على مر التاريخ، شكّل الإسناد الطبي العسكري عاملاً حاسماً في تحديد مصير المعارك ونتائج الحروب، فمنذ أن أسست الإمبراطورية الرومانية أول مستشفى ميداني منظم (الفاليتوديناريوم Valetudinarium) في القرن الثاني الميلادي، وصولاً إلى التطور الثوري الذي صاحب الحرب الأهلية الأمريكية التي شهدت تأسيس أول نظام طبي عسكري متكامل، وانتهاءً بالإنجازات التاريخية في الحربين العالميتين، انخفضت معدلات الوفيات بين الجرحى بشكل غير مسبوق بفضل الإخلاء السريع والرعاية الجراحية المتقدمة.

في وقتنا الحاضر، أصبحت الخدمات الطبية عاملاً استراتيجياً مهماً لا يقتصر على الدعم اللوجستي، بل يهدف إلى حماية الكفاءات البشرية، وتأهيل أكبر عدد من المقاتلين للعودة إلى ميدان المعركة في أقصر وقت. وفي الحروب المستقبلية، سواء كانت تقليدية أو غير تقليدية، ستبقى هذه الخدمات ركيزة للصمود العسكري ومقياساً لإنسانية الأمم وتقدمها.
في هذا السياق، تبرز مسألة قيادة الوحدات الطبية العسكرية كتحدٍ بارز، فالبحث عن نموذج القيادة الأمثل – الذي يحقق الغايات المطلوبة بأقل التكاليف الممكنة دون المساس بالمستوى العلمي والمهني للكوادر الطبية – ليس مجرد مسألة إدارية، بل هو بحث عن أفضل استغلال للموارد البشرية وبحث عن الاستثمار الأنفع للفاعلية القتالية والجاهزية المستدامة.
انفتاح الوحدة الطبية الميدانية
تُعدّ الوحدات الطبية الميدانية جزءاً أساسياً من منظومة الإسناد القتالي، إذ تنفتح بالقرب من الخطوط الأمامية لتقديم الرعاية الصحية العاجلة، وتنفيذ عمليات الإخلاء الطبي. وتشترك هذه الوحدات في العديد من الخصائص الميدانية مع الوحدات القتالية الأخرى كوحدات المشاة أو المدفعية، خاصة فيما يتعلق بعملية اختيار الموقع الملائم للانفتاح. فكما تحرص وحدات المشاة والمدفعية على اختيار مواقع تضمن الحماية، وسهولة الإمداد، وسرعة الانتشار والانفتاح في منطقة العمليات شاملاً التحميل والتنزيل والتركيب والفك للمنشآت الميدانية المتحركة، فإن الوحدات الطبية تراعي هذه العوامل ذاتها مع إضافة متطلبات خاصة بطبيعة عملها الإنساني والإسنادي.
عادة ما يتم انفتاح الوحدات الطبية الرئيسية كالسرايا الطبية الميدانية في المناطق الإدارية (اللوجستية) للتشكيلات الميدانية، ويُشترط في موقع الوحدة الطبية الميدانية المنتخب أن يكون أقرب ما يمكن من طرق المواصلات الرئيسية لتسهيل حركة سيارات الإسعاف وعمليات الإخلاء إلى المستشفيات الخلفية، كما يُفضّل أن يكون بعيداً نسبياً عن مناطق القصف المباشر لضمان سلامة الكادر والمصابين. ومن النقاط المشتركة مع الوحدات الميدانية الأخرى أيضاً تأمين الموقع من الأخطار المعادية، وسهولة وصول الإمدادات الطبية واللوجستية، إضافة إلى المرونة في إعادة التموضع عند تغيّر الموقف التكتيكي. وبهذا تمثل الوحدات الطبية الميدانية نموذجاً فريداً يجمع بين الطابع الميداني العسكري والانضباط اللوجستي والإنساني، بما يضمن استمرارية الإسناد الطبي تحت مختلف الظروف العملياتية.
يتضح من الاشتراطات المتقدمة أنها لا تستلزم حصول القادة الميدانيين المسؤولين عن توفير تلك الشروط على درجة علمية في أحد المجالات الطبية، بل على العكس من ذلك، فهي لا تتطلب زيادة على التدريب الميداني للقادة من التخصصات المغايرة للتخصصات الطبية. تسهل هذه النقطة عملية تقبل قيادة الوحدة الطبية الميدانية من قبل ضباط إداريين من خارج التخصصات الطبية.
الطبيب القائد في مقابل الإداري القائد
من المؤكد أن وجود الطبيب القائد في الوحدات الميدانية الأمامية، حيث تكون القرارات الطبية السريعة حاسمة لإنقاذ الأرواح، يضيف ميزة لامتلاكه ميزة الفهم العميق للمخاطر السريرية والقدرة على تقدير الأولويات العلاجية، كما يتمتع بمصداقية عالية لدى الفريق الطبي، لكونه واحداً منهم في الخلفية المهنية والتدريبية. غير أنه في ظل نقص الموارد البشرية المتخصصة وضغط الوقت، تأتي مسألة تحديد الأفضلية بين النموذجين: الطبيب القائد والإداري القائد.
يعاني نموذج الطبيب القائد من تحديات عدة، منها ارتفاع التكلفة المباشرة والضمنية للكوادر الطبية بالمقارنة مع تكلفة الإداريين، إذ يتطلب إعداد الطبيب القائد سنوات طويلة من التعليم والتخصص، كما يُفقد جزءاً من قدراته الإكلينيكية عندما يتم تكليفه بمهام إدارية لصيقة بتكليفه بقيادة وحدة ميدانية. تتصف تلك المهام والمسؤوليات، التي تشمل أوقات السلم لكنها تشتد أثناء العمليات، خاصة في حالة الاشتباكات وكثرة الإصابات، تتصف غالبية تلك المسؤوليات بكونها أقل تعقيداً من دراسة العلوم الطبية والمهارات الميدانية الطبية المطلوبة من الكادر الطبي عموماً، لكنها تتصف في الوقت نفسه بكونها تستغرق وقتاً من الطبيب! ولا ينبغي التغافل عن أهمية دعم الطبيب القائد بضابط أو مساعد إداري يتولى الجوانب اللوجستية والإسناد.
في حين أن نموذج الإداري القائد يوفر إمكانية التخلص من تلك النقاط، شريطة عدم الإخلال بالعائد النوعي الذي يقدمه الطبيب – والكادر الطبي الميداني – من حيث جودة القرارات الطبية، وثقة الفريق، والوقاية من الأخطاء. يرتكز دور القائد الإداري على تحقيق الكفاءة التشغيلية وضبط الموارد، وضمان انسيابية الإمداد والاتصال، وهي عناصر مهمة جداً في بيئة العمليات. يتمكن القائد الإداري من إدارة كافة موارد الوحدة الطبية بكفاءة قد تفوق قدرة القائد الطبيب، كما يستطيع التنسيق بين الطب واللوجستيات (الإمداد الطبي الميداني شاملاً الإمداد بالمواد الطبية والأدوية والتخلص من النفايات الطبية)، كما يكون متوفراً بشكل أكبر لمهام الإشراف على الأداء العام ومتطلبات انفتاح وإعادة انفتاح الوحدة في الميدان ضمن الأطر التنظيمية والعقائدية للقوات المسلحة.
من جهة أخرى، تعتبر التكلفة المالية للعناصر الإدارية أقل بكثير من تكلفة الكوادر الطبية عموماً، كما أن فترات التدريب المطلوبة لتأهيل الإداري لتوليه مهام قيادة الوحدة الطبية أقصر وأقل كلفة وتعقيداً، مما يجعله خياراً مفضلاً من منظور الاستغلال الأفضل للموارد البشرية والمالية. وكما هو معلوم، يستلزم افتقار الإداري القائد لمهارات للطب الميداني والحاجة لاتخاذ قرارات دقيقة تحت ضغط الإصابات أو في حالات الطوارئ الطبية المعقدة تزويد العدد الملائم من الأطباء المسخرين لتقديم الإسناد الطبي وما يتطلبه من مستلزمات علاجية أو إنقاذ الأرواح فقط. تنبني على ما تقدم ضرورة تمكين الإداري القائد لقيادة الأطباء باحترام وكفاءة وتذليل كافة العقبات التي تعترض تقديم العلاج والرعاية الصحية في السلم والعمليات.
تجدر الإشارة إلى أن بعض الدول تلجأ لأسلوب هجين بتكليف القادة الأطباء بقيادة الوحدات الأمامية ذات الطبيعة القتالية المتقلبة، التي يكون فيها الطبيب القائد هو الأنسب لقيادة الفرق الطبية بسبب سرعة القرار وخبرته السريرية الميدانية، كما في التجربتين الأمريكية والإسرائيلية، أما في المستشفيات العسكرية الثابتة ومراكز القيادة والإسناد، فعمل القائد الإداري إلى جانب رئيس أطباء أو مستشار طبي يحقق الموازنة بين البعد الإداري والسريري.

متطلبات إعداد الإداري لقيادة الوحدات الطبية الميدانية
علاوة على تأهيله في المجالات العسكرية العامة (شاملة كافة متطلبات الانفتاح في الميدان ومهام حماية القود والشؤون اللوجستية العامة وغيرها)، يعتمد نجاح نموذج الإداري القائد إذا تم تبنّيه على ضرورة تدريب القائد وتأهيليه في مجالات متعددة، أهمها:
1. فهم اللغة الطبية والأساسيات الإكلينيكية لضمان تواصله الفاعل مع الكادر الطبي الذي يعمل تحت قيادته.
2. استيعاب أخلاقيات الطب العسكري ومبادئ الفرز لتصنيف المصابين أو المرضى حسب درجة خطورة حالتهم وأولوية تلقيهم للعلاج.
3. إتقان لوجستيات الإمداد الطبي وإدارة سلسلة التوريد للإمداد بالمواد الطبية والأدوية وإدارة النفايات الطبية في الميدان.
4. القيادة في الأزمات وقدرته على إزالة العوائق الإدارية أمام الفريق الطبي.
5. فهم الثقافة الطبية والعلاقات الهرمية المهنية داخل الفرق العلاجية.
6. التخطيط للطوارئ واستمرارية الأعمال أثناء الأزمات كالجوائح والهجمات الكيماوية والبيولوجية.
7. تفهم عملية التطوير المهني والتخصصي للمهن الطبية المختلفة.
التوصيات
1. دراسة تبنّي نموذج مرن ومشترك للقيادة قائم على متطلبات الوظيفة الفعلية، ليس فقط للوحدات الميدانية بل يمكن توسعته لتغطية كافة المناصب القيادية في المنظومة الطبية العسكرية بالعنصر القيادي الملائم، بحيث إذا تطلب المنصب وجود الطبيب القائد فالمنطق يفرض التقيد به، إما إن كانت هناك امكانية عدم شغل الأطباء، بتولي مهام إدارية أقل من مستوى تحصيلهم العلمي، كما أنه يمكن أن يتم توليتها لقادة إداريين، فالمنطق السليم والمصلحة العامة يستدعيان تبني هذا النهج.
2. تطوير برامج تدريبية مخصصة للقادة الإداريين: في حالة تبني أسلوب الإداري القائد، ينبغي إنشاء برامج تأهيلية للضباط الإداريين لتأهيليهم لقيادة الوحدات الطبية الميدانية لضمان قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة وداعمة للفريق الطبي.
3. تعزيز الشراكة بين الأطباء والإداريين في بيئة القيادة: يجب إرساء ثقافة مؤسسية تشجع التعاون والاحترام المتبادل بين الفئتين، بحيث تُبنى القرارات على التكامل لا التنافس، ويُستفاد من خبرة الطبيب الميدانية ومن كفاءة الإداري التنظيمية ضمن فريق قيادة موحد.
4. تطوير أنظمة القيادة والسيطرة الطبية (Medical C2): دعم إنشاء أنظمة رقمية متكاملة لتنسيق الإخلاء والإمداد والاتصال بين مختلف المستويات القيادية للمنظومة الطبية، بما يرفع كفاءة الأداء ويُقلل الأخطاء الناتجة عن ضعف التواصل أو ازدواجية القرار.
الخاتمة
يتضح أن التحدي في قيادة الوحدات الطبية الميدانية لا يكمن في المفاضلة المطلقة بين الطبيب القائد والإداري القائد، بل في تحقيق التوازن والتكامل بين الكفاءة الطبية والفاعلية الإدارية. فالوحدات الطبية الميدانية تمثل حلقة الوصل بين إنقاذ الأرواح والمحافظة على الجاهزية القتالية، وهي مسؤولية تتطلب قيادة تجمع بين العلم والانضباط والحس الإنساني والدقة التنظيمية.
لواء م/ خالد علي السميطي










