Screenshot 2025-11-28 at 9.46.10 PM

معركة الريدانية.. انتهت بفتح مصر 500 عام للعثمانيين

شهد التاريخ عدة غزوات وحروب، كانت نتائجها حاسمة في تغيير مجراه، وسنتناول على صفحات “الجندي” بعضاً من هذه المعارك الفاصلة.

وقعت معركة الريدانية بين طومان باي (وهو آخر سلاطين المماليك في مصر، وقد حكم من عام 1516 حتى 1517، بعد وفاة السلطان قانصوة الغوري، تولى طومان باي الحكم في فترة حرجة جداً، حيث كانت الدولة المملوكية تواجه تهديداً كبيراً من الدولة العثمانية) والسلطان سليم الأول العثماني، والتي انتهت بهزيمة طومان باي وإعدامه على باب زويلة، وإنهاء حكم المماليك، وبداية السيطرة العثمانية على مصر.

البداية

بعد أن أنهى السلطان سليم فتح الشام، بدأ التقدم باتجاه مصر، لكنه، وقبل التوجه إلى مصر، أرسل السلطان سليم رسولاً إلى الزعيم الجديد للمماليك طومان باي يطلب منه الخضوع له والطاعة للدولة العثمانية، وعرض عليه أن تكون مصر له، بدءاً من غزة، ويكون هو والياً عليها من قبل السلطان العثماني، على أن يرسل له الخراج السنوي لمصر، وحذره من الوقوع فيما وقع فيه سلفه قانصوة الغوري. بدا طومان باي قابلاً للعرض، خصوصاً مع ضياع معظم الجيش في معركة مرج دابق، لكن أتباعه الجراكسة غضبوا وقتلوا الرسل، مجبرين إياه على محاربة العثمانيين.

التوجه إلى مصر

بعد حادثة مقتل الرسل، قرّر السلطان سليم الأول التوجه بجيشه صوب مصر بجيش مقداره مئة وخمسون ألف مقاتل، وصحبة كثير من المدافع، مجتازاً الصحراء مع جيشه، حيث وصل السلطان منطقة العريش بتاريخ 11 يناير 1517 قاطعا صحراء فلسطين. أثناء ذلك، حثَّ طومان باي أصحابه على التجمع لمواجهة العثمانيين هناك، حيث يكون عبور الصحراء قد أنهك العثمانيين واستنفد مياههم، لكنه واجه تخاذل أتباعه واتكالهم على الدفاعات الحصينة في الريدانية، لدرجة أن بعضهم كان يبقى في المعسكر نهاراً ليكون أمام طومان باي، ثم يرجع ليلاً إلى بيته في القاهرة، وقد نزلت الأمطار على أماكن سير الحملة، مما يسّر على الجيش العثماني قطع الصحراء الناعمة الرمال، وذلك بعد أن جعلتها الأمطار الغزيرة متماسكة، الأمر الذي سهل اجتيازها. وصل السلطان سليم الأول منطقة الصالحية مع جيشه بعد عبوره الصحراء بخمسة أيام.

تعرض الجيش العثماني إلى غارات البدو أثناء اجتيازه للصحراء، حيث كان السلطان المملوكي يحث البدو على ذلك، ويدفع مقابل كل رأس تركي وزنه ذهباً، الأمر الذي أدى إلى تواتر غارات البدو، لدرجة أن الوزير الأعظم خشي حدوث معركة كبيرة كادت تودي بحياته هو الآخر.

المعركة

جمع طومان باي 90 ألف جندي نصفهم من أهالي مصر والنصف الآخر من العسكر المماليك، وقد استقدم 200 مدفع مع مدفعين من الفرنجة، ووضعها في الريدانية، والهدف منها هو مباغتة الجيش العثماني عند مروره والانقضاض عليه، وحُفرت الخنادق وأقيمت الدشم لمئة مدفع، وكذلك الحواجز المضادة للخيول، على غرار ما فعله سليم الأول في معركة مرج دابق، ولكن استخبارات العثمانيين تمكنت من اكتشاف خطة الجيش المصري، حيث تمكن والي حلب المملوكي خاير بك، والذي دخل بخدمة العثمانيين، من تأمين خيانة صديقه القديم جان بردي الغزالي، والذي كان على خلاف مع السلطان طومان باي، وهو الذي أشار على السلطان سليم الالتفاف على جيش المماليك. وقد علم طومان باي بالخيانة، بعد فوات الأوان، وتردد بمعاقبته، خوفاً من أن يدب الخلل في صفوف الجند.

قام السلطان العثماني بعملية تمويهية بعد اكتشافه للخطة المصرية، بأن أظهر نفسه سائراً نحو العادلية، على الطريق للريدانية، ولكنه التف وبسرعة حول جبل المقطم، ورمى بكل ثقله على المماليك بالريدانية من الخلف، وكانت تلك حيلة جان بردي الغزالي الذي أبلغ خاير بك ذلك، فوقعت المواجهة بتاريخ 22 يناير 1517.

ما قاله ابن إياس

يقول ابن إياس بكتابه (بدائع الزهور في وقائع الدهور): وصلت طلائع عسكر ابن عثمان عند بركة (الحاج) بضواحي القاهرة، فاضطربت أحوال العسكر المصرية، وأغلق باب الفتوح وباب النصر وباب الشعرية وباب البحر.. وأغلقت الأسواق، وزعق النفير، وصار السلطان طومان باي راكبا بنفسه وهو يرتب الأمراء على قدر منازلهم، ونادى للعسكر بالخروج للقتال، وأقبل جند ابن عثمان كالجراد المنتشر، فتلاقى الجيشان في أوائل الريدانية، فكان بين الفريقين معركة مهولة وقتل من العثمانية ما لا يحصى عددهم. ويستطرد ابن إياس فيقول: (ثم دبت الحياة في العثمانية، فقتلوا من عسكر مصر ما لا يحصى عددهم).

