594 Web Analysis 2-1

الشرق الأوسط.. التحولات الجيوسياسية وموازين القوى العسكرية

من المعروف أن الجغرافيا السياسية هي التي يُعزى إليها معظم الصراعات الدولية، حيث تسعى الدول إلى تعزيز مصالحها الاستراتيجية وحماية أمنها القومي في عالم من الموارد المحدودة. كما كانت الأماكن المقدسة والأفكار والأيدولوجيات أيضاً في كثير من الأحيان من أهم محركات النزاعات القائمة على الجغرافيا. وخير مثال على ذلك منطقة الشرق الأوسط التي شهدت شتى أنواع الصراعات، ومن أبرزها في الآونة الأخيرة: الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، وحرب الخليج الثانية، وكذلك الحروب الأهلية في كل من سوريا واليمن وليبيا بعد ما سُمي «بالربيع العربي».

وممّا لا شكّ فيه، أن بنية العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط تشهد اليوم تحوّلات عميقة، يُعزى البعض منها لمرور العالم بثلاث تجارب مؤلمة وهي بترتيب وقوعها: ما سمي بالربيع العربي (2011)، وجائحة كورونا (2019)، والحرب الروسية الأوكرانية (2022).
ويُعزى بعضها الآخر لتحولات جيواستراتيجية عالمية، من أهمها التحول من «العالم المعولم» Globalized World إلى «العالم المحوجز» Buffered World وارتحال البيئات الجيوسياسية الحُبلى بالصراعات والتقلبات لمناطق جديدة من العالم، وتداعي النموذج الغربي في الحَوكمة، وارتحال مصادر القوة الشاملة لآسيا في عالم بصدد التحول لعالم متعدد الأقطاب.
تستهدف هذه الدراسة رصد أهم هذه التحولات الجيوسياسية الحالية في الشرق الأوسط ثم تحليل تأثيراتها على موازين القوي العسكرية في هذه المنطقة الجغرافية.


أهم التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط ومدى استدامتها:
1- السعي لخفض التصعيد أو لتصفير الأزمات: قد يُستثنَى من حالة الصراع، وربما للمرة الأولى منذ قرون، الشرق الأوسط الذي يشهد برغم الحالة السودانية سياسة السعي لتصفير مشاكله المزمنة، وزيادة فرص تسوية النزاعات المشتعلة به. تلك الحالة الصراعية التي كانت سمة مركزية في المشهد السياسي والأمني في الإقليم منذ عام 1948 ومروراً بعام 1979 ثم 2011. فربما تسمح الاتفاقات الإبراهيمية، ومخرجات قمة العلا، والتقارب العربي التركي، والتفاهمات السعودية الإيرانية، بالوصول بالمنطقة لصلح شبيه بصلح وستفاليا عام 1648، ذلك الصلح الذي أنهى مرحلة الصراع الديني والطائفي والمذهبي في أوروبا.
قد يشهد الشرق الأوسط، إذاً، وبرغم موجات التوتر المتوقع قدومها في العالم، «وستفاليا شرق أوسطية» يتم من خلالها إرساء احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية والنأي بالدّين عن الصراعات السياسية بين الدول، ما يسمح بخفض المشكلات والقلاقل والمخاطر بين دول الإقليم وزيادة وتيرة الازدهار والتطور لدول المنطقة. مما قد يؤثر على مسـتقبل تسـوية الصراعات في المنطلقة وحــدوث انعطافات إيجابية للحد منها أو حلها.
2- السعي للتعاون والاتصال كأمن: لطالما كان النهج التقليدي للأمن مبنياً على فكرة الدفاع، وذلك بتحديد الأعداء المحتملين، وتقييم التهديدات، وخلق تدابير لمنعهم أو الانتقام منهم. ولكن التحول الحالي في الشرق الأوسط يقوم على التعاون لتقليل احتمالية وجود تهديد أمني بدلاً من محاولات منع هجوم متوقع، فالتعاون بين الدول يحد من خطورة الجهات الفاعلة من غير الدول (مثل الميليشيات والجماعات العابرة لحدود الدول) ويقلل من الحروب بالوكالة.
3- تزايد مساحات استقلال دول الإقليم عن الغرب: الذي كان يحتكر القوة في النظام الدولي حتى وقت قريب، إذ تشهد الهيمنة الغربية التي سادت طوال القرنين الماضيين تراجعاً مضطرداً بداية من الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. وتتزايد الآن المواجهات السياسية والعسكرية والاقتصادية والحضارية على قمة النظام الدولي.
ولكن، يمكن أن يحد من استدامة تلك التحولات أن النظام الدولي، كما تستشرف بعض الدراسات، ربما سيكون بلا اتجاه، وفوضويّاً، ومتقلباً، حيث يتم تجاهل القواعد والمؤسسات الدولية إلى حد كبير من قبل القوى الكبرى وبعض اللاعبين الإقليميين والجهات الفاعلة غير الحكومية، وستعاني دول متقدمة تباطؤاً في النمو الاقتصادي، وستتسع الانقسامات المجتمعية، ويعم الشلل السياسي، وسيتم تجاهل الكثير من التحديات العالمية، مثل تغيُّر المناخ. ونتيجة لذلك ربما سينقسم العالم إلى تكتلات عدة، اقتصادية وأمنية متفاوتة الحجم والقوة، تتمحور حول الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وقوى إقليمية. مما قد يعود بالمنطقة لأتون الصراعات من جديد، فالدول التي لديها فائض في القوى العسكرية والتكنولوجية والمعرفية، لن تسمح بسهولة، حتى ولو أصابها العطب اقتصادياً، بأن تنقل إليها بؤر الصراعات أو أن تفقد سيطرتها على العالم بسهولة.
كما أنه بحسب تقرير المخاطر العالمية لعام 2023، من المحتمل أن يواجه العالم، ومن ضمنه بعض بلدان الشرق الأوسط، على مدى السنوات العشر القادمة الكثير من المخاطر التي يلخصها الشكل في الأعلى:
ولكن في المقابل هناك فرضية تقول: إنه لكي تلعب الصين دورها الكامل كقوة عظمى في مشهد العلاقات الدولية في السنوات القادمة يجب عليها أن تعبر من خلال منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً المنطقة العربية، تماماً كما عبرت الولايات المتحدة من خلال أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن بينما انصب مشروع مارشال الأمريكي على إعادة التعمير الاقتصادي في أوروبا، ينصب في المقابل مشروع الصين في العالم العربي على المساهمة في إقامة «ويستفاليا عربية» قائمة على: «الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي، واحترام خيار شعوب الدول العربية، ودعم جھود الدول في استكشاف الطرق التنموية التي تتناسب مع خصوصياتها الوطنية بإرادتها المستقلة».


أهم انعكاسات على موازين القوى العسكرية
كشف تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام حول الإنفاق العسكري للدول في العالم SIPRI، في نسخته الصادرة في مارس أبريل 2023 والذي يغطي الفترة ما بين 2018 و2022 أن هناك انخفاضاً ملحوظاً في عمليات نقل الأسلحة على المستوى الدولي، وأن هذا الانخفاض يظهر بشكل كبير جداً في إفريقيا التي شهدت تراجعاً بنسبة 40 %، وأن هناك في المقابل زيادة كبيرة في عمليات نقل الأسلحة إلى الدول الأوروبية، وأن المزيد من الدول الأسيوية (السعودية والهند) قد دخلت في قائمة الدول الأكثر إنفاقاً في المجال العسكري. وهذا من الممكن أن يعكس من جانب ارتحال البيئات الجيوسياسية الحُبلى بالصراعات والتقلبات لمناطق جديدة من العالم، وهكذا ارتحال مصادر القوة لآسيا.
كما أوضح معهد ستوكهولم أن الأغلبية العظمى من واردات الأسلحة في الشرق الأوسط ما زالت تأتي من الولايات المتحدة (54 %)، تليها فرنسا (12 %) ثم روسيا (8.6 %) وإيطاليا (8.4 %). وتلك الأسلحة تشمل أكثر من 260 طائرة متطورة و516 دبابة حديثة و13 فرقاطة. ومن أهم انعكاسات التحولات الجارية في الشرق الأوسط احتمالية تغير تلك الخريطة، فبعض الدول العربية كانت قد أعلنت أنها تنوي التعاقد مع شركة كاتيك الصينية لشراء كميات كبيرة من طائرات من طراز إل 15، مما قد يعني دخول الصين عما قريب كفاعل رئيسي في توريد الأسلحة للشرق الأوسط، وربما على حساب الموردين التقليديين. ولا ننسي أن باكستان باتت أكبر دولة مستوردة للسلاح من الصين.
ومن أهم انعكاسات التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط على موازين القوى العسكرية هو ظهور معالم تحالفات وتشابك مصالح عسكرية يمكن ملاحظتها من خلال الآتي:
1. أكبر ثلاث دول تستورد أسلحة من إيطاليا هي دول شرق أوسطية وهي بالترتيب: قطر ومصر وتركيا.
2. أكبر ثلاث دول تستورد أسلحة من تركيا هي دول عربية خليجية وهي بالترتيب: قطر والإمارات وعمان.
3. من أكبر ثلاث دول تستورد أسلحة من فرنسا تحتل قطر المرتبة الثانية ومصر المرتبة الثالثة.
4. بعد فترة توترات في العلاقات، من أكبر ثلاث دول تستورد أسلحة من كندا تأتي السعودية في المرتبة الأولى والإمارات في المرتبة الثانية.
5. الدولة الإفريقية الوحيدة المصنفة من أكبر 25 دولة مصدرة للأسلحة الرئيسية وهي جنوب إفريقيا، والإمارات هي أكبر دولة مستوردة للسلاح منها.
6. تمثل كل من مصر والأردن والجزائر بالترتيب أكبر مستوردي السلاح من دولة الإمارات العربية المتحدة التي باتت تحتل المرتبة الـ 18 بين أكبر الدول المصدرة للسلاح في العالم.
7. فتحت المملكة العربية السعودية أبواب أسواق غير معتادة، فهي المستورد الأكبر من بلجيكا وثاني أكبر الدول المستوردة للسلاح من إسبانيا.
8. تمثل كل من مصر (الأولى) وإسرائيل (الثالثة) أكبر الدول المستوردة للسلاح من ألمانيا.
9. من أكبر ثلاث دول تستورد أسلحة من المملكة المتحدة، تحتل قطر المرتبة الثانية والسعودية المرتبة الثالثة.
10. بالرغم من أن إسرائيل تحتل المركز الخامس عشر بين الدول الأكثر إنفاقاً في المجال العسكري لعام 2022، فإن هناك انخفاضاً قدره 4.2 % عن العام السابق.

الخاتمة
تذهب العديد من الدراسات الاستشرافية لارتحال القوة بشكليها الصلب والناعم، لبعض دول الخليج بداية من عام 2023 في ضـوء عوامـل عديـدة مـن أهمها: تفاقـم الأزمة الاقتصادية العالمية وامتـلاك دول الخليـج في المقابل فوائـض ماليــة كبـيـرة، فضـلاً عــن أنهــا من الفاعلين الرئيسيين في ضبــط أســواق الطاقــة العالمية، وأنها أصبحت عامل جذب للخبرات الدولية في كافة المجالات. وكما أسلفنا إنه لكي تلعب الصين دورها الكامل كقوة عظمى في مشهد العلاقات الدولية في السنوات القادمة، يجب عليها أن تعبر من خلال منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً المنطقة العربية، تماماً كما عبرت الولايات المتحدة من خلال أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فهل هذا السياق سيسمح للعرب بوزن مثل وزن أوروبا في النظام العالمي القديم؟ وهل ستكون البوابة الشرقية للعالم العربي (الأقرب جغرافياً للصين وروسيا) مركز التأثير والقوة في المنطقة كما كانت البوابة الغربية (الأقرب جغرافياً للغرب) في النظام العالمي القديم؟

» الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات)

Twitter
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض