تحظى وسائل التواصل الاجتماعي بأهمية متزايدة كقناة اتصال وجمع المعلومات وتبادلها، ليس فقط في المجالات المدنية ولكن أيضاً في القطاعات العسكرية، ولاسيما مع التنامي المستمر في توظيفها واستخدامها كمنصة لأغراض جمع المعلومات والتعبئة والتجنيد والترفيه والتواصل الاجتماعي، وكأداة اتصال استراتيجية لتشكيل الرأي والعمليات النفسية، ولكنها في المقابل تحمل مخاطر وتحديات عديدة، ولاسيما في المجالات العسكرية يتعلق أبرزها بالانتهاكات الأمنية ومخاطر الكشف العرضي عن معلومات حساسة.
ضمن هذا الإطار، تعرض هذه الدراسة للتحديات والفرص التي يشكلها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في المجال العسكري، وأبرز الممارسات التي تبنتها الدول المختلفة لضبط استخدام هذه الوسائل في المجال العسكري، بما يعظم من الفرص ويقلل المخاطر والتحديات المرتبطة باستخداماتها في عالم يصعب ملاحقة التطورات التكنولوجية فيه، ولاسيما على صعيد التواصل والاتصال بين البشر.
أولاً: ثورة وسائل التواصل الاجتماعي.. مؤشرات وحقائق
تشهد وسائل التواصل الاجتماعي تنامياً ملحوظاً وبشكل مستمر في عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، فوفقاً لتقرير شركة Hootsuite الصادر في يوليو 2021 عن حالة الإنترنت حول العالم فإن عدد المستخدمين النشيطين لمختلف وسائل التواصل الاجتماعي حول العالم ارتفع إلى حوالي 4.48 مليار مستخدم نشط، وهو ما يعادل 57 % تقريباً من إجمالي سكان العالم.
وتتصدر منصات «فيسبوك» و«يوتيوب» و«واتس آب» و«إنستجرام» قائمة وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر استخداماً في العالم. أما في الصين التي يحظر فيها وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الغربية فتملك وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بها ومن أشهرها: «وي تشات» و«كيو كيو» و«دوين».
وبالتوازي مع هذا التوسع المستمر في أعداد المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي عبر العالم، يتنامي تأثير هذه الوسائل على المستويات الوطنية والعالمية، حيث تؤدي هذه الوسائل العديد من الأدوار بعضها إيجابي مثل تنمية الوعي والتأثير في الرأي العام والدفاع عن القضايا الوطنية، وتسهيل التواصل والحوار الثقافي بين الشعوب والمجتمعات، وبعضها الآخر سلبي، إذ يساء توظيفها في حالات عديدة بصورة تهدد الأمن والسلم في الدول والمجتمعات، خاصة أنها لا تخضع لأطر أو قوانين تضبط المحتوى الذي يتم نشره عليها، بل إنها تحولت في الآونة الأخيرة إلى أداة تساعد التنظيمات المتطرفة في نشر الأفكار الهدامة والتحريض على العنف والكراهية، وفي نشر الشائعات وإثارة الفوضى والإضطراب، كما بدأت دول تستخدمها كأدوات للتدخل والتأثير في دول أخرى لفرض أجندات وتوجهات محددة أو حتى إحداث تغييرات سياسية وأمنية تخدم أجندات خاصة.
ثانياً: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في المجال العسكري
ينصرف الحديث عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في المجال العسكري إلى مستويين، الأول هو المستوى المؤسسي، بمعنى توظيف المؤسسة العسكرية لهذه الوسائل في خدمة أهدافها، والثانية المستوى الفردي، بمعنى استخدام أفراد القوات المسلحة والمؤسسة العسكرية لهذه الوسائل عبر حساباتهم الشخصية. واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في كل مستوى من هذين المستويين له جانبان أحدهما إيجابي والآخر سلبي تحاول المؤسسات العسكرية وضع ضوابط لتقليل مخاطره، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1 على المستوى المؤسسي تولي المؤسسات العسكرية والاستخباراتية في غالبية دول العالم اليوم اهتماماً كبيراً بوسائل التواصل الاجتماعي كمصدر لجمع البيانات وتحليلها؛ لأن الناس حول العالم، سواءً كانوا خصوماً أو حلفاء أو خصوماً محتملين، يستخدمون هذه الوسائل في تبادل المعلومات والتعبير عن التوجهات والآراء وإقناع الآخرين، ويتم استغلال هذه المعلومات في حالات كثيرة من أجل دعم الوعي بشأن البيئة التشغيلية لحماية القوات والأمن ولكثير من المهام والأهداف التي تهم القوات المسلحة في سعيها لحفظ الأمن الوطني.
كما تمثل البيانات التي يتم جمعها من وسائل التواصل الاجتماعي دعماً مهماً لعمليات المعلومات، وهي العمليات التي تعرفها وزارة الدفاع الأمريكية بأنها «التوظيف المتكامل، خلال العمليات العسكرية، للقدرات المرتبطة بالمعلومات، بالتضافر مع خطوط عمليات أخرى، من أجل التاثير على صنع القرارات من قبل الخصوم والخصوم المحتملين أو تعطيله أو إفساده أو الاستيلاء عليه، مع حماية عملية صنع القرارات الخاصة بنا في الوقت نفسه». ويتطلب ذلك القيام بعملية تحليل للبيانات التي يتم ضخها عبر وسائل التواصل الاجتماعي على مدار الساعة، وكلما زادت القدرات التكنولوجية المتطورة التي تملكها المؤسسة العسكرية في جمع وتحليل البيانات، كانت أكثر قدرة على الاستفادة منها وتوظيفها في خدمة أهدافها العسكرية والمدنية.
وبشكل عام لم يعد امتلاك هذه القدرات حكراً على الدول المتقدمة وحدها، بل أصبحت متاحة لكثير من دول العالم الصاعدة وحتى النامية منها، نتيجة النمو السريع لتكنولوجيات الاتصالات التي تدعم منصات وسائل التواصل الاجتماعي والذي منح للكثيرين ميزة الاستفادة من كلفة الدخول المنخفضة وسهولة الوصل إلى التكنولوجيات الجديدة واستخدامها، وهو ما بات يشكل معه تحدياً للمؤسسات العسكرية المختلفة عبر العالم.
كما تمنح وسائل التواصل الاجتماعي ميزة أخرى للمؤسسات العسكرية والقوات المسلحة، تتمثل في ربط المؤسسة العسكرية بالجمهور، حيث تمثل هذه الوسائل أداة قوية تستخدمها المؤسسة العسكرية للتواصل بشكل يومي مع الرأي العام لسرد قصة الجيش وتعزيز وعيه والتأثير فيه وإشراكه في المحتوى الذي ينقل قيم المؤسسة وأهدافها. كما توفر بيئة ذات مصداقية يتم فيها نشر المعلومات الموثوقة لأفراد القوات المسلحة وعائلاتهم وربطهم بالمؤسسة العسكرية.
وتبدو التحديات والمخاطر هنا محدودة نوعاً ما؛ لأن استخدام المؤسسة العسكرية لوسائل التواصل الاجتماعي يتم بشكل رسمي ووفق ضوابط واضحة تضمن توفير الحماية الكافية للمعلومات والتحكم في نوعية البيانات التي يتم نشرها، وهو الأمر الذي قد يختلف في حالة استخدام أفراد القوات المسلحة لهذه الوسائل.
2 على المستوى الفردي وهذا هو مجال التركيز في هذه الدراسة، يتزايد نطاق الجدل والنقاشات حول مزايا ومخاطر استخدام الجنود وأفراد القوات المسلحة لوسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم. فالمدافعون عن حق الجنود والعسكريين في التفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يطرحون المزايا التالية التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي لهم:
تسهم وسائل التواصل الاجتماعي، وفق هذا الاتجاه، في الحفاظ على وتعزيز العلاقات الشخصية للجنود والعسكريين مع العائلة والأصدقاء ومجموعات الدعم، من خلال التواصل معهم عبر هذه المنصات عبر الدردشة وتبادل الصور ومقاطع الفيديو الأمر الذي من شأنه أن يخفف من حدة التوتر لدى الجنود والعسكريين وعائلاتهم على السواء.
يمكن أن يسهم العسكريون والجنود من خلال استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي في توصيل قيم ورسالة المؤسسة العسكرية لأصدقائهم وعائلاتهم ما يساهم في بناء العلاقات الإيجابية بين المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني.
تساعد وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز الراوبط بين أفراد المؤسسات العسكرية السابقين والحاليين وإتاحة المجال لتبادل الخبرات والأفكار من خلال مجموعات اتصال مختلفة عبر هذه المنصات، ما يعزز قوة الروابط داخل المجتمع العسكري، وإتاحة المجال للعسكريين السابقين والحاليين لتقديم الأفكار التي تساعد في تطوير الأنظمة والعمليات القتالية. كما يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تساعد المحاربين القدامى على إعادة الاندماج في المجتمع العسكري وتقليل مشاعر العزلة لديهم.
هناك قدر هائل من المعلومات المضللة في وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضها يتعلق بالمؤسسة العسكرية نفسها، ويمكن للعسكريين من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أن يساهموا في مواجهة وتصحيح هذه المعلومات المضللة والشائعات.
في المقابل، تطرح العديد من المخاوف والمخاطر بشأن استخدامات الجنود والعسكريين لوسائل التواصل الاجتماعي، من أبرزها:
تعريض أمن العسكريين والأمن الوطني للخطر: وهذا أحد أخطر هذه التهديدات التي يمكن أن تنجم عن استخدام العسكريين لوسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما إذا لم تكن لديهم الخبرات الكافية بتأمين المعلومات والحسابات. فمن خلال نشر الصور والرسائل وتحديد المواقع الجغرافية يمكن بسهولة تعقب هؤلاء العسكريين والمواقع التي يتواجدون فيها بصورة قد تعرضهم لخطر الاستهداف من قبل الخصوم والإرهابيين أو جمع المعلومات العسكرية الحساسة التي تفيد الخصوم.
خطر استهداف الجماعات المتطرفة والإرهابية: فهذه الجماعات تنشط على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقوم بترويج خطابات تحض على الكراهية والتطرف، ويبقى دائماً هناك خطر احتمال تعرض العسكريين للاستهداف والتأثر بفكر وخطابات هذه الجماعات، ما يشكل تهديداً للمؤسسة العسكرية والأمن الوطني.
بث الفرقة والتنابز بين العسكريين: فاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي من دون ضوابط قد يتسبب بدخول العسكريين في دائرة النقاشات السياسية والحزبية والطائفية والعرقية التي تسهم في انزلاقهم إلى دائرة الخلاف والجدل الذي يؤثر على تماسك المؤسسة العسكرية في بعض الحالات.
يمكن أن تسبب وسائل التواصل الاجتماعي القلق والتوتر للأفراد العسكريين وأسرهم؛ فوجود العسكريين في مهام قتالية ضمن بيئة خطرة يمكن أن يسبب التوتر والقلق لأسر وأصدقاء العسكريين إذا تواصلوا معهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي خلال هذه المهام، وكذلك الحال يمكن أن يتوتر العسكريون ويقل تركيزهم إذا كانوا يتابعون تعرض أحد أصدقائهم أو أسرهم لأي أزمة خلال حياتهم العادية.
تستهلك وسائل التواصل الاجتماعي وقت العسكريين وهذا يمكن أن يؤثر بالسلب على مستوى تركيزهم وأداءهم لمهامهم القتالية والأمنية. ويوضح الشكال التالي أن متوسط عدد الساعات التي يقضيها أفراد عسكريون في الخدمة الفعلية في الولايات المتحدة يومياً على منصات وسائل التواصل الاجتماعي أصبح يفوق تلك التي يقضيها الأفراد العاديون.
ثالثاً: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بين الضبط والمنع
تباينت خبرات وتجارب المؤسسات العسكرية عبر العالم في كيفية التعاطي مع التحديات والمخاطر التي ينطوي عليها استخدام العسكريين لوسائل التواصل الاجتماعي على حساباتهم الشخصية، وتراوحت الإجراءات المتخذة في هذا الصدد بين منع وحظر استخدام أفراد القوات المسلحة لهذه الوسائل، ولاسيما من هم في الخدمة الفعلية في أماكن حساسة أو مهام قتالية، وبين وضع ضوابط لاستخدامها.
ففي روسيا، اعتمد مجلس النواب (الدوما) مشروع قانون يحظر على العسكريين حمل الهواتف الذكية والتواصل مع الصحفيين. كما يحظر القانون أيضاً جميع الوسائل والأجهزة التي يمكن من خلالها حفظ بيانات والصور والفيديو وتحديد المواقع الجغرافية باستخدام شبكة الإنترنت. ويسمح القانون للعسكريين باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي ولكن بشكل محدود جداً، فهم لا يستطيعون مثلاً استخدام خاصية التحديد المكاني والجغرافي.
وفي فبراير 2018، ذكرت صحيفة «إزفيستيا» الروسية أن وزارة الدفاع الروسية أوصت جميع العاملين والمجندين بعدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كـ«أدونوكلاسنكي» و«فكنتاكتي» بالإضافة لـ«فيسبوك»وعدد من مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى. أكدت الصحيفة أن الوزارة منعت مجنديها من نشر أي معلومات أو صور عن أماكن خدمتهم أو تحديد الموقع الجغرافي لأماكن وجودهم.
وفي الهند، فرض الجيش في يونيو 2020 حظراً على استخدام 89 تطبيقاً للهواتف الذكية من بينها 59 تطبيقاً صينياً، كما شمل الحظر تطبيقات شائعة فيسبوك وانستجرام وسناب شات وغيرها.
وفي الولايات المتحدة، تسمح وزارة الدفاع باستخدام العسكريين لوسائل التواصل الاجتماعي، لكنها تضع ضوابط لتنظيم الأمر ومن ذلك منع العسكريين من استخدام الإنترنت الخاص بالبنتاغون في الدخول لصفحاتهم الخاصة، ومنعهم من نشر معلومات عسكرية على صفحاتهم الخاصة، ووضع عقوبات ضد كل من يقوم بنشر أي معلومات أو صور أو فيديوهات تسيء للقادة السياسين والعسكريين أو تضر بسمعة المؤسسة العسكرية أو تعرض النظام العام للقوات المسلحة للخطر. ويتبنى الجيش البريطاني إجراءات مشابهة لنظيره الأمريكي، كما قامت المؤسستان العسكريتان في الولايات المتحدة وبريطانيا بنشر «دليل» يوضح ضوابط استخدام مواقع التواصل الاجتماعي على مواقعهما الرسمية.
وفي إسرائيل سنَّ الجيش عدداً من القوانين الناظمة والتي تحدد حظراً كاملاً على موظفي الاستخبارات وطياري سلاح الجو من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. كما بدأ الجيش الألماني بتفعيل عدد من القوانين المتعلقة بأمن المعلومات على وسائل التواصل منذ مايو 2012، بعد جدال طويل وشاق مع الصحف، حيث دعا إلى المحافظة على أسرار الجيش بشكل يمنع العسكريين من نشر المعلومات والصور العسكرية، معتبراً أن قضايا الجيش يجب أن تكون بعيدة عن مواقع التواصل.
خاتمة
بشكل عام تتباين مواقف المؤسسات العسكرية حول العالم من كيفية التعامل مع قضية استخدام العسكريين لوسائل التواصل الاجتماعي، ولكن هناك اتفاق عام على ضرورة وضع ضوابط واضحة لاستخدام هذه المنصات، ولاسيما من قبل العسكريين المتواجدين في الخدمة أو في المواقع الحساسة، لتقليل الأخطار والتهديدات التي يمكن أن تنجم عن ذلك على المؤسسة العسكرية خاصة، وعلى الأمن الوطني عامة، ومن أهم هذه الضوابط التي تتفق عليها أغلب المؤسسات العسكرية والخبراء العسكريين، ما يلي:
1 منع وتجريم نشر أية معلومات أو صور أو فيديوهات للعسكريين أو للمنشآت العسكرية يمكن استغلالها من قبل الخصوم في اختراق نظم المعلومات أو الكشف عن معلومات حساسة تضر بالأمن الوطني، ولاسيما تشغيل خاصية تحديد المواقع الجغرافية التي تسهل عملية الملاحقة والكشف عن الخطط الميدانية.
2 منع وتجريم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من قبل العسكريين في القيام باية ممارسات تضر بسمعة المؤسسة العسكرية أو تثير الجدل والنعرات بين العسكريين، أو تسيء للقيادات السياسية والعسكرية.
3 حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الشخصية خلال أداء الخدمة ولاسيما في المواقع الحساسة أو خلال المهام القتالية.
4 من المهم في جميع الأحوال أن يكون هناك دليل استرشادي لاستخدام منصات التواصل الاجتماعي تضعه المؤسسة العسكرية مع العمل على توعية العسكريين بشكل عام، سواء في الخدمة أو خارج الخدمة (المتقاعدين) بالضوابط التي يتضمنها هذا الدليل وبالمخاطر التي قد ترافق استخدامهم لهذه المنصات.
د. فتوح هيكل