استمرت المعركة الضارية بين العثمانيين والمماليك ما بين 7-8 ساعات، وانتهت بهزيمة المماليك، وفقد العثمانيون خيرة الرجال، منهم سنان باشا الخادم، وقد قتل بيد طومان باي الذي قاد مجموعة فدائية بنفسه، واقتحم معسكر سليم الأول وقبض على وزيره وقتله بيده، ظناً منه أنه سليم الأول. وأيضاً فقد من القادة العثمانيين وأمراء الجيش بسبب الشجاعة المنقطعة للمماليك، ولكنهم لم يستطيعوا مواجهة الجيش العثماني لمدة طويلة، فقد خسر المماليك حوالي 25 ألف قتيل بفضل مدفعية العثمانيين، واستخدامهم المكثف للبنادق، وفرَّ طومان باي من المعركة، ودخل العثمانيون العاصمة المصرية، وقد استغرق منهم الكثير من الوقت والرجال حتى استكملوا سيطرتهم بالكامل على القاهرة.

المكان الجغرافي

الريدانية (القاهرة) هي مكان بجوار الصحراء، ينسب لريدان الصقلي ابن عم جوهر الصقلي من العصر الفاطمي. ومكانه الحالي حي العباسية، وجزء من الوايلي الصغير، وجزء من حي مصر الجديدة.

أسباب هزيمة المماليك

يرجع الفضل للنصر للعثمانيين على المماليك بعقر دارهم، مع أن المماليك رجال حرب وشجعان إلى الأسباب التالية:

تحول ولاءات بعض قادة المماليك إلى السلطان سليم، كـخاير بكوجان بردي الغزالي الذي أعطى معلومات مهمة جداً لخطط المماليك للعثمانيين فكوفئ بحكم دمشق.

تفوق العثمانيين في الأسلحة الحديثة والمدافع والخطط الحربية:

اعتمد الأتراك على الأسلحة النارية، على عكس المماليك الذين ظل اعتمادهم على السيف والرمح، ومن الطريف أن المماليك عرفوا الأسلحة النارية قبل العثمانيينبمقدار 60 عاماً، ولكنهم لم يستغلوا تلك المعرفة، بحكم أن ذلك يتطلب تعديلاً جذرياً بتنظيم الجيش وأساليبه القتالية، مما يحوله إلى جيش مشاة، ويلغي الفروسية والسهم والسيف والخيل.

سلاح المدفعية العثماني يعتمد على مدافع خفيفة، يمكن تحريكها بجميع الاتجاهات، على عكس المدفعية المملوكية، والتي تعتمد على مدافع ضخمة لا تتحرك. وهذا مما حيَّد مدافع المماليك عند التفاف العثمانيين عليهم بتلك المعركة.

نتائج معركة الريدانية

سقوط الدولة المملوكية بعد قرابة 267 عاماً من الحكم.

ضم مصر والشام والحجاز إلى الدولة العثمانية، لتصبح القاهرة ولاية عثمانية.

انتقال الخلافة الإسلامية، بعد سنوات قليلة، سلّم آخر الخلفاء العباسيين (المقيمين في القاهرة تحت حماية المماليك) راية الخلافة إلى السلطان سليم الأول في إسطنبول.

تغيير موازين القوى، أصبحت الدولة العثمانية أكبر قوة إسلامية، وواجهت البرتغاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

الآثار الاقتصادية: خضعت طرق التجارة المصرية للإدارة العثمانية، وتواصل تراجع دور مصر في التجارة العالمية بسبب سيطرة البرتغاليين على طريق رأس الرجاء الصالح.

الآثار الاجتماعية، دخلت مصر مرحلة جديدة من الحكم المركزي العثماني، حيث تولى الوالي العثماني إدارة البلاد، وأصبح المماليك طبقة إقطاعية محلية تابعة.

دلالات تاريخية وحضارية

المعركة أبرزت دور التكنولوجيا العسكرية (المدافع والأسلحة النارية) في حسم الصراعات، وهو ما افتقده المماليك الذين اعتمدوا على الفروسية التقليدية.

أظهرت تحولات موازين القوى، من دول محلية إلى إمبراطوريات عابرة للقارات.

أكدت أن ضعف الداخل (الانقسام والفساد) يجعل أي دولة عرضة للسقوط مهما بلغت قوتها السابقة.

مثلت بداية دخول مصر في أربعة قرون من الحكم العثماني، ما أثر في بنيتها السياسية والاجتماعية.

الخاتمة

لم تكن معركة الريدانية مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت فاصلاً تاريخياً غيّر وجه المنطقة. فقد أنهت عهد المماليك، ورسخت هيمنة العثمانيين، ونقلت مركز الخلافة إلى إسطنبول، وأدخلت مصر في مرحلة جديدة من تاريخها. ورغم مرور أكثر من خمسة قرون على هذه الأحداث، فإن دلالاتها لا تزال حاضرة، فهي تذكّرنا بأهمية الوحدة الداخلية، وضرورة مواكبة التطور العسكري والسياسي، حتى لا تتكرر مآسي التفكك والانقسام.

وبهذا، تبقى الريدانية درساً عميقاً في التاريخ الإسلامي، وحدثاً مفصلياً أعاد تشكيل ملامح العالم العربي والإسلامي لقرون طويلة.

إعداد: نادر نايف محمد

Youtube
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض