Intellectual-property

أخلاقيات الثورة الصناعية الرابعة في الشريعة الإسلامية 2

› بقلم: الدكتور ناصر عيسى أحمد البلوشي (كبير الباحثين بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي)
نتناول في هذا العدد، الجزء الثاني من الأخلاقيات والأسس الشرعية لهذه الثورة الصناعية، التي ينبغي مراعاتها؛ ليستفاد من إيجابياتها، وتُجتنب سلبياتها في قطاعات الحياة المختلفة:
1. الخصوصية الفردية
يجدر بتقنيات الثورة الصناعية ألا تؤثر سلباً على خصوصية الأشخاص في حياتهم الدينية والعلمية والثقافية والمالية والصحية والشخصية، ولا تخترق حياتهم الشخصية، بل ينبغي أن تعمل على الحفاظ على سرية حياة الأشخاص ومعلوماتهم.
والمتأمل والناظر في تطور شؤون الحياة وخصوصاً وسائل الاتصال الحديثة يجد أنه كلما ازداد التطور صار الوصول لكل بعيد وكل مستور أسهل، فلم تعد الجُدُر تقف مانعاً أمام التقنيات ولا تصعب معرفة ما ورائها، ومع كل ذلك نجد الأدلة الشرعية تحثنا على الحفاظ على الخصوصية الشخصية والحذر من انتهاكها والتجسس على الآخرين، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات: 12)، قال ابن جرير الطبري: «وقوله: (ولا تجسسوا): ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره» (جامع البيان: 22/302).
وقوله عليه الصلاة والسلام قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (البخاري: 6064)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى حديث قومٍ، وهم له كارهون، أو يفرون منه، صب في أذنه الآنك يوم القيامة» (البخاري: 7042).
وعليه فينبغي مراعاة توفر الخصوصية في تقنيات الثورة الصناعية الرابعة، بحيث لا يستطيع من خلالها الأفراد أو الشركات اختراق أجهزة المستخدمين، وتتبع البيانات، وكذلك ينبغي على مستخدمي هذه التقنيات الحذر من اختراق خصوصية الآخرين. فعلى سبيل المثال يجب توفر الخصوصية في تقنيات الذكاء الاصطناعي (الروبوتات) التي ستستخدم في أماكن العمل والمنازل الشخصية.
2. البيئة النظيفة
يجب ألا تؤثر تقنيات الثورة الصناعية الرابعة سلباً على البيئة، بل تكون مساهمة في الحفاظ على البيئة البرية والجوية والبحرية من أي مخلفات أو تلوث يضر بها، وإن أي تقصير في هذا الأمر أو إضرار بالبيئة يعود بالدرجة الأولى على المتسبب به وينتقل للأجيال القادمة بعده.
فالله تعالى استخلف الإنسان في هذه الأرض وأوكل إليه عمارتها، وسخر له مواردها وكل ما فيها، كما دعاه إلى الحفاظ عليها وحسن استخدامها شكراً لهذه النعمة واستبقاء لصلاحها الذي به يكون صلاح حال كل من يعيش عليها.
وذلك امتثالاً لما وجهنا الله إليه من خلال كثيرمن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي حثت على المحافظة على البيئة، كقوله تعالى:(وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 14)، وقوله عز وجل: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (البقرة: 60)، وقوله سبحانه: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 85)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمٍ يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقةٌ» (البخاري: 2320).
وعليه فينبغي أن تحافظ تقنيات الثورة الصناعية الرابعة على البيئة، من أي مخلفات تنتج عن التقنيات المستخدمة في قطاع الصحة أو الطاقة أو النقل أو التكنولوجيا.
فعلى سبيل المثال ينبغي أن تُبتكر حلول عملية لإعادة التدوير والتخلص من النفايات التي ستنتج عن صناعة الأجهزة الذكية من حواسيب وروبوتات وأجهزة اتصال وأنظمة الواقع الافتراضي وشبكات الكهرباء وألواح الطاقة الشمسية والسيارات والطائرات والقطارات الذكية وغيرها بشكل آمن لا يشكل ضرراً على البيئة لا في القريب ولا البعيد.
3. الملكية الفردية والمؤسسية والفكرية
من المهم أن تحافظ تقنيات الثورة الصناعية الرابعة على الملكية الفردية والمؤسسية والفكرية للأفراد، وتعمل على حمايتها، وعدم الإضرار بها واختراقها.
وذلك من خلال عدم الاعتداء على الممتلكات الشخصية للأفراد كالعقارات ووسائل النقل بالإضافة إلى الحفاظ على أمن المعلومات في الحواسيب الخاصة للأفراد والمؤسسات التي قد تحوي أعمالاً أدبية وعلمية وفنية وتقنية، وأفكاراً إبداعية وابتكارية، سواء كان ذلك عن طريق نسخ المعلومات أو سرقة الأرصدة البنكية للأشخاص، وسرقة البرمجيات التطبيقية للأفراد والمؤسسات وإعادة نسخها أو إتلافها أو تعطيلها أو تشويهها أو تخريبها من خلال برامج القرصنة الإلكترونية.
وقد أمرت الشريعة الإسلامية في آيات وأحاديث كثيرة بحفظ الممتلكات الشخصية للأفراد، والحذر من سرقة ممتلكات الغير والاعتداء عليها، كما في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: «فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (البخاري: 67)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرامٌ، دمه، وماله، وعرضه» (مسلم: 2564)، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ليلة العقبة: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا» (البخاري: 18).
فيتبين من هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة حرمة الاعتداء على ممتلكات الآخرين بسرقتها ونسبتها للغير. وعليه فينبغي أن تؤخذ الاحتياطات الأمنية في صناعات الثورة الصناعية الرابعة، بحيث تحمى الممتلكات الشخصية والفكرية للأفراد والمؤسسات. المستخدمة في التعليم والواقع الافتراضي، وشبكة الإنترنت، بالإضافة إلى توفر الحماية في تقنيات الذكاء الاصطناعي الخاص بالحواسيب الذكية وتقنية التعاملات الرقمية وأنظمة البلوك تشين والروبوتات الشخصية والمؤسسية. وبالأخذ بهذه الأخلاقيات والأسس، ينعم أفراد المجتمع بمميزات هذه التقنيات الحديثة التي صممت لأجل تسهيل حياتهم، دون أن يتأثروا بسلبياتها، فتحقق التقنيات والخدمات التي ستنتجها الثورة الصناعية الرابعة أهدافها في تحسين جودة الحياة وينعكس ذلك إيجاباً على الفرد والمجتمع والأمة.
وختاماً: نسأل المولى العظيم أن يفقهنا في دينه، وأن يديم نعمة الأمن والأمان والخير والعز والسعادة والاطمئنان على بلادنا وبلاد الإسلام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

Facebook
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض