يشهد العالم اليوم حروباً جديدة متطورة، حروبٌ لها آثارٌ مدمرة مستدامة بتكلفة قليلة، حروبٌ تضعف الدول من داخلها، حروبٌ تستخدم جميع الأدوات والوسائل لهزيمة الخصم، حروب لا يُعرف من العدو الحقيقي الذي يديرها ويدعمها ويقف خلفها، حروب أفكار ومعتقدات، حروبٌ إعلام واقتصاد، حروبٌ تكنولوجيا ومخدرات، حروب شبهات وشهوات، حروب شائعات وشعارات خداعة، إنها حروب من جيل جديد، جيل خامس يجمع بين جميع أجيال الحروب الأربعة التي سبقته، حروب تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث لمعرفة أدواتها وأساليب التصدي لها.
وحروب الجيل الخامس: هي حروب بالوكالة عن العدو الحقيقي سواء أكان العدو الحقيقي يوظف الجماعات المسلحة أو الجماعات غير المسلحة المعارضة للحكومة داخل الدولة المستهدفة، أو يوظف دولة ما لشن حرب على الدولة المستهدفة، ويهدف العدو من ذلك إلى إضعاف الدول من قبل أفرادها، عن طريق استهداف الحكومات والمجتمعات معاً، لخلق فوضى عارمة واضطراب مستدام وحروب أهلية، عن طريق زرع فجوات وأحقاد وفتن وتناقضا تبين الحكومة والمجتمع من جهة، وبين أطياف المجتمع من جهة أخرى، باستغلال كافة الوسائل الإعلامية والفكرية والتقنية والسيبرانية، وتصعيد الخلافات والنزاعات الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية والعنصرية والثقافية،واستغلال الأوضاع الاجتماعية والصحية والاقتصادية، وبث الإشاعات الكاذبة، واستخدام كافة وسائل الضغط المتاحة من تكنولوجيا المعلومات ووسائل إعلام وبرامج تواصل اجتماعي، واستقطاب العملاء المخدوعين المعارضين للحكومة، ودعمهم مالياً وإعلامياً، سواء أكانت جماعات فكرية أو مسلحة، وتهريب وترويج الممنوعات الحسية والمعنوية التي تضعف أفراد المجتمع، وتهدم أخلاق ومبادئ مجتمعاتها، والإضرار باقتصاد الدولة باستخدام كافة الوسائل التي تسهم في إضعافها كالحرب البيولوجية والبيئية التي تمنع الدولة من إنتاج الغذاء وبالتالي عدم القدرة على التصدير.
ومن أهم أساليب التصدي لكذا نوعٍ من الحروب:
1 نشر مبادئ ومفاهيم الشريعة الإسلامية الوسطية السمحة المعتدلة التي تدعو إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفق منهج وفهم السلف الصالح، فإن نشر هذه المفاهيم الصحيحة وغرسها في قلوب أبناء الوطن، يقي أفراد المجتمع من العقائد والتيارات والمناهج والفرق والأفكار الضالة والجماعات المضلة التي تدعو إلى الإرهاب والتحزب لجماعة أو فكر معين مخالف لتعاليم الكتاب والسنة، ويجنبهم الفتن والفوضى والمظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات والثورات والدعاة إليها. مما يعزز التلاحم المجتمعي ووحدة الكلمة وغرس المحبة وزرع الألفة ونشر المودة بين أفراد المجتمع وطاعة ولاة الأمر بالمعروف، ومعالجة المظالم والأخطاء والمطالبة بالحقوق بالحكمة واللين والحلم والتريث والتأني، والبعد عن القوة والعنف والفحش، قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه: 44)، وقال تعالى لسيد الثقلين صلى الله عليه وسلم:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
وقال ص: «إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزع من شيءٍ إلا شانه»(مسلم: 2594)، وقال عليه الصلاة والسلام: «من يُحرم الرفق، يُحرم الخير»(مسلم: 2592)، وقال ص: لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»(مسلم: 18).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، قال: وعليكم، فقالت عائشة: السام عليكم، ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال رسول الله ص: مهلًا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف -أو الفحش-، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في»(البخاري: 6401).
وعن الليث بن سعدٍ عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص رضي الله عنه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس»، فقال له عمروٌ: “أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنةٍ، وأسرعهم إفاقةً بعد مصيبةٍ …”(مسلم: 2898).
فبيَّن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس عند قيام الساعة؛ لأنهم عند حدوث الفتن يحلمون ولا يعجلون، ففيهم من الحلم ما يجعلهم ينظرون إلى الأمور ويعالجونها.
وعن زيد بن وهبٍ، قال: سمعت حذيفة رضي الله عنه يقول: “إن الفتنة وكلت بثلاثٍ: بالحاد النحرير الذي لا يرتفع له شيءٌ إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد، فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه حتى تبلو ما عنده “(حلية الأولياء: 1/274).
وقال ابن القيم رحمه الله: “ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكرٍ؛ فطلبَ إزالتَهُ فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله ص يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلامٍ عزم على تغيير البيت ورَدِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريشٍ لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهدٍ بكفرٍ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه”(إعلام الموقعين: 4/338-339).
فهذه النصوص وغيرها الكثير تدعوا إلى الحلم والأناة في معالجة الأخطاء والمظالم.
ومن الضروري نشر هذه المفاهيم الصحيحة من خلال وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، من قنوات فضائية وإذاعات محلية ومواقع إلكترونية وكتب ورسائل توجيهية، ومناهج تعليمية، وخطب ودروس وندوات ومؤتمرات ومحاضرات دينية توعوية في المساجد والمدارس والجامعات والنوادي والجمعيات الاجتماعية.
2 تحذير أفراد المجتمع من حرب الشائعات والأخبار الكاذبة التي تبثها الدول المعادية وتستهدف مجتمع وسكان دولة معينة، ولا شك أن حرب الشائعات بريد الفتن، وسمة لأيام المحن، وسلاح خطير يهدد الأمن والاستقرار، ويستحسن أن تؤسس مؤسسة حكومية تحارب الشائعات التي ينشرها الأعداء عن شؤون المجتمع، سواء أكانت شائعات تتعلق بالجانب السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو العلمي أو الصحي أو الاقتصادي أو غير ذلك، وتفند هذه المؤسسة من خلال وسائل الإعلام المختلفة – وبالأخص وسائل التواصل الاجتماعي- الشائعات المكذوبة وتبين الأخبار الصحيحة، وتقوم بإلزام مواقع التواصل الاجتماعي بحذف الأخبار الكاذبة من خلال سن تشريعات تخص هذا الموضوع، وتقوم هذه المؤسسة بتحديد هوية القائم بنشر هذه الشائعات والوصول إليه بالطرق القانونية. ولا شك أن محاربة الشائعات مما حثت عليه الشريعة الإسلامية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)(الحجرات: 6)، وقال عليه الصلاة والسلام: «كفى بالمرء كذباً أن يُحدث بكل ما سمع»(مسلم: 5).
ونواصل الحديث بإذن الله عن بقية أساليب التصدي لحروب الجيل الخامس من منظور الشريعة الإسلامية في العدد القادم.
وختاماً نسأل المولى العظيم أن يحفظ بلادنا وبلاد الإسلام من شر الحروب والفتن والمحن، ونسأله سبحانه أن يديم الأمن والأمان والخير والعز والسعادة على بلادنا وبلاد المسلمين أجمعين. والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، و صلى الله وسلم على خاتم النبيين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.