يبدو أن الأوربيين باتوا يؤمنون أكثر من أي وقت مضى بأن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بريطانيا تسعيان لمرحلة عكس «مشروع مارشال»، وهو المشروع الاقتصادي الذي خصّصته الولايات المتحدة لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. بمعنى أنهما تضحيان ببقية دول أوروبا في محاولة منهما لقصر «الأفول الحضاري» المتوقّع للغرب على أوروبا غير الأنغلوسكسونية. وقد تجلّت تلك السياسات بوضوح عام 2016 لدى تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.
هذا التوجه الأمريكي في تجاهل المصالح الأوروبية انعكس على مدى التنسيق العسكري والأمني المعتاد بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فعلى سبيل المثال، قال رئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل، أوائل عام 2021، إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، عزز عند الدول الأوروبية، فكرة «الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا»، وهذا السياق جاء باتفاقية الائتلاف الحكومي في برلين لعام 2021 «نريد المزيد من الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا. (…) هدفنا هو اتحاد أوروبي مستقل كلاعب قوي في عالم يتسم بعدم اليقين والتنافس الممنهج».
وتمثّل واقعة فسْخ أستراليا عقدَ شراء 12 غواصة فرنسية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية «طعنة في الظهر»، و«خرقاً للثقة»، بحسب عبارات أطلقتها الدبلوماسية الفرنسية للتعبير عن غضبها وخيبة أملها، ليس فقط من فسخ الصفقة مع أستراليا، ولكن من الأسلوب الذي عوملت به من قبل الحليف الأمريكي وشركائه الأنغلوسكسونيين (أستراليا وبريطانيا). وأعرب قادة الاتحاد الأوروبي عن تضامنهم مع فرنسا، وأشاروا إلى أن الولايات المتحدة فقدت الثقة في التحالف عبر الأطلسي، وهو ما أعاد تسليط الضوء على الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي.
مواقف أخرى أعادت مفهوم الاستقلال الاستراتيجي لصدارة الجدل الأوروبي في الآونة الأخيرة، منها على سبيل المثال أن الولايات المتحدة لم تتبادل مع شركائها الأوروبيين معلومات كانت تؤكد الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا، وهو ما أدى برئيس المخابرات العسكرية الفرنسية، الجنرال «إريك فيود» للاستقالة من منصبه، لأنه لم يكن قادراً على تحذير الإدارة الفرنسية في الوقت الملائم، نظراً لعدم مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية لما امتلكته من معلومات بهذا الخصوص.
أنعشت الحرب الروسية الأوكرانية، واحتدام المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، وآثارهما على أوروبا، تَوَجُّه تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي في رسم المصالح الأمنية والاقتصادية، بعيداً عن سياسة وتوجهات الولايات المتحدة الحالية التي عادة ما تكون أوروبا من أكبر الخاسرين من تبعاتها.
وخلاصة القول إن بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا باتت تؤمن بأن أمريكا تدير ظهرها لأوروبا، والصين قوة عالمية تزداد عدوانية، وروسيا بوتين تهاجم دولة أوروبية مستقلة، وإن هذا الوضع الجيوسياسي هو في غير صالح الاتحاد الأوروبي الذي يتوجب عليه أن يتحرك ويتصرف عسكرياً وسياسياً واقتصادياً بشكل مستقل عن اللاعبين الآخرين في السياسة الدولية. وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي في مناسبات عدة، من أهمها عند عودته من زيارته الأخيرة إلى الصين، بصحبة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، عندما قال: «إن أوروبا ينبغي ألا تتصرف كتابع للولايات المتحدة، ولا ينبغي لها أيضاً أن تورط نفسها في أزمات لا تخصها»، في إشارة واضحة إلى أزمة تايوان بين الصين والولايات المتحدة. كما أعلن رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل أن قادة الاتحاد يميلون لتوجه ماكرون بشأن الاستقلالية الاستراتيجية عن واشنطن.
على المستوى العسكري، تهدف الاستقلالية الاستراتيجية تحقيق الاستخدام الموثوق للقوة العسكرية للاتحاد الأوروبي، وذلك من خلال تأكيد قدرته على ضمان السلام والأمن داخل حدوده وخارجها في مناطق أبعد، وذلك من خلال ضمان قدرة الاتحاد على الاستجابة للأزمات والصراعات في داخله أو في جواره حتى عندما تكون الولايات المتحدة غير قادرة أو غير راغبة في التعامل مع هذه القضايا. وأمام تزايد الحديث والإجراءات الأوروبية بشأن الاستقلالية الاستراتيجية، هدد السيناتور الأمريكي الجمهوري عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو بترك أوروبا تتعامل مع الأزمة الأوكرانية بمفردها والتركيز على قضية تايوان. ومن جانبه قام وزير الخارجية الصيني تشين غانغ، خلال الفترة من 8 إلى 12 مايو 2023، بجولة أوروبية، شملت ألمانيا وفرنسا والنرويج، وذلك بدعوة من نظرائه في الدول الثلاث، وكان من نتائج الزيارة دعم الصين الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، فلا شك في مصلحة الصين استقطاب أوروبا بعيداً عن واشنطن؟ وتهدف الدارسة في السطور القادمة إلى رصد وتحليل تأثيرات «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» المنشود على المجالات العسكرية.
تأثيرات «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» عسكرياً
دراسات عدة تؤكد وجوبية أن يؤسس الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا على المستوى العسكري على القواعد التالية:
1. سياسة خارجية من التحالفات
2. قاعدة صناعية وتكنولوجية أوروبية.
3. امتلاك القدرة على توظيف القدرات العسكرية في الخارج.
4. إيمان دول الاتحاد بأنه لا يمكننا الدفاع عن أنفسنا بمفردنا، لذلك يجب أن تكون كل دولة قوة دافعة للتعاون العسكري والصناعي مع بلدان الاتحاد الأخرى.
وفي هذا السياق، أكدت وكالة الدفاع الأوروبية أن أهم ما يعوق استقلال استراتيجي أوروبي فعال هو ثلاثة أنواع من الإشكاليات أصابت نظام الدفاع الأوروبي في مقتل:
1. العجز في الإنفاق على قطاع الدفاع.
2. العجز في مجال التصنيع الدفاعي.
3. العجز في العتاد.
من أجل تخطي تلك الصعوبات، اقترحت الوكالة مجموعة من الإجراءات. فعلى مستوى العجز في العتاد يستوجب:
1. تجديد المخزون العسكري.
2. استبدال الأنظمة الموروثة من الحقبة السوفييتية.
3. تعزيز أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي.
4. الإنشاء السريع لفريق عمل تكون مهمته تسهيل المشتريات الدفاعية المشتركة.
5. اقتراح أداة قصيرة الأجل للتنسيق المشترك للمشتريات الدفاعية.
وعلى مستوى تعزيز القدرة الصناعية الأوروبية في مجال الدفاع، اقترحت الوكالة:
1. إنشاء برنامج مفصل للاستثمار الدفاعي الأوروبي.
2. رسم خرائط تفصيلية للقدرات الحالية والقدرات المطلوب إضافتها.
3. ضمان المواد الخام المهمة للتصنيع.
4. ضمان توافر المهارات اللازمة للتصنيع.
5. القيام بالتغييرات اللازمة في مجال البحث والابتكار من أجل تحسين التآزر بين القطاع المدني والدفاعي.
6. دعم التقنيات الحيوية والقدرات الصناعية من خلال المشاريع الاستراتيجية.
7. تعزيز ميزانيات التصنيع والتنقل العسكري.
في هذا السياق، شهدت الاستراتيجية العسكرية الأوروبية، في السنوات الأخيرة، إنشاء أدوات عمل جديدة، كانت قد فصَّلت أهمها مجلة الجندي في يوليو من العام 2023، منها على سبيل المثال، منظمة التعاون الدفاعي الدائم (PESCO)، وصندوق الدفاع الأوروبي (EDF)، ومبادرة التدخل الأوروبية (EII)، ومنتدى السلام الأوروبي (EFF)، والبوصلة الاستراتيجية (BS). مما جعل من مصطلح أوروبا الدفاعية الذي لم يكن له أي وجود حتى نهاية عام 2017، حقيقة لها أدواتها وآلياتها القادرة على إحداث تأثيرات في موازين القوى وتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا.
لذا في هذه الدراسة، سنسلط الضوء على أهم ما بُدِئ بتحقيقه في المجال العسكري، في سياق مسيرة الاتحاد الأوربي لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية المنشودة، ومن أبرزها ما يلي:
1 تعزيز الاستثمار الدفاعي: وذلك من خلال بدء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتكثيف الجهود الرامية إلى الاستثمار بشكل ناجع في بناء دفاع أوروبي مشترك قوي، بعد سنوات من الاقتطاع من الميزانية الدفاعية والتردد في تعاون أوثق بين دول الاتحاد. وفي هذا السياق، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين أن الاتحاد يعتزم زيادة إنفاقه العسكري 200 مليار دولار في السنوات المقبلة، وذلك حتى بعد أن بلغ الانفاق العسكري الأوروبي ذروته بشكل واضح في عام 2022، عندما وصل إلى 480 مليار دولار، وهي زيادة قياسية لأكثر من ثلاثة عقود، وفقاً لتقرير SIPRI، الذي صدر في أبريل الماضي.
2 خفض التسلح من القوى غير الأوروبية وزيادة الشراء البيني: في مؤتمر ميونخ للأمن 2023، أكد كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس تقوية أوروبا أمنياً لحماية السلام في أرجاء القارة، عن طريق تطوير هياكل الصناعة الدفاعية الأوروبية (وليس عبر التسلح من قوى غير أوروبية). وذلك لإيمانهما المتزايد بأن مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى أوروبا كانت على حساب الاتحاد الأوروبي، فلقد أضعفت كل عملية بيع أسلحة أمريكية إلى أوروبا القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية، وحرمت إحدى الشركات الأوروبية من سوقها المباشر.
فكلما اشترت دولة أوروبية نظام دفاع باتريوت الجوي من شركة ريثيون الأمريكية، أثر ذلك بالسلب على نظام SAMP/T لشركة MBDA، المنافسة الفرنسية والإيطالية لشركة ريثيون. وبالمثل عندما تشتري دولة أوروبية طائرة إف – 16 من لوكهيد مارتن بدلاً من ساب غريبن السويدية، أو دبابة إبرامز بدلاً من لوكليرك الفرنسية، أو ليوبارد الألمانية.
وفي إطار خفض التسلح من القوى غير الأوروبية وزيادة الشراء البيني، أعلنت مجموعة الدفاع والطيران السويدية (ساب)، في يناير الماضي أنها تلقت طلبية من الجيش الفرنسي لتزويده بأسلحة مضادة للدبابات من نوع «إي تي 4»، في صفقة تبلغ قيمتها 24 مليون يورو.
3 زيادة تجميع المعدات داخل الاتحاد الأوروبي: وفقاً للمفوضية الأوروبية، ستوفر أوروبا ما بين 25 و100 مليار يورو من خلال تجميع المعدات والتعاون العسكري والصناعي بين الدول الأوروبية.
4 تجهيز قوة عسكرية أوروبية للتدخل السريع المستقل: في مارس 2022، أكد الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن الاتحاد الأوروبي سيعتمد استراتيجية عسكرية تقضي بـ«تجهيز» قوة عسكرية قوامها 5000 مقاتل، وأن الاتحاد يلتزم بزيادة إنفاقه العسكري حتى يتمكن من تنفيذ التدخلات بمفرده مع حلول عام 2025 وفق ما تقتضيه «البوصلة الاستراتيجية» الأوروبية.
5 تنفيذ المشتريات العسكرية ضمن الاتحاد على أساس جماعي: دعت المفوضية الأوروبية لتنفيذ المشتريات العسكرية ضمن الاتحاد على أساس جماعي. كما أكد جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، في أكثر من مناسبة بأن على دول الاتحاد أن تشتري معاً أسلحتها كما فعل الاتحاد بخصوص اللقاحات أثناء جائحة كورونا، وكما يريد الاتحاد أن يفعل في شراء الغاز. والاتحاد الأوروبي بصدد تشكيل فريق عمل دفاعي لعمليات الشراء المشتركة، بحيث يمكن للدول الأعضاء المشاركة لتلبية احتياجاتها على المدى القصير. كما يستهدف الاتحاد إعطاء حوافز مالية للدول الأعضاء للمشاركة في هذا النظام، كما اقترحت المفوضية الأوروبية إنشاء صندوق دفاع قيمته 500 مليون يورو لمساعدة دول الاتحاد الأوروبي على تطوير وشراء مزيد من الأسلحة معاً.
6 تعزيز قدرات صناعة الدفاع في الاتحاد الأوروبي بشكل عاجل في إنتاج الذخيرة: اعتمدت المفوضية الأوروبية مؤخراً قانون دعم إنتاج الذخيرة (ASAP)، لدعم صناعة الاتحاد الأوروبي بزيادة قدراته الإنتاجية من الذخيرة والصواريخ، ولضمان توفير الذخيرة والصواريخ في الوقت المناسب للحكومات الأوروبية، وذلك من خلال مراقبة ورصد وتوقع الاختناقات، والنقص في سلاسل توريد وإمدادات الذخيرة، ورسم سيناريوهات للحلول التي تضمن أمن توريد الذخيرة والصواريخ. وفي هذا الصدد خصص الاتحاد الأوروبي 500 مليون يورو وأكد تعهده بتدابير جديدة لتعزيز قدرات صناعة الدفاع في الاتحاد الأوروبي بشكل عاجل في إنتاج الذخيرة.
وطالب مسؤولون أوروبيون، من بينهم ممثل الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بزيادة طاقة الدول الأوروبية الإنتاجية إلى مليون طلقة سنوياً في غضون عام، كجزء من هذا المشروع. ومن جانبه قال ميكائيل يوهانسون، الرئيس التنفيذي لشركة ساب السويدية للطيران والدفاع إن هدف مليون طلقة ذخيرة واقعي ويمكن أن توفر شركته 400 ألف طلقة وحدها.
7 زيادة الاستثمار في الدراسات العسكرية: في إطار هذا التوجه، قدّم صندوق الدفاع الأوروبي منحاً بقيمة 1.24 مليار يورو في يوليو 2023، ضمن حملة كبرى لتمويل الأبحاث العسكرية المشتركة بين الدول الأعضاء، وذلك بعد عقود من سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مجالات الابتكارات الحربية، وكان الصندوق قد بدأ نشاطاته بالفعل ببرنامجين تجريبيين وميزانية قدرها 7.9 مليارات يورو مقسمة على 7 سنوات عام 2021.
وكان من بين المشروعات الفائزة بالمنحة الأوروبية مشروع «EuroHAPS» التجريبي، الذي يهدف إلى تطوير عدد من الأجهزة المصممة لتحسين المهام الاستخباراتية ومهام المراقبة والاستطلاع، وبموجبه وقَّعت المفوضية عقداً مع مؤسسة «تاليس ألينا سبيس» بقيمة 43 مليون يورو، وهي مؤسسة مشتركة بين مجموعة تاليس الفرنسية ومجموعة ليوناردو الإيطالية للصناعات الدفاعية، وقد شملت تلك الأجهزة منطاد تجسس الستراتوسفير القادر على التحليق على ارتفاعات عالية في الغلاف الجوي، ما يمكنه من اختراق حدود الدول غير الصديقة.
كما أن هناك الكثير من بحوث التطوير الدفاعي الأخرى التي ينفق عليها الاتحاد الأوروبي بالفعل، نذكر منها على سبيل المثال مركبات جوية أوروبية تعمل بالطاقة الشمسية، و«أقماراً صناعية زائفة» لجمع المعلومات الاستخباراتية، وهما ابتكاران جديدان بين عشرات الابتكارات الحربية الجديدة المدعومة أوروبياً، التي شملت العديد من التقنيات الحديثة من الطائرات بدون طيار إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
8 التجهز لـ«اقتصاد الحرب»: قال مفوض السوق الداخلية وشؤون الصناعات في الاتحاد الأوروبي تيري بريتون في شهر مايو الماضي إن الاتحاد الأوروبي «يجب أن ينتقل الآن إلى وضع اقتصاد الحرب»، حيث يجبر السياق الجيواستراتيجي أوروبا على تكثيف صناعاتها الأمنية والدفاعية، وإنه يتعهد في هذا الصدد بمبلغ مليار يورو من مرفق السلام الأوروبي لمواصلة تجديد مخزونات الدول الأعضاء، وإن المفوضية مستعدة لتسريع إجراءات المشتريات العامة وإزالة العقبات أمام نقل الذخيرة داخل السوق الأوروبية الموحدة ورفع «أي حواجز تنظيمية» قد تؤثر على وقت إنجاز ذلك.
9 بناء شراكات وتحالفات جديدة: ناقش الاتحاد الأوروبي مؤخراً الشراكة المتجددة مع جيران الاتحاد جنوب المتوسط، والتي اقترحها بالاشتراك مع المفوضية الأوروبية كممثل أعلى للاتحاد، مشيراً إلى أن مواجهتهم معاً لتفاقم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأمنية التي تواجه هذه المنطقة هي قضية أساسية لسياسة الاتحاد الخارجية. كما تسعى الرئاسة الإسبانية الحالية للاتحاد الأوروبي لزيادة القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي وتعزيز العلاقات مع مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي خصوصا على المستويات العسكرية والأمنية.
10 اتباع النهج الفرنسي كنموذج: تعتبر فرنسا واحدة من القوى الأوروبية التي ما زالت قادرة على تصنيع الكثير من الأسلحة بنفسها، مثل طائرات رافال المقاتلة، ويلعب هذا الأمر دوراً بارزاً في تحقيق الاستقلال الاستراتيجي، على اعتبار أن فرنسا لا تحتاج إلى الولايات المتحدة ولا لانتظار موافقات الكونجرس للحصول على هذا النوع من التكنولوجيا في الأسلحة ولا لدفع مبالغ كبيرة في الشراء. كما أظهرت فرنسا إصراراً كبيراً هذا العام للمضي قدماً في ترسيخ استقلالها العسكري أكثر من أي وقت مضي. وكشف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، هذا العام، عن ميزانية عسكرية ضخمة مقدارها 413 مليار يورو لست سنوات (2024 – 2030).
وبحسب الميزانية العسكرية الجديدة، من المفترض أن يبلغ الإنفاق العسكري السنوي في فرنسا 69 مليار يورو بحلول 2030 مقابل 32 مليار يورو فقط في 2017. كما تريد باريس أيضاً دعم مخزونها من ذخائر المدافع، خصوصاً من طراز قيصر، ولديها خطط لدعم القوات البرية بمئات المدرعات، 300 مدرعة من طراز جاغوار حتى عام 2032، ضمن برنامج «سكوربيون». كما تستهدف فرنسا تخصص مبالغ مالية لتطوير نظم راجمات صاروخية جديدة، وستخصص وزارة الدفاع الفرنسية جزءاً من الأموال لتطوير غواصات نووية من الجيل الثالث. ومن ضمن الخطط التي حددتها وزارة الدفاع بناء حاملة طائرات جديدة تخلف حاملة شارل ديغول الحالية، ستكون كلفتها قرابة 10 مليارات يورو وستدخل في الخدمة في عام 2038 وستكون مجهزة بمركز عمليات إضافي للمسيرات، وليس الطائرات المقاتلة والمروحيات فقط. كما تسعى فرنسا إلى تطوير قدرات بحريتها لتصبح قادرة على العمل في البحار على عمق 6000 متر. وأخيراً تسعى فرنسا للحفاظ على استقلالية الردع النووي الفرنسي والاستثمار بشكل مستقل، وليس كما فعلت إيطاليا وغيرها من الدول الأخرى، عندما طلبت منها تقسيم كلفة الردع، بذريعة أن ذلك قد يُفلس الاقتصاد الفرنسي.
الخاتمة
تبقى إشكالية تفضيل بعض دول الاتحاد الأوروبي منظومات التسليح الأمريكية عائقاً أمام الاستقلال المنشود، وذلك نابع في الأساس من اعتقاد هذه الدول أن خطط تنمية التصنيع العسكري الأوروبي المشترك للمنظومات ستستغرق وقتاً كبيراً، مما لا يسعفها في تلبية احتياجاتها الأمنية الآنية، وثانياً من صعوبة إدماج منظومات الدفاع الأوروبية مع منظومتها العسكرية التي تسيطر عليه نظم التسليح الأمريكية.
وهذا ما يمكن أن يفسر ولو جزئياً:
1 أن « الاتحاد الأوروبي»، بحسب المؤشر الذي نشره مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي، يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية في مجالي الاقتصاد والصحة، وبدرجة مرضية فقط في مجال الدفاع وحماية المناخ والهجرة، وبدرجة سيئة في المجال التقني، حيث يعتمد بشكل خاص في هذا المجال على الغير، كما يبينه الجدول المرفق.
2 فرنسا هي أكثر دول الاتحاد مساهمة ودفعاً في اتجاه الاستراتيجية في المجال العسكري، تليها كل من ألمانيا، إيطاليا، هولندا، بلجيكا، ثم مؤسسة الاتحاد الأوروبي (نفسه) في المركز السادس، كما يبينه الشكل التوضيحي المرفق.
نستطيع القول في نهاية هذه الدراسة: إن الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي عن الولايات المتحدة على المستوي العسكري بدأ يتبلور أكثر من أي وقت مضي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن أمامه عقبات خارجية وداخلية قد تقضي عليه أو تَقْصِرْه فقط على بعض دول الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا.
» الأستاذ الدكتور وائل صالح (خبير في مركز تريندز للبحوث والاستشارات)