رغم جائحة «كوفيد-19»، التي كان يفترض أن تقلص الإنفاق العسكري العالمي، لصالح الإنفاق على الجوانب الأخرى، الصحية والاجتماعية والإنسانية والإغاثية، لتخفيف أعباء هذه الجائحة، فإن أحدث التقديرات تشير إلى عكس ذلك. فحسب التقرير الأخير الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، في أبريل 2021، فإن إجمالي الإنفاق العسكري العالمي ارتفع إلى 1.981 تريليون دولار في العام 2020، بزيادة قدرها 2.6 % مقارنة بعام 2019، وهذا بدوره يثير مجموعة من التساؤلات حول العوامل التي تقف وراء التزايد المستمر وراء الإنفاق العسكري العالمي؟ وما هي الدلالات الجيوسياسية لاستمرار هذه الزيادة؟ وتداعياتها المحتملة على الأمن والسلم الدوليين؟
الإنفاق العسكري
هناك العديد من الاتجاهات النظرية حول مفهوم الإنفاق العسكري، أحدها يركز على المعنى الضيق الذي يقتصر على الموازنة الدفاعية لدولة ما، والأرقام المجردة التي تعبر عنها، والتي تتضمن الإنفاق على القوات المسلحة، سواء من حيث التسليح أو التطوير والتحديث أو التدريب. وهناك اتجاه آخر يتبنى نظرة أكثر شمولية يذهب إلى أن الإنفاق العسكري يتضمن إضافة إلى ما سبق المشروعات المدنية التي تستثمر فيها الدولة في القطاعات المدنية المرتبطة بالقوات المسلحة، مثل مشروعات البنية التحتية والأساسية والمشروعات الخدمية الأخرى التي تنعكس بشكل أو بآخر على أداء القوات المسلحة.
غير أن الاتجاه السائد هو الأكثر شمولية للإنفاق العسكري، والذي يتبناه معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (sipri)، والذي ينظر إلى الإنفاق العسكري باعتباره يشمل جميع جوانب الإنفاق المتعلقة بالقوات المسلحة، والمهام التي تقوم بها سواء داخل الدولة أو خارجها، والمشروعات المشتركة مع هيئات مدنية، والصناعات الدفاعية والعسكرية والاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، والإنفاق على عمليات الصيانة والبحوث والتطوير، والمساعدات العسكرية التي تقدم من دولة لأخرى، والمشاركات العسكرية في مهام خارجية سواء في مناطق الأزمات والصراعات أو في عمليات حفظ السلام.
ويتأثر الإنفاق العسكري لدولة ما بأوضاعها الاقتصادية وطبيعة علاقاتها مع جيرانها وبالتطورات التي تشهدها البيئتان الإقليمية والدولية، بمعنى آخر فالدولة التي تمتلك اقتصاداً قوياً تتجه في الأغلب إلى زيادة إنفاقها العسكري باعتباره ضرورة استراتيجية لتعظيم قوتها المسلحة، ومن ثم قوتها الشاملة، على أساس أن القوة المسلحة في أي دولة تشكل الركيزة الرئيسية لتعظيم قوتها الشاملة، وتعزيز وزنها السياسي في النظام الدولي. في حين أن الدول التي تواجه مشكلات اقتصادية فإنها ستقلص من إنفاقها العسكري، لأن أولوياتها ستكون منصبة على الجوانب التنموية والخدمية التي ترتبط بحياة مواطنيها.
كما يتأثر الإنفاق العسكري في دولة ما بطبيعة علاقاتها مع جيرانها، فإذا كانت هذه العلاقات يطغى عليها الجانب الصراعي، فإنها تزيد من إنفاقها العسكري- حتى إذا كانت تعاني مشكلات اقتصادية- على أساس أن ذلك من شأنه تعظيم قوتها العسكرية الرادعة في مواجهة خصومها. في الوقت ذاته، فإن التطورات التي تشهدها البيئتان الإقليمية والدولية تنعكس بشكل أو بآخر على الإنفاق العسكري العالمي، كما حدث خلال حقبة الحرب الباردة التي شهد فيها العالم استقطاباً حاداً بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، حينما ظهرت المحاور والتحالفات، والتي تجسدت في حلف الأطلسي (الناتو) في مواجهة حلف «وارسو»، وكان هناك سباق تسلح محموم وإنفاق متزايد على الأسلحة غير التقليدية، البيولوجية والنووية، بين القوتين العظميين، أفضى في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينات القرن الماضي.
ومع نهاية الحرب الباردة، تراجع الإنفاق العسكري – مرحلياً – ثم سرعان ما عاد إلى الارتفاع في العقد الأخير من الألفية الثالثة، نتيجة التنافس بين القوى الكبرى على الصراع والنفوذ في العالم، وبروز أنماط جديدة من الحروب كالحروب التجارية والتكنولوجية والفضائية والسيبرانية، والتي أدت إلى عودة ظاهرة سباق التسلح العالمي.
مؤشرات الإنفاق العسكري العالمي في ظل جائحة كوفيد – 19
جاء التقرير السنوي الصادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، في أبريل 2021 ليؤكد استمرار الزيادة في معدلات الإنفاق العسكري العالمي، رغم جائحة (كوفيد – 19)، التي أدت إلى انكماش الاقتصاد العالمي وتراجع معدلات النمو في معظم دول العالم، فوفقاً لبيانات التقرير، فإن إجمالي الإنفاق العسكري العالمي ارتفع إلى 1.981 تريليون دولار في العام 2020، بزيادة قدرها 2.6 % مقارنة بعام 2019.
وكان لافتاً في هذا السياق أن نسبة الإنفاق العسكري كحصة من الناتج المحلي الإجمالي بلغ متوسطاً عالمياً قدره 2.4 % في عام 2020، ليرتفع عن مستوى 2.2 % في عام 2019، وهذا يعد أكبر ارتفاع سنوي منذ الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في عام 2009. وتخالف التوقعات التي كانت تشير إلى أن جائحة «كوفيد-19» ستؤدي إلى تقليص الإنفاق العسكري العالمي لصالح الأولويات الأخرى، الاقتصادية والاجتماعية، لتخفيف تداعيات هذه الجائحة على العالم.
وفيما يتعلق بقائمة الدول والمناطق الأكثر إنفاقاً على السلاح عالمياً، فإنها جاءت- حسب التقرير- على النحو التالي:
1 -جاءت الولايات المتحدة، والصين، والهند، وروسيا، والمملكة المتحدة ضمن أكبر خمس دول انفاقاً في المجال العسكري في عام 2020، وشكَّلت معاً 62 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي، فقد بلغ الإنفاق العسكري الأمريكي 778 مليار دولار، بزيادة بنسبة 4.4 % عن عام 2019، لتستحوذ وحدها على 39 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وجاءت الصين في المرتبة الثانية ووصلت قيمة نفقاتها العسكرية في 2020 إلى 13 بالمئة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي، وفي المرتبة الثالثة حلت الهند وبلغ إنفاقها العسكري 72.9 مليار دولار (نحو 3.7 % من الإنفاق العسكري العالمي) وفي المرتبة الرابعة روسيا حيث بلغ حجم إنفاقها العسكري 61.7 مليار دولار، أي محو( 3.1 % من الإنفاق العالمي) وفي المرتبة الخامسة حلت المملكة المتحدة (59.2 مليار دولار، بما يعادل 3 % من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي.
2 -استمر الإنفاق العسكري في دول منطقة آسيا وأوقيانوسيا في الارتفاع، فإضافة إلى الصين والهند ، فإن اليابان أنفقت (49.1 مليار دولار)، وكوريا الجنوبية (45.7 مليار دولار)، وأستراليا (27.5 مليار دولار)، وتعد آسيا من المناطق التي تشهد ارتفاعاً متواصلاً في لإنفاق العسكري منذ عام 1989، لاعتبارات تتعلق بالتوترات الحدودية والصراعات الجيوسياسية التي تشهدها.
3 -تزايد الإنفاق العسكري لمعظم دول حلف شمال الأطلسي عام 2020، حيث أنفقت 12 دولة من أعضائه حوالي 2 % أو أكثر من الناتج المحلي الإجمالي على تطوير جيوشها، وذلك بزيادة ثلاث دول على العام 2019، فعلى سبيل المثال، جاءت ألمانيا في المرتبة السابعة حيث أنفقت 52.8 مليار دولار بنسبة زيادة 5.2 %. وتجاوزت فرنسا، التي تحتل المرتبة الثامنة في العالم من ناحية الإنفاق العسكري، عتبة 2 % لأول مرة منذ عام 2009. وتتفق هذه التقديرات مع ما جاء في التقرير السنوي لحلف شمال الأطلسي الصادر في شهر مارس 2021، والذي أشار إلى أن 2020 كان العام السادس على التوالي الذي يسجل فيه ارتفاع في الإنفاق الدفاعي لدى مختلف الحلفاء الأوروبيين وكندا، مع زيادة فعلية بنسبة 3,9 %، حيث وصل إجمالي الإنفاق العسكري للأعضاء الثلاثين في الحلف إلى 1,028 تريليون دولار 860 مليار يورو.
4 -انخفض الإنفاق العسكري المجمع لـ 11 دولة من دول الشرق الأوسط بنسبة 6.5 % في عام 2020، ووصل إلى 143 مليار دولار، بما يعادل 9 % من الإنفاق العسكري العالمي. لكن حسب بيانات التقرير فإن أربع دول فقط هي من زادت معدلات إنفاقها العسكري، حيث رفعت مصر إنفاقها بنسبة 7.3 %، وإسرائيل بنسبة 2.7 %، والأردن بنسبة 2.5 %، وسلطنة عُمان بنسبة 1.7 %.
5 -ارتفع الإنفاق العسكري في دول جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية بنسبة 3.4 % في عام 2020 ليصل إلى 18.5 مليار دولار. وكانت الزيادة الأكبر من نصيب كل من تشاد وأوغندا ونيجيريا ومالي وموريتانيا، وذلك لاعتبارات تتعلق بالتوترات والصراعات ومواجهة التنظيمات المتطرفة والإرهابية في هذه المنطقة.
قراءة تحليلية لاتجاهات الإنفاق العسكري في العالم
تنطوي الإحصائيات السابقة على مجموعة من الدلالات المهمة، العسكرية والسياسية والاستراتيجية، تتمثل فيما يلي:
1 -التوجه العام للإنفاق العسكري في العالم في تزايد مستمر، بغض النظر عن الأزمات والكوارث والجائحات العالمية، التي تثقل كاهل الاقتصاد العالمي، ففي الوقت الذي كان يفترض أن تؤدي فيه جائحة «كوفيد-19» إلى تراجع هذا الإنفاق أو على الأقل ثباته عند مستوياته السابقة، خاصة في الدول التي واجهت صعوبات في التعامل مع الجائحة وتخفيف تداعياتها، فإن العديد من دول العالم استمرت في الإنفاق العسكري المرتفع، ولم تتغير خارطة الدول الأكثر إنفاقاً في العام 2020 (العام الأول للجائحة) عن العام السابق. دون أن ينفي ذلك أن عدداً محدوداً من دول العالم أعادت النظر في أولوياتها ضمن استجابتها للتعامل مع التداعيات التي خلفتها الجائحة، وذلك بتقليص جانب من إنفاقها العسكري، وتوجيهه للإنفاق على الجوانب الصحية والاجتماعية.
2 -الإنفاق العسكري العالمي، وإن كان يتركز بصورة رئيسية على تحديث وتطوير القدرات العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، للدول، فإن جانباً آخر بدأ يستحوذ على المزيد من الاهتمام في الآونة الأخيرة، وهو الاستثمار في البحوث والتطوير وتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتي تمثل أهمية كبرى بالنسبة للصناعات الدفاعية والعسكرية والتكنولوجية، وبالسباق بين القوى الكبرى نحو السيطرة على سوق الأسلحة في العالم.
3 -يشهد العالم منذ نهاية الحرب الباردة في أواخر ثمانينات القرن الماضي وحتى العام 2020 تزايداً مضطرداً في الإنفاق العسكري، لكن الملاحظة الجديرة بالانتباه أنه في حين ارتفع الإنفاق العسكري في المناطق الأربع (الأمريكتين وأوروبا وآسيا وإفريقيا) فإنه انخفض في منطقة الشرق الأوسط عام 2020، كما يوضحه الشكل أدناه، الأمر الذي يعد شاهداً على استمرار أجواء الصراع والتوتر في البيئتين الإقليمية والدولية.
ماذا وراء تزايد الإنفاق العسكري في العالم؟
لا شك أن تزايد الإنفاق العسكري في العالم تقف وراءه مجموعة من العوامل والاعتبارات، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1 -سيطرة طابع التوتر والصراع على العلاقات الدولية، ليس فقط بين القوى الكبرى التي تتنافس فيما بينها على النفوذ والمكانة في عالم ما بعد «كوفيد-19»، وإنما أيضاً بين العديد من القوى الإقليمية في مناطق مختلفة حول العالم، التي تسعى كل منها إلى تعزيز دورها الإقليمي على حساب بعضها بعضاً، وهذا كله يمثل أحد الأسباب الرئيسية التي تفسر استمرار الزيادة في إنفاقها العسكري وتحديث ترسانتها من الأسلحة.
2 -لاتزال الغالبية العظمى من دول العالم، وخاصة القوى الدولية والإقليمية، تنظر إلى القوة العسكرية باعتبارها عنوان قوتها الشاملة ورمز نفوذها السياسي والقوة الرادعة في مواجهة التحديات والمخاطر التي تمثل تهديداً لأمنها القومي ومصالحها العليا، ولهذا فإنها تحافظ على معدلات ثابتة من مستوى إنفاقها العسكري، قد يزيد أو يقل أحياناً، استناداً إلى وضعها الاقتصادي وطبيعة التغيرات والمستجدات في البيئة الأمنية الإقليمية والدولية.
3 -النزاعات والمواجهات العسكرية التي تشهدها العديد من المناطق حول العالم تفسر في جانب منها استمرار الزيادة في الإنفاق العسكري العالمي، والتي تدفع الأطراف المتورطة فيها إلى المزيد من الإنفاق على تحديث وتطوير ترسانتها من الأسلحة، التقليدية وغير التقليدية، خاصة في ظل تعثر جهود تسوية هذه النزاعات. فحسب تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية للعام 2021 فإن خريطة الصراعات في العديد من المناطق حول العالم تشهد مزيداً من التعقيد، على النحو الذي يتجسد بشكل واضح في منطقة الشرق الأوسط، حيث تستمر الصراعات التي تشهدها كل من ليبيا وسوريا واليمن، كما يستمر الصراع في أوكرانيا، وفي إفريقيا لا تزال العديد من النزاعات المسلحة مستعرة، وهذه الصراعات لا يمكن تجاهل تأثيرها على الإنفاق العسكري العالمي.
4 -مكافحة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، ترتبط الزيادة في الإنفاق العسكري العالمي في جانب منها بالحرب المستمرة ضد الإرهاب في العديد من المناطق حول العالم، والتي تشهد وجوداً للعديد من التنظيمات المتطرفة والإرهابية، كما هو الحال بمنطقة الساحل وجنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، والتي جاءت دولها ضمن قائمة الدول الأكثر إنفاقاً على السلاح في العام 2020، حيث تزايد خطر الإرهاب في هذه المنطقة بصورة لافتة منذ بداية العام 2021، حيث تعرضت العديد من دولها لعمليات إرهابية من جانب تنظيمات محسوبة على تنظيمي القاعدة وداعش.
وبحسب مؤشر الإرهاب العالمي للعام 2020 فإن زيادة نشاط تنظيم «داعش» في إفريقيا جنوب الصحراء يعد العامل الأساسي وراء تصاعد خطر الإرهاب في تلك المنطقة، حيث نفذ التنظيم 41 % من إجمالي هجماته في هذه المنطقة. ولا شك في أن مواجهة خطر الإرهاب والتصدي للتنظيمات المتطرفة العابرة للحدود يفسر في جانب منه الزيادة المضطردة في الإنفاق العسكري العالمي، ليس فقط بالنسبة للدول التي تواجه بالفعل خطر الإرهاب، وإنما بالنسبة للقوى الكبرى التي تخصص جزءاً من ميزانياتها الدفاعية للمشاركات الخارجية التي تستهدف التصدي لهذا الخطر، كما هو الحال في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء وأفغانستان وبعض دول منطقة الشرق الأوسط.
أخيراً
إن الزيادة المضطردة في معدلات الإنفاق العسكري العالمي في العام 2020، وإن كانت تعكس سيطرة طابع التوتر والصراع في العلاقات الدولية، وتصاعد التنافس بين القوى الكبرى والإقليمية على تعزيز نفوذها في عالم ما بعد «كوفيد – 19»، فإنها تؤشر في الوقت ذاته إلى عودة سباق التسلح العالمي بصورة تفوق مرحلة الحرب الباردة، خاصة في ظل تصاعد دور التكنولوجيا وخاصة الذكاء الاصطناعي والهجمات السيبرانية في إعادة تشكيل حروب المستقبل.
المصادر والمراجع:
Stockholm International Peace Research InstituteSIPRI, World military spending rises to almost $2 trillion in 2020,26 April 2021,https://bit.ly/3ufUiwI