Capture

ألب أرسلان.. قائد معركة ملاذكرد

سنتناول في هذا الباب موضوعاً عسكرياً إسلامياً، نلقي الضوء فيه إما على قائد عسكري إسلامي كانت له صولات وجولات في ساحات المعارك، وإما على معركة إسلامية خالدة.. وفي هذا العدد سلنتقي مع القائد العسكري الفذ:

ألب أرسلان أحد أهم قادة المسلمين وكبار رجال التاريخ، وصاحب الانتصار الخالد على الروم في معركة ملاذكرد. عُرف باسم “ألب أرسلان” وتعني بالتركية (الأسد الباسل). كان ثاني حكام الأتراك السلاجقة بعد السلطان المؤسس طغرل بك، لُقّب بسُلطان العالم أو بالسلطان الكبير أو بالملك العادل. بلغت حدود حكمه من أقاصي بلاد ما وراء النهر إلى أقاصي بلاد الشام، ورغم عظم مملكته، إلا أنه كان تابعاً للخلافة العباسية في بغداد.

بعد وفاة طُغرُل بك المؤسس الحقيقي لدولة السلاجقة سنة 455 هـ/1063م، لم يكن له ولد يخلفه على سدَّة الحكم، فتولى ابن أخيه ألب أرسلان حكم السلاجقة، وكان قبل أن يتولى السلطنة يحكم خراسان وبلاد ما وراء النهر بعد وفاة أبيه عام 1059م، وكان يعاونه دوماً وزيره أبو علي حسن بن علي بن إسحاق الطوسي، المشهور بنِظام المُلك، وقد استطاع في عهده أن يفتح أجزاء كبيرة من آسيا الصُغرى وأرمينيا وجورجيا.

نشأته

ولد ألب أرسلان في 15 ديسمبر 1029 في الأسرة السلجوقية التي تنتسب إلى قبيلة من قبائل الغز التركية، والتي كان يقودها الزعيم «سلجوق»، وقد ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد.

كان ألب أرسلان كعمِّه طغرل بك قائداً ماهراً مقداماً مشتاقاً إلى الجهاد في سبيل الله، وأصبح قائد السلاجقة حريصاً على نصرة الإسلام ونشره ورَفْع راية الإسلام خفَّاقة على مناطق كثيرة من أراضي الإمبراطورية البيزنطية.

فتوحاته

عندما اطمَأَنَّ ألب أرسلان على استتباب الأمن في جميع الأقاليم والبلدان الخاضعة له، أخذ يُخَطِّط لتحقيق أهدافه البعيدة، وهي فتح البلاد المجاورة لدولته، وتوحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية ونفوذ السلاجقة، فأعدَّ جيشاً كبيراً اتَّجه بهِ نحو بلاد الأرمن وجورجيا، فافتتحها وضمَّها إلى مملكته، كما عَمِل على نشر الإسلام في تلك المناطق.

وتمكن السلطان ألب أرسلان من السيطرة على أذربيجان وأرمينيا الكبرى، وهذه الجهات كانت بمثابة الطوق الذي يُحيط ويخنق الإمبراطورية البيزنطية، الأمر الذي رآه الإمبراطور البيزنطي رومانوس الرابع تحدياً يجب مواجهته سريعاً، وهو ما نتج عنه المعركة الأشهر ملاذكرد.

معركة ملاذكرد

كان ألب أرسلان امتداداً لعمه طغرل في القدرة والقيادة، فحافظ على ممتلكات دولته، ووسع حدودها، وتوَّج جهوده في هذه الجبهة بانتصاره على الإمبراطور رومانوس في معركة ملاذكرد في ذي القعدة 463هـ/أغسطس 1071. فقد أحسن السلطان خطة المعركة، وأوقد الحماسة والحمية في نفوس جنوده، حتى إذا بدأت المعركة أقدموا كالأسود الضواري تفتك بما يقابلها، وهاجموا أعداءهم في جرأة وشجاعة، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحاً، وما هي إلا ساعة من نهار حتى تحقق النصر، وانقشع غبار المعركة عن جثث الروم تملأ ساحة القتال.

أسر رومانوس

انهزم الروم وأسر إمبراطورهم رومانوس وعقد البيزنطيون صلحاً مع السلاجقة مدته خمسون عاماً، واعترفوا بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها من بلاد الروم.

عامل ألب أرسلان رومانوس بلطف كبير وعرض مرة أخرى شروط السلام التي كان قد عرضها قبل المعركة. ظل رومانوس أسير السلطان لمدة أسبوع. وخلال هذا الوقت، سمح السلطان لرومانوس بتناول الطعام على مائدته بينما اتفق على التنازلات: استسلام أنطاكية وإديسا وهيرابوليس وملاذكرد، ودفع 10 ملايين قطعة ذهبية كفدية مقابل فك آسر رومانوس، لكن السلطان ألب أرسلان خفضها بعد أن توسَّل إليه ملك الروم إلى 1.5 مليون قطعة ذهبية كدفعة أولية، يليها مبلغ سنوي قدره 360.000 قطعة ذهبية.

استشهادات

كان ألب أرسلان عادلاً يسير في الناس سيرة حسنة، كريماً، رحيم القلب، شفوقاً على الرعية، رفيقاً بالفقراء، باراً بأهله وأصحابه ومماليكه.

كتب إليه بعض السعاة في شأن وزيره نظام المُلك، فاستدعاه وأعطاه الرسالة ثم قال له: (إن كان هذا صحيحاً، فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم). كما كان شديد الحرص على حفظ مال الرعية، فلقد بلغه يوماً أن أحد مماليكه قد أخذ إزاراً لأحد الناس ظلماً، فأمر بصلبه، فارتدع باقي المماليك عن الظلم.

وقيل إنه كان كثيراً ما تُقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم، وأحكام الشريعة الإسلامية، ولمَّا اشتهر بين الملوك بحُسن سيرته، ومحافظته على عهوده، أذعنوا له بالطاعة، وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقاصي الشام.

يُذكر أنهُ عَبَر أعالي نهر الفرات شرق الأناضول فاتحاً لمناطقه، ومسيطراً على تلك الأراضي، قال له أحد كبار الفقهاء: يا مولانا، أحمد الله تعالى على ما أنعم به عليك، فقال: وما هذه النعمة؟ فقال: هذا النهر لم يقطعه قط تركي إلا مملوك، وأنتم اليوم قد قطعتموه ملوكاً، قال: فمن وقته أرسل لإحضار جماعة من الأمراء والملوك، وأمر ذلك الفقيه بإعادة الحديث، فأعاده، فحمد الله هو وجماعة من حضر عنده حمداً كثيراً على كون الأتراك قد انتقلوا من المملوكية إلى الملوكية.

محاسنه

شجع «ألب أرسلان» الآداب والعلوم في زمانه وقد ظهر في عهده شخصيات شهيرة مثل الشاعر والفلكي عمر الخيام. كما أنشأ المجامع العلمية في بغداد وأشهرها المدرسة النظامية عام 1067. وكان الوزير نظام المُلك من أكثر الشخصيات تأثيراً أيام السلطان ألب أرسلان. ويذكر المؤرخون أنه قد صاحب السلطان في معظم حروبه وفتوحاته وقد ألف نظام المُلك كتاباً في فنون الحكم يعرف باسم (سير الملوك) تحدث فيه عن تنظيم الحكم وعن ضرورة قيام العدل، وتنظيم أمور الدولة والاستقطاع، وتنظيم الإدارة والجيش، وتاريخ العلاقة بين السلطة المركزية في عصر السلاجقة.

لم يكن ألب أرسلان قد تحصل على تفويض بالسلطنة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله، ولم يرد أن ينال هذا التفويض بالقهر، بل انتهج سياسة جديدة، وهي سياسة المهادنة مع الخليفة العباسي والتحالف معه، وإعلان احترامه أمام الكافة. فكانت ردة فعل الخليفة تجاه هذه السياسة الجديدة التي تتسم بالاحترام أن أمر بمبايعة ألب أرسلان وقبوله سلطاناً جديداً للسلاجقة.

آثاره

غالباً ما يُستشهد بانتصار ألب أرسلان في ملاذكرد على أنه بداية النهاية للدولة البيزنطية في الأناضول، وبداية الهوية التركية هناك. كما يُنظر أيضاً إلى فتوحات ألب أرسلان في الأناضول من قبل البيزنطيين على أنها إحدى النتائج المحورية لإطلاق الحملات الصليبية.

وفاته

توفي بتاريخ  29 نوفمبر 1072 الموافق للعاشر من ربيع الأول عام 465هـ، عن عمر 43 عاماً، قضى معظمها بالجهاد في سبيل الله، رافعاً راية الإسلام، ودفن في مدينة مرو بجوار قبر أبيه، فخلفه ابنه ملك شاه.

ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء، وغلقت الأسواق، وأظهر الخليفة الجزع عليه،

خلف ألب أرسلان ابنه ملك شاه، وهو الذي أصبح السلطان بعده.

إعداد: نادر نايف محمد

Instagram
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض