أفغانستان، تلك الدولة الآسيوية الحبيسة التى لا تطل على بحار أو أنهار، شغلت العالم منذ ما يزيد على الأربعين عاماً وما تزال. فبعد هجمات سبتمبر 2001 على نيويورك، دشنت الولايات المتحدة الأمريكية وقوات تحالف ثمانية وثلاثين دولة عمليات حربية ضد الإرهاب فى أفغانستان بعد أن أشارت أصابع الإتهام لتنظيم القاعدة الذي آوت الدولة قياداته ورفضت حركة طالبان تسليمهم. وبينما أنهى التحالف مهمته في عام 2014 بقيت آلاف العناصر تحت بند تدريب القوات الأفغانية.
في إطار الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عام 2016 كانت تعهداته بإعادة الجنود الأمريكيين إلى أرض الوطن، وقد باتت الانتخابات الجديدة وشيكة بنهاية العام الجاري، لذا انخرط في جولات من المفاوضات امتدت لتسع جولات مع حركة طالبان وبحضور ممثلين عن ثلاثين دولة ومنظمة دولية، بما فيها الأمم المتحدة ووزيرا خارجية تركيا وباكستان. وفي الدوحة في التاسع والعشرين من شهر فبراير 2020 وقع وفد طالبان بقيادة نائب زعيم الحركة الملا “عبدالغني برادر” مع وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” اتفاق سلام بين الطرفين.
وفي خطوة لإعطاء زخم لهذا الاتفاق، عرضته الولايات المتحدة على مجلس الأمن الدولي في العاشر من مارس 2020 للتصويت على مشروع قرار يكرس هذا الاتفاق بعد أن بدأ الجيش الأمريكي سحب عدد من جنوده في قاعدتين أفغانيتين بالفعل.
وقد طلبت الصين إدراج إشارة إلى التعاون الإقليمي في المسودة الأخيرة لمشروع القرار حرصاً منها على خطة “طرق الحرير الجديدة” التي تطورها عبر القارات. وكان هذا الطلب الأمريكي نادراً في الأمم المتحدة بالنسبة لاتفاق تم بين دولة وحركة مسلحة.
وقد جاء اتفاق السلام بين “إمارة أفغانستان الإسلامية” والمعروفة بطالبان وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية في أربع صفحات مشتملة على أربعة محاور تحدد شروطاً والتزامات متبادلة، وهي:
المحور الأول: شمل ضمانات وآليات إنفاذ الاتفاق التي من شأنها منع أي مجموعة أو فرد من استخدام الأراضى الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها، وتلتزم طالبان بالامتناع عن تجنيد أو تدريب أو جمع أموال أو توفير ملاذ أمن لأي مجموعة أو فرد يشكل تهديداً لأمن الولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك الالتزام بالتعامل مع طالبى اللجوء لأفغانستان وفقاً للقانون الدولي.
المحور الثاني: عالج ضمانات وآليات سحب جميع القوات الأجنبية من أفغانستان والذي سيتم خلال أربعة عشر شهراً تدريجياً تبدأ بخفض القوات من نحو أربعة عشر ألفاً إلى ثمانية آلاف وستمائة خلال مائة وخمس وثلاثين يوماً. وإطلاق سراح متبادل للمسجونين وعددهم نحو 5000 سجين من طالبان وألف سجين من القوات الأفغانية بحلول 10/3/2020، ورفع أسماء أعضاء حركة طالبان من قائمة العقوبات الأمريكية والدولية والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها ضد أفغانستان وعدم التدخل في شئونها الداخلية.
المحور الثالث: يتعلق بالمفاوضات الأفغانية ـــ الأفغانية والتي كان من المفترض أن تنطلق في 10 مارس 2020.
المحور الرابع: يشير إلى أن وقفاً دائماً وشاملاً لإطلاق النار سيكون على جدول أعمال الحوار والمفاوضات بين الأفغان للاتفاق على موعده وآليات تنفيذه تمهيداً للاتفاق على خريطة طريق سياسية مستقبلية لأفغانستان.
عدة إشكاليات امام تنفيذ هذا الاتفاق
على صعيد الجانب الأفغاني داخلياً: هناك فجوة الثقة الواسعة بين طالبان والحكومة الأفغانية وخشية المجتمع المدني في أفغانستان على منجزات تحققت فى ظل الوجود الأمريكي إضافة إلى إصرار طالبان استخدام تسمية “إمارة أفغانستان الإسلامية” حتى في الاتفاق ذاته.
ويتمثل التحدي الثاني في الأزمة السياسية: التي تواجهها كابول في ظل تنازع السلطة بين رئيسين نصب كل منهما نفسه رئيساً للبلاد مدعياً فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي عقدت في سبتمبر 2019، فمع من ستتفاوض طالبان مع “أشرف غني” أم “عبدالله عبدالله”؟ وفي حالة التفاوض مع أي منهما ما هي ضمانات التزام الرئيس الآخر بمخرجات عملية التفاوض؟
وفي ذات السياق فإن الاتفاق الموقع لم يشمل السلطات الأفغانية الرسمية، ولم يضع الاتفاق أي تصور لطبيعة المكونات المحلية المشاركة في الحوار، وأغفل الاتفاق مستقبل سلاح حركة طالبان فلم يشر إلى نزعه، وهذا يعني تعزيز الموقف التفاوضى للحركة فى مواجهة الحكومة الأفغانية التي ستعانى كثيراً بعد الانسحاب الأمريكي وسحب الدعم المقدم إليها.
وداخلياً أيضاً يبرز تحدٍّ جديد إذ أن طالبان لا تسيطر على جميع المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة الأفغانية والتي تقارب نحو 20% من الأراضي الأفغانية وتقطنها جماعات موالية لداعش وجماعات أخرى منشقة عن طالبان نفسها والتي قد تخل بالاتفاق ولا تلتزم بعدم استخدام هذه الأراضي لتهديد أمن أمريكا وحلفائها. ولا يمكن التغافل عن أن تنظيم داعش قد أنشأ له فرعاً في أفغانستان في بواكير عام 2015 سمي بولاية خراسان ولا يزال قابعاً هناك.
وينظر كذلك للالتزام التام لحركة طالبان تجاه تنظيم القاعدة وعدم التعاون معه بالكثير من الشك إذ يرتبط الجانبان بعلاقات مصاهرة تفرض تمتع عناصر القاعدة بالحماية داخل الأراضي الأفغانية بموجب الأعراف القبلية والتي أكدته تقارير صادرة عن الأمم المتحدة أفادت بوجود نحو 600 مقاتل منهم على أرض أفغانستان.
وخارجياً فإن أفغانستان ترتبط بحدود مع كل من الهند وباكستان وإيران والصين، ولهذا الموقع دور أيضاً في مدى نجاح أو تعثر تنفيذ بنود الاتفاق المبرم بين طالبان والولايات المتحدة.
وتبرز إيران في الصدارة وهي التي تضم مكتباً تمثيلياً لحركة طالبان منذ عام 2012 وقدمت دعماً مالياً قدره البعض بنحو 500 مليون دولار لطالبان، فضلاً عن تدريب الآلاف من مقاتليهم رغم الخلاف المذهبي بين الجانبين. كما حرصت إيران على استخدام الحركة للمناورة مع الولايات المتحدة لسنوات وربما تعتمدها كأحد أوراق التفاوض معها فيما بعد. فهى مرشحة لأن تلعب دوراً مع طالبان لتجد لها موضع قدم داخل أفغانستان وتعرقل مشروعات التنمية بها وخاصة مشروعات سدود المياه لتستفيد هي منها وخاصة مياه نهر هلمند الذى يغذي أراضي سيستان في المناطق الحدودية بين البلدين، وقد تتحين إيران الفرصة للدخول لعمق هذا البلد لزعزعة أمنه واستقراره محاولة أن تمد نفوذها عبر جماعات (الهزارا) الشيعية الموجودة داخل أفغانستان. كما تخشى إيران من نجاح داعش في تجنيد الأقلية السنية فيها لذا ستظل تقدم لطالبان الدعم لأنها ــ أي حركة طالبان ــ أقل خطراً عليها من تنظيم داعش.
وفي هذا السياق رفضت إيران رسمياً المشاركة في حفل توقيع الاتفاق رغم تلقيها دعوة من قطر للحضور.
في ضوء ما سبق، يمكن الحديث عن عدة سيناريوهات لمستقبل أفغانستان في ضوء الاتفاق بين واشنطن – طالبان. فربما يقود الاتفاق أفغانستان إلى السقوط في براثن حرب أهلية شاملة بعد انسحاب القوات الأمريكية قبل أن تتوصل الحكومة الأفغانية وحركة طالبان إلى تسوية سلمية. فضلاً عن أن سحب الدعم الأمريكي للحكومة الأفغانية يضعف موقفها في مواجهة طالبان وهي الحركة التي تفتقر لأي تاريخ من العمل مع قوى سياسية أخرى.
وربما تكون طالبان مقبلة على تحول تاريخي لتصبح حزباً سياسياً بعد أن يزال تعريفها كحركة إرهابية. وقد تسعى الحركة لإقامة دولتها الإسلامية. ولكن هذا المسعى سيصطدم بالواقع الخارجي فلن يقبل العالم قيام دولة إسلامية أخرى، ونموذج داعش حاضر في الأذهان.
سحر محمد صالح )باحثة في الشؤون الاستراتيجية(