يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن تريد من “أوبك بلس” أن تتخذ المواقف الرامية إلى معاقبة روسيا، عبر خفض عائدات النفط وحرمانها من عائدات تستخدمها لتمويل حربها ضد أوكرانيا، أي أنها تطلب من دول مثل السعودية والإمارات وغيرهما، أن تدفع فاتورة معاقبة نظام فلاديمير بوتين، من دون أن تأخذ هي في عين الاعتبار مصالح هذه الدول وهواجسها الأمنية في بعض الملفات الملحة في المنطقة. قرار «أوبك بلس» هو قرار تقني، ولو كانت له تأثيرات سياسية. أما ما تريده واشنطن فهو قرار نفطي سياسي صرف، يسعى لعسكرة الطاقة في مواجهة العسكرة التي بدأها نظام بوتين ضد أوروبا عبر وقف تصدير الغاز.
يُخطئ من يعتقد أن ما يحدث في أسعار النفط مدفوعة بحسابات سياسية، فآخر ما تُفكر فيه “أوبك بلس” هو استخدام النفط كسلاح لموازنة المشهد أو لإيلام طرف من الأطراف. وكما قال وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودية عادل الجبير، في قناة “فوكس نيوز”:
النفط ليس سلاحاً ولا طائرة مقاتلة ولا دبابة يمكن أن تطلق النار منه، والأهم بكثير من كل ما سبق، هو أن العلاقة بين دول الخليج العربي والولايات المتحدة هي علاقة ثنائية تاريخية عميقة، ممتدة منذ عقود طويلة، في مجالات السياسة والدفاع والاقتصاد والاستثمار والطاقة، ولا يمكن اختصارها بأسعار النفط، وهي بالتأكيد أبعد من مصالح حزبية وأبواق انتخابية مؤقتة.