هارون الرشيد

الرشيد القائد.. هارون بن محمد المهدي رحمه الله

القادة العظام في تاريخ الإسلام الجزء (10)

درة التاج العباسي، أحد عظماء الملوك في التاريخ، خليفة دولة العظمة والقوة والمجد، محب العلماء، مصاحب الأولياء، مجالس المحدثين والفقهاء والأدباء، مُعَظِّم حرمات الدين، العابد المتصدق، الحاج الغازي، الشجاع المقدام، الفذ المهاب، الخليفة النبيل، الملك الحشيم، العاقل الحكيم، الذكي النجيب، الحازم القوي، لقب بالرشيد، وكنيته أبوجعفر، واسمه هارون بن محمد المهدي بن أبي جعفر عبدالله المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي، رحمه الله ورحم الله قادة المسلمين المخلصين.

كان رحمه الله خليفة خيِّراً من خلفاء المؤمنين، وأميراً فذاً من أمراء المسلمين، وقائداً قوياً من قادة العباسيين، وهذه إطلالة على أهم ملامح قيادته رحمه الله:

1. القائد المؤمن المتعظ:

من أهم ملامح قيادته رحمه الله أنه كان قائداً مؤمناً عابداً لربه، بكّاءً إذا وعظ، ورجاعاً إلى الحق إذا نصح، فيروى أن هارون الرشيد لقي فضيل بن عياض، فقال له الفضيل: «يا حسن الوجه، أنت المسؤول عن هذه الأمة، حدثنا ليث عن مجاهد: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ)، قال: الوصل الذي كان بينهم في الدنيا، قال: فجعل هارون يبكي ويشهق» (تاريخ بغداد: 16/9)، ويروى أن ابن السماك قال لهارون الرشيد: «يا أمير المؤمنين، إن الله لم يجعل أحداً من هؤلاء فوقك، فاجتهد ألا يكون فيهم أحد أطوع إلى الله منك. فقال: لئن كنت أقصرت في الكلام لقد أبلغت في الموعظة» (البداية والنهاية: 14/32)، ويروى أيضاً أن ابن السماك قال يوماً: يا أمير المؤمنين، إنك تموت وحدك، وتقبر وحدك، فاحذر المقام بين يدي الجبار، والوقوف بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكظم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تنال، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال، فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته، فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة، فقام فخرج من عنده، وهو يبكي» (البداية والنهاية: 14/37)، ويروى أن هارون الرشيد قد زخرف منازله يوماً، وأكثر الطعام، والشراب، واللذات فيها، ثم استدعى أبا العتاهية، فقال له: «صف لنا ما نحن فيه من العيش، والنعيم، فأنشأ يقول:

عش ما بدا لك سالماً في ظلِّ شاهقة القصور
تسعى عليكَ بما اشتهت لدى الرَّواح إلى البكور
فإذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور

قال: فبكى الرشيد بكاء شديداً، فقال الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته؟ فقال له الرشيد: دعه؛ فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.

وقال الرشيد لأبي العتاهية: عظني بأبيات من الشعر وأوجز، فقال:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ولو تمنعت بالحجاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت صائبةً لكل مدَّرعٍ منها ومترس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

قال: فخر الرشيد مغشياً عليه (البداية والنهاية: 14/39).

2. القائد المثقف الواعي:

من أهم ملامح قيادته رحمه الله أنه كان قائداً ذا ثقافة واطلاع ومعرفة واسعة بأيام العرب والناس، وتذوق للشعر واللغة والأدب، فيروى أنه عرّف البلاغة بقوله: «البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على المعنى» (وفيات الأعيان: 3/478)، ومما يروى عن علمه أن امرأة دخلت عليه وعنده جماعة من وجوه أصحابه، فقالت: «يا أمير المؤمنين: أقر الله عينك، وفرحك بما آتاك، وأتم سعدك، لقد حكمت فقسطت، فقال لها: من تكونين أيتها المرأة؟ فقالت: من آل برمك، ممن قتلت رجالهم، وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم، فقال: أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفذ فيهم قدره، وأما المال فمردود إليك، ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه، فقال: أتدرون ما قالت هذه المرأة ؟ فقالوا :ما نراها قالت إلا خيراً، قال: ما أظنكم فهمتم ذلك، أما قولها أقر الله عينك، أي أسكنها عن الحركة، وإذا سكنت العين عن الحركة عميت، وأما قولها: وفرّحك بما آتاك، فأخذته من قوله تعالى: (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً)، وأما قولها: وأتم الله سعدك، فأخذته من قول الشاعر:

إذا تمّ أمر بدا نقصه ترقّب زوالاً إذا قيل تم

وأما قولها لقد حكمت فقسطت، فأخذته من قوله تعالى: (أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)، فتعجبوا من ذلك (المستطرف في كل فن مستظرف، ص: 53).

ومما يدل على سعة علمه ما روي عن توقيعاته إلى عماله وولاته على الأمصار، فيروى أنه وقع إلى صاحب خراسان: «داوِ جرحك لا يتسع، وإلى عامله على مصر: احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف، فيأتيك مني ما لا قِبَلَ لك به، ومن الله أكثر منه.. وإلى عامله على فارس: كن مني على مثل ليلة البيات. وإلى عامل خراسان: إن الملوك يؤثر عنهم الحزم. ووقع في قصة محبوس: من لجأ إلى الله نجا. وفي قصة متظلم: لا يجاوز بك العدل، ولا يقصر بك دون الإنصاف. وإلى صاحب السّند، إذ ظهرت العصبية: كلُّ من دعا إلى الجاهلية تعجّل إلى المنية.. ووقع في رقعة متظلم من عامله على الأهواز، وكان بالمتظلم عارفاً: قد ولّيناك موضعه، فتنكب سيرته» (العقد الفريد: 4/297).

3. القائد الباني المتحضر:

من أهم ملامح قيادته رحمه الله أنه كان قائداً بانياً محنكاً متحضراً محباً للعلماء ومشجعاً على طلب العلم، فقد أسس في بغداد بيت الحكمة، الذي ضم العديد من الكتب العربية والأجنبية في مختلف الفنون والمعارف، والذي صار فيما بعد ملتقى العلماء والباحثين والحكماء والأدباء، فكان بحق منارة للعلم والثقافة والأدب والفكر والتأليف والتصنيف وترجمة العلوم ونسخ الكتب، ويذكر المؤرخون أنه أُنشئ في عهده أول مصنع لصناعة الورق في بغداد، وبُنيت في عهده الجوامع الكبيرة، والمستشفيات، بالإضافة إلى بناء الجسور والطرق والجداول الموصلة بين الأنهار، واعتنى بالزراعة ونظمها، حتى بلغت دولته من المجد والهيبة والعلم والحضارة مبلغاً عظيماً، أشاد بها العلماء والأدباء والمؤرخون، فيروى عن عمرو بن بحر (الجاحظ) قوله: «اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لأحد من جد وهزل، وزراؤه البرامكة لم ير مثلهم سخاء وسروراً، وقاضيه أبو يوسف، وشاعره مروان بن أبي حفصة، كان في عصره كجرير في عصره، .. أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه من ذلك، إلى أشياء من المعروف» (تاريخ بغداد: 16/9)، قال ابن طباطبا: «وكانت دولة الرشيد من أحسن الدول، وأكثرها وقاراً ورونقاً وخيراً وأوسعها رقعة مملكة .. ولم يجتمع على باب خليفة من العلماء والشعراء والفقهاء، والقرّاء والقضاة والكتّاب والندماء ما اجتمع على باب الرشيد، وكان يصل كلّ واحد منهم أجزل صلة، ويرفعه إلى أعلى درجة، وكان فاضلاً شاعراً، راوية للأخبار والآثار والأشعار صحيح الذوق والتمييز، مهيباً عند الخاصة والعامة» (الفخري في الآداب السلطانية، ص: 195)، وقال أحدهم: «كانت أيام الرشيد كلها خير كأنها من حسنها أعراس» (تاريخ الخلفاء، ص: 212).

4. القائد الحازم المتصدي:

من أهم ملامح قيادته رحمه الله أنه كان قائداً شجاعاً حازماً مدافعاً متصدياً لهجمات أعدائه على دولته، قائداً لجيوش دولته بنفسه في ميادين الحرب والقتال، حتى عم الرخاء والأمن والأمان والاطمئنان دولة الإسلام في عهده، ومما يروى من حزمه وغيرته على دولته، أن أحد أعداء دولته قد نقض الصلح الذي أعطته دولته لدولة الرشيد، وكتب إلى هارون الرشيد كتاباً قال فيه: «من نقفور.. إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافها إليها، لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك، فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور…، قد قرأت كتابك …، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام. ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغنم …، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة، فأجابه هارون الرشيد إلى ذلك» (الكامل في التاريخ: 5/359)، وفي هذا يقول أبو العتاهية:

إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا وأصبحت تسقي كل مستمطرٍ ريا
لك إسمان شُقا من رشادٍ ومن هدىً فأنت الذي تدعى رشيداً ومهديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا وإن ترض شيئاً كان في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقاً وغرباً يد العلا فأوسعت شرقياً وأوسعت غربيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
قضى الله أن يصفو لهارون ملكه وكان قضاء الله في الخلق مقضيا
تحلبت الدنيا لهارون بالرضا فأصبح نقفور لهارون ذميا

ختاماً: رحم الله القائد الذي اتخذ قلنسوة كتب عليها «غازٍ حاج»، والذي ساهم في بناء حضارة المسلمين في بغداد وغيرها من مدن الإسلام، وحكم دولةً عظيمةً أعزها بين الأمم، والحمد لله رب العالمين.

بقلم: الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي – أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض