أجرى الجيش الأمريكي مؤخراً تجربة ناجحة لنظام صاروخي جديد فرط صوتي بعيد المدى (LRHW)، الملقب باسم «النسر الأسود»، في إشارة إلى سرعته وقدرته على التخفي وقوته الفائقة، فقد تم تصميم هذا النظام للتغلب على دفاعات الخصوم، بسرعة تتجاوز الـ 5 ماخ، وهو ما أثار العديد من التساؤلات بشأن ماهية وقدرات هذا النظام الجديد، لا سيما في ظل التنافس الدولي الحاد في مجال الصواريخ الفرط صوتية، ومدى قدرة هذا النظام على التغلب على قدرات منع الوصول/ منع الدخول «الصينية»، ومن ثم الانعكاسات المحتملة له على توازنات القوى الدولية، لا سيما في منطقة الإندوباسيفك.

ماهية نظام «النسر الأسود»
في إطار التحركات الأمريكية لتعزيز استراتيجيتها الدفاعية، أجرى الجيش الأمريكي، في 12 ديسمبر 2024، تجربة ناجحة لنظامه الصارخي الفرط صوتي بعيد المدى (LRHW)، في محطة «كيب كانافيرال» لقوة الفضاء بفلوريدا، والتي تعد واحدة من أهم مراكز العمليات الجوية والاختبارات العسكرية في الولايات المتحدة، حيث تم رصد ناقلة ضخمة، مثبتة على شاحنة تكتيكية من طراز (M983)، كانت تضم الصاروخ الجديد (LRHW)، والذي ظل لعدة سنوات مصدر إحباط لدى الجيش الأمريكي، بعدما بقي هذا الصاروخ متوقفاً عن العمل خلال عام 2023، وتعثرت محاولات إطلاقه بشكل متكرر، الأمر الذي فسره الجيش الأمريكي آنذاك بوجود مشكلات هندسية ميكانيكية في منصة الإطلاق التي تنتجها شركة «لوكهيد مارتن». لذا، شكلت التجربة الناجحة للصاروخ، في ديسمبر الماضي، تطوراً مهماً، لا سيما بعدما ربطت بعض التقارير الغربية التعثرات المرتبطة بهذا النظام الصاروخي بتخلف الولايات المتحدة عن المنافسة الدولية في مجال الصواريخ الفرط صوتية. بالتالي، جاءت هذه التجربة لتثبت أن برنامج الإطلاق الأرضي الأسرع من الصوت في الولايات المتحدة قد تغلب أخيراً على التحديات التي عطلته خلال السنوات الأخيرة، لتشكل أول تجربة إطلاق لنظام (LRHW)، حيث تم دمج منصة الإطلاق المتنقلة ومركز عمليات البطاريات في إطار نظام تشغيلي متكامل.
وبعد أشهر قليلة، أطلق الجيش الأمريكي، في 24 أبريل 2025، اسم «النسر الأسود» على النظام الصاروخي الجديد، في دلالة مهمة تتعلق برمزية هذا الاسم، لتجسيد مدى قدرة النظام الصاروخي الجديد في مواجهة خصوم الولايات المتحدة، وكمؤشر واضح على سرعة الصاروخ وقدرته على التخفي. ويشكل هذا الصاروخ تقدماً تكنولوجياً مهماً، في ظل قدرته على الوصول لسرعات تتجاوز 5 ماخ (خمسة أضعاف سرعة الصوت)، ما يجعل إمكانية اعتراضه بواسطة أنظمة الدفاع الصاروخي التقليدية شبه مستحيلة. وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم «فرط صوتي» يشير إلى السرعة التي تتجاوز خمسة أضعاف سرعة الصوت.
وقد تم تطوير هذا النظام من خلال تعاون بين «مكتب القدرات السريعة والتقنيات الحيوية» في الجيش الأمريكي، وبرنامج «الأنظمة الاستراتيجية في البحرية الأمريكية»، وذلك بغية توفير سلاح يمكن نشره بشكل سريع براً وبحراً. ويستهدف الجيش الأمريكي استخدام نظام «النسر الأسود» كنظام إطلاق أرضي متحرك، بمدى يصل لحوالي 1725 ميلاً، وسرعة قصوى قد تصل لـ 17 ماخ. وعلى الرغم من هذا النطاق المعلن للنظام الصاروخي الجديد، أعلن الجيش الأمريكي أن الاختبار الشامل الذي جرى مؤخراً للصاروخ الجديد شهد تغطية الصاروخ لحوالي 2000 ميل، بدايةً من موقع إطلاقه في هاواي، وصولاً لنقطة اصطدامه في جزر مارشال. وعلى غرار بقية الصواريخ الفرط صوتية، بإمكان النظام الصاروخي الأمريكي الجديد أن يحلق حتى حافة الغلاف الجوي للأرض، ليتجاوز بذلك نطاق أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي.
وبالتالي، يعد نظام «النسر الأسود» تكاملاً معقداً من ثلاثة عناصر رئيسية، تتمثل في جسم الانزلاق الأسرع من الصوت (C-HGB)، والصاروخ الذي يحمله، والمعدات الأرضية المتنقلة، والتي تسمح بإطلاقه من أي مكان. لكن تمثل (C-HGB) المكون الجوهري والقوة الفاعلة الرئيسية، والتي تعمل كرأس حربي مقذوف بطاقة حركية، وهو نتاج عقود من الأبحاث الأمريكية في مجال الطيران الفرط صوتي، إذ يمكن إرجاعه إلى تجربة «مركبة سانديا المجنحة ذات الطاقة العالية لإعادة الدخول إلى الغلاف الجوي»، في ثمانينيات القرن الماضي، وكذا لبرنامج «الأسلحة الأسرع من الصوت المتقدم»، التابع للجيش الأمريكي، والذي بدأ بإجراء اختبارات في العقد الثاني من القرن الحالي. لكنه ظل يواجه تحديات تقنية هائلة طوال السنوات الماضية. ويعد (C-HGB) برنامجاً مشتركاً، حيث تم تصميمه من خلال البحرية الأمريكية ومختبرات سانديا الوطنية، بينما تمت عملية تصنيع النماذج الأولية من خلال شركة (Dynetics)، التابعة لشركة (Leidos). كذا، ينطوي نظام «النسر الأسود» على معزز صاروخي ثنائي المراحل، تم تطويره من قبل شركتي «لوكهيد مارتن» و»نورثروب غرومان»، وقد تم تصميم هذا النظام لحمل صواريخ (C-HGB)، وبمجرد انطلاقه، تنفصل الأخيرة عن معزز التسارع، ليبدأ في الانزلاق عالي السرعة نحو الهدف، محتفظاً بسرعات تتجاوز الـ 5 ماخ أثناء المناورة، ما يجعل من الصعب اعتراضه من قبل أنظمة الدفاع الجوي الحالية. ويتضمن كل نظام صاروخي أربعة قاذفات، يمكنها إطلاق ما يصل لثمانية صواريخ لكل بطارية.

نظام النسر الأسود والمركبات الانزلاقية الفرط صوتية
هناك فئتان رئيسيتان من الأسلحة الحديثة التي تفوق سرعة الصوت، تتمثل الأولى في فئة «المركبات الانزلاقية المعززة الأسرع من الصوت»، وهي الفئة الوحيدة التي يعتقد أنها دخلت الخدمة فعلياً لدى بعض الدول، أما الفئة الثانية فتتمثل في «صواريخ كروز الأسرع من الصوت»، والتي تشير العديد من التقديرات إلى أنه لا يزال يجري تطوير العديد منها من قبل القوى الدولية الكبرى، لا سيما روسيا، لكن على الأغلب لم يدخل أي منها الخدمة حتى الآن.
ويمثل نظام «النسر الأسود» إحدى فئات الأسلحة المعروفة باسم «مركبات الانزلاق المعززة الأسرع من الصوت»، وهي التقنية التي تعمل على إعادة هيكلة ديناميكيات الضربات الجوية بعيدة المدى، فقد تم تصميمها بحيث تكون غير قابلة للتنبؤ، ومن ثم يصعب مواجهتها. فعلى عكس الصواريخ الباليستية التقليدية، التي تتبع قوساً مكافئاً عالياً عبر فراغ الفضاء، فإن «مركبة الانزلاق المعززة الأسرع من الصوت» تتبع مساراً جوياً أكثر تسطحاً. يبدأ من خلال إطلاق معزز صاروخي ضخم، يعمل بالوقود الصلب، على مرحلتين، تؤدي إلى تعزيز سرعة الصاروخ بحيث تتجاوز 5 ماخ، أو حوالي 3800 ميل في الساعة، ويدفعه إلى الطبقات العليا من الغلاف الجوي. وعند الوصول إلى ارتفاع وسرعة محدد، ينفصل معزز السرعة ويتم إطلاق الحمولة نحو الهدف، وهي عبارة عن مركبة إسفينية الشكل غير مزودة بمحرك. وبفضل الشكل الانسيابي وأسطح التحكم التي يزود بها هذا الجسم، فإنه يجري مناورات جوية مهمة أثناء عملية الانزلاق، كما يمكنه القيام بانعطافات غير متوقعة وتغييرات متعددة في الارتفاع، مع الحفاظ على سرعات هائلة. وبفضل هذه السرعة الفائقة ومسار الطيران غير المنتظم، فإن اعتراض هذه الصواريخ يبدو مستحيلاً من قبل أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الحالية.
وعلى غرار نظام «النسر الأسود» الأمريكي، تمتلك روسيا والصين أيضاً أنظمة صاروخية من فئة «المركبات الانزلاقية الأسرع من الصوت»، على غرار نظام (DF-ZF) الصيني، الذي يُحمل عبر صاروخ «DF-17» الباليستي متوسط المدى، وكذا نظام (Avangard HGV) النووي الروسي، والذي يطلق عبر أحدث صاروخ باليستي عابر للقارات في موسكو، وهو صاروخ «Sarmat RS-28».
ويعد إحدى أبرز مميزات نظام «النسر الأسود» هو قدرته على الحركة والنقل، حيث يتم إطلاق هذا الصاروخ من منصة (TEL)، وهي منصة ضخمة متحركة، تتكون من مقطورة (M870A4) معدلة، يتم سحبها عن طريق شاحنة (Oshkosh M983 Heavy Expanded Mobility Tactical Truck). وتشكل قدرة النظام الصاروخي الجديد على الحركة ميزة جوهرية، حيث يمكن إعادة نشرها بشكل سريع، مما يزيد من صعوبة استهدافها.
تنافس دولي متزايد لتطوير الصواريخ الفرط صوتية
تم تصميم النظام الصاروخي «النسر الأسود» الأمريكي للعمل في سيناريوهات استراتيجية، تتماشى مع حالة التنافس الدولي الراهن، في محاولةٍ لتعزيز قدرة الولايات المتحدة على الاستجابة السريعة للتهديدات وبدقة عالية. ومن خلال هذا النظام الجديد تسعى واشنطن إلى محاولة الحفاظ على تفوقها التكنولوجي في مواجهة تنامي قدرات خصومها الرئيسيين، لا سيما الصين وروسيا، في ظل استثمار الأخيرتين بكثافة في الأسلحة الفرط صوتية خلال السنوات الأخيرة.
وتعود جذور النظام الصاروخي الجديد، الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة مؤخراً، إلى بداية العقد الأول من القرن الحالي، من خلال مبادرة «الضربة العالمية السريعة التقليدية» (CPGS)، التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية، والذي استهدف تطوير القدرات الأمريكية على ضرب أهداف حيوية في أي مكان في العالم خلال ساعة واحدة، وذلك باستخدام رأس حربي تقليدي، وقد انبثق عن هذه المبادرة برنامج الجيش الأمريكي للأسلحة الأسرع من الصوت (AHW)، ورغم تعثر محاولات هذا البرنامج في تطوير صواريخ فرط صوتية حتى عام 2018، فقد دفعت التطورات السريعة في هذا المجال، لا سيما مع التقدم اللافت الذي حققته روسيا والصين في هذا المجال، واشنطن في عام 2019 إلى اصدار قانون «تفويض الدفاع الوطني»، والذي أدى إلى تسريع برنامج (AHW)، حيث تم وضع جدول زمني صارم ينص على النجاح في تطوير النظام الصاروخي الفرط صوتي بحلول نهاية عام 2023، غير أن تعثر التجارب التي جرت خلال هذه الفترة أدت إلى تأخير الإعلان الرسمي عن تطوير هذا النظام الجديد.
تجدر الإشارة إلى أن نظام «النسر الأسود» واجه سلسلة من التحديات خلال الاختبارات الأولية، بدايةً من أعطال المعززات، وكذا المشكلات المرتبطة بمنصة الإطلاق، التي طورتها شركة «لوكهيد مارتن»، وقد بدت معظم المشكلات مرتبطة بأنظمة الدعم، وليس بصاروخ (C-HGB). وقد كان من المفترض نشر برنامج «النسر الأسود» في عام 2023، لكنه واجه العديد من النكسات الفنية التي أدت لتأخر نشره لقرابة العامين. كذا، واجهت القوات الجوية الأمريكية تحديات أخرى في تطوير واختبار مركبات انزلاقية فرط صوتية أخرى، على غرار (ARRW) و(AGM-183A)، ولا تزال هذه الأنظمة قيد التطوير ويبدو مستقبلها أكثر غموضاً في ظل التحديات التي لا تزال تواجه اختباراتها المطولة.
وبالتالي، جاء الاهتمام الأمريكي المتزايد بتطوير نظام «النسر الأسود» استجابةً مباشرةً للتحولات اللافتة في المشهد الاستراتيجي العالمي، في ظل التقدم الذي أحرزته القوى المنافسة للولايات المتحدة، خاصةً روسيا والصين. فقد أعلنت موسكو وبكين عن تطويرهما لصواريخ فرط صوتية عملياتية، فقد نشرت الصين صاروخ (DF-17) المتنقل والمزود بأسلحة تقليدية، كما عمدت بكين إلى تطوير صاروخ (DF-27)، بمدى أبعد. كذا، أعلنت روسيا عن تطويرها لصواريخ «أفانغارد» عالية الدقة، وصواريخ «كينزال» و»تسيركون».
في المقابل، باتت الولايات المتحدة، التي لطالما كانت المهيمن المطلق على تكنولوجيا الفضاء والصواريخ، تجد نفسها تكافح لسد هذه الفجوة مع خصومها، وهو ما أثار العديد من التساؤلات بشأن ما إذا كانت واشنطن قد تخلفت عن المبادرة في هذا المجال الحيوي. وقد نظرت الولايات المتحدة لهذه القدرات المتطورة التي حققتها روسيا والصين باعتبارها تهديداً لها ولحلفائها. لذا، يشكل نظام «النسر الأسود» محاولات حاسمة لاستعادة قوة الردع الأمريكية.
وقد عمدت بعض التقارير الغربية إلى مقارنة صