(فقهاء عظام في تاريخ الإسلام) الجزء (5)
الإمام الأعظم، الفقيه الأكبر، التابعي العالم، المجتهد الرائد، أستاذ الأئمة، شيخ الفقهاء، المتأنق المتطيب، العابد الناسك، الورع الزاهد، الجواد السخي، الناصح الخير، الصابر الحليم، كنيته أبو حنيفة، واسمه النعمان بن ثابت بن مرزُبان الكوفيّ رحمه الله ورحم الله فقهاء المسلمين.
كان “رحمه الله” فقيهاًعظيماً من فقهاء المسلمين، وإماماً مجتهداً من أئمة المؤمنين، وهذه إطلالة على أهم ملامح فقهه وإمامته “رحمه الله”:
1. الفقيه المتأنق المتطيب:
من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان متأنقاً متطيباً، جميل الملبس والمظهر، حسن الهيئة والثياب، فيروى عن أبي نعيم قوله: «كان أبو حنيفة جميلاً، حسن الوجه، حسن اللحية، حسن الثوب«، ويروى عن عبدالله بن المبارك قوله: «ما كان أوقر مجلس أبي حنيفة، كان يتشبه الفقهاء به، وكان حسن السمت حسن الوجه حسن الثوب«، ويروى عن أبي يوسف أنه قال: «كان أبو حنيفة رحمه الله ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، وكان أحسن الناس منطقاً، وأحلاهم نغمة، وأبينهم عما يريد«، وروي عن محمد بن جعفر بن إسحاق بن عمر بن حماد بن أبي حنيفة قوله: «إن أبا حنيفة كان طويلاً تعلوه سمرة، وكان لباساً، حسن الهيئة، كثير التعطر، يعرف بريح الطيب إذا أقبل وإذا خرج من منزله قبل أن تراه« ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصَّيْمَري، ص: (16-17).
2. الفقيه العابد الناسك:
من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان عابداً ناسكاً صائماً النهار قائماً الليل، مصاحباً القرآن كثير الصلاة والتضرع لمولاه، فيروى عن مسعر قوله: «كنت أنظر إلى أبي حنيفة رضي الله عنه يصلي الغداة، ثم يجلس في مذاكرة العلم إلى العصر، ولا يحدث وضوءاً ولا طعاماً ولا شراباً، ثم يجلس بعد صلاة العصر إلى المغرب، ثم يجلس في مذاكرة العلم إلى عشاء الآخرة، فقلت في نفسي متى يتفرغ هذا للعبادة، لأتعاهدنه بالليل، قال: فتعاهدته، فلما صلى العشاء الآخرة دخل منزله، فلما هدأ الناس وأخذوا مضاجعهم خرج إلى المسجد فانتصب، فكان يصلي الليل كله، فلما كان في الوقت الذي يتحرك الناس فيه، دخل منزله وخرج في ذلك الوقت الذي خرج فيه، وقد تهيأ وسرح لحيته، ثم صلى الفجر، ثم قعد يذاكر العلم يومه أجمع، قال: فقلت لعل هذا شيء جعله على نفسه أياماً، فلزمته حتى مات، فما رأيته بالنهار مفطراً ولا بالليل نائماً، وكان يخفق قبل الظهر خفقة خفيفة«، ويروى عن عبدالمجيد بن أبي راود قوله: «ما رأيت أصبر على الطواف والصلاة والفتيا بمكة من أبي حنيفة، إنما كان كل الليل والنهار في طلب الآخرة لنفسه والنجاة للمعاد، صبوراً على تعليم من يجيئه ويطلب العلم، لقد شاهدته عشر ليال فما رأيته نام بالليل ولا هدأ ساعة من نهار من طواف أو صلاة أو تعليم علم«، ويروى عن أحمد بن يونس أنه قال: سمعت زائدة يقول: «صليت مع أبي حنيفة في مسجده عشاء الآخرة، وخرج الناس ولم يعلم أني في المسجد، وأردت أن أسأله عن مسألة من حيث لا يراني أحد، قال: فقام فقرأ وقد افتتح حتى بلغ إلى هذه الآية: (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) فأقمت في المسجد أنتظر فراغه فلم يزل يرددها حتى أذن المؤذن لصلاة الفجر«، ويروى عن القاسم بن معن أن أبا حنيفة قام ليلة بهذه الآية: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)، يرددها ويبكي ويتضرع«، ويروى عن بكر العابد أنه قال: «رأيت أبا حنيفة ليلة يصلي ويبكي ويتضرع ويدعو ويقول: رب ارحمني يوم تبعث عبادك وقني عذابك واغفر لي ذنوبي يوم يقوم الأشهاد«، ينظر لكل ما سبق: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصَّيْمَري، ص: (53-57).
3. الفقيه الورع الزاهد:
من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان ورعاً زاهداً، فيروى عن عبدالله بن المبارك قوله: «قدمت الكوفة فسألت عن أورع العلماء، فقالوا أبو حنيفة«، ويروى عن إبراهيم بن سعيد الجوهري أنه قال: «كنت عند أمير المؤمنين الرشيد إذ دخل أبو يوسف، فقال له الرشيد: يا أبا يوسف، صف لي أخلاق أبي حنيفة رضي الله عنه، فقال: كان شديد الذب عن محارم الله أن تؤتى، شديد الورع أن ينطق في دين الله بما لا يعلم، يحب أن يطاع الله ولا يعصى، مجانباً لأهل الدنيا في زمانهم، لا ينافس في عزها، طويل الصمت، دائم الفكر، على عمل واسع، لم يكن مهذاراً ولا ثرثاراً، إن سئل عن مسألة كان عنده فيها علم، نطق به وأجاب فيها بما سمع، وإن كان غير ذلك، قاس على الحق، واتبعه صائناً نفسه ودينه، بذولاً للعلم والمال، مستغنياً بنفسه عن جميع الناس، لا يميل إلى طمع، بعيداً عن الغيبة، لا يذكر أحداً إلا بخير، فقال له الرشيد: هذه أخلاق الصالحين«، ويروى عن علي بن حفص البزاز قوله: «كان حفص بن عبدالرحمن شريك أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يجهز عليه، فبعث إليه دفعة متاعاً وأعلمه أن في ثوب كذا عيباً، فإذا بعته فبين، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين العيب، ولم يعلم ممن باعه، فلما علم أبو حنيفة بذلك، تصدق بثمن المتاع كله«، ويروى عن الحسن بن صالح قوله: «كان أبو حنيفة شديد الورع، هائباً للحرام، تاركاً لكثير من الحلال، مخافة الشبهة، ما رأيت فقيهاً قط أشد صيانة منه لنفسه ولعلمه، وكان جهازه كله إلى قبره«، ومما يروى عن زهده رحمه الله ما روي عن عبدالله بن المبارك أنه قال عن أبي حنيفة: «ما تقدرون تقولون في رجل، عرضت عليه الدنيا والأموال العظيمة فنبذها وراء ظهره، فضرب السياط، وقيل له: خذ الدنيا، فصبر على السراء والضراء، ولم يدخل فيما كان غيره يطلبه ويتمناه، والله لقد كان على خلاف من أدركناه، يطلبون الدنيا، والدنيا تهرب منهم، وتأتيه الدنيا فيهرب منها«. ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصَّيْمَري، ص: (43-46).
4. الفقيه الجواد السخي:
من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان جواداً كريماً سخياً محسناً، فقد روي عن قيس بن الربيع: أن أبا حنيفة كان يبعث بالبضائع إلى بغداد، فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة، فيشتري بها حوائج أشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير والأرباح إليهم، ثم يقول أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله، فإني ما أعطيكم من مالي، ولكن من فضل الله علي فيكم، وهذه أرباح بضائعكم، فإنه هو والله ما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حق لغيره«. ويروى عن أبي يوسف قوله: «كان أبو حنيفة شديد البر بكل من عرفه، وكان يهب للرجل الخمسين ديناراً أو أكثر، فإذا شكره بحضرة قوم غمه ذلك وقال: تشكر لي وإنما هو رزق ساقه الله إليك«. ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصَّيْمَري، ص: (57-59).
5. الفقيه الناصح الخير:
من أهم ملامح فقهه “رحمه الله” أنه كان فقيهاً ناصحاً خيراً مشهوداً له بالفضل والصلاح، ولا أدل على ذلك من ثناء أئمة الإسلام عليه، يروى عن وكيع بن الجراح قوله: «كان أبو حنيفة رضي الله عنه عظيم الأمانة، جليلاً في نفسه، يؤثر ربه على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله لاحتمل« ينظر: أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصَّيْمَري، ص: (50)، ويروى عن أحمد بن حنبل قوله عن أبي حنيفة: «هو من العلم، والورع، والزهد، وإيثار الدار الآخرة بمحل لا يدركه فيه أحد، ولقد ضُرب بالسياط على أن يلي القضاء لأبي جعفر فلم يفعل« ينظر: مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي، ص: (43)، ويروى عن الشافعي أنه سأل مالك بن أنس، «هل رأيت أبا حنيفة وناظرته؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو نظر في هذه السارية، وهي من الحجارة، فقال: إنها من ذهب لقام بحجته«، ويروى عن الشافعي أيضاً قوله: «الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه« ينظر: مسند الإمام أبي حنيفة رواية أبي نعيم، ص: (20-22)، ويروى عن عبدالله بن المبارك أنه قال: «رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس: فعبدالعزيز بن أبي رواد، وأما أورع الناس: فالفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس: فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس: فأبو حنيفة، ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله« ينظر: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: (15/459)، وروي عن أبي زكريا السلماسي قوله: «أما أبو حنيفة فله في الدين المراتب الشريفة، والمناصب المنيفة، سراج في الظلمة وهّاج، وبحر بالحكم عجَّاج، سيد الفقهاء في عصره، ورأس العلماء في مصره، له البيان في علم الشرع والدين، والحظ الوافر من الورع المتين، والإشارات الدقيقة في حقيقة اليقين، مهد ببيانه قواعد الإسلام، وأحكم بتبيانه شرائع الحلال والحرام، وصار قدوة الأئمة الأعلام، سبق الكافة منهم إلى تقرير القياس والكلام، وغدا إماماً تعقد عليه الخناصر، ويشير إليه الأكابر والأصاغر، انتشر مذهبه في الآفاق، وعُدّ من الأفراد بالاتفاق، فضله وافر، ودينه ثابت، وعَلَمُه في مراده للمجد ثابت، اسمه النعمان وأبوه ثابت« ينظر: منازل الأئمة الأربعة للسلماسي، ص: (161-162).
ختاماً: رحم الله الإمام الأعظم والفقيه الأكبر أبو حنيفة النعمان، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خير الجزاء، والحمد لله رب العالمين.
الدكتور ناصر بن عيسى بن أحمد البلوشي (أستاذ جامعي وباحث أكاديمي بجامعة زايد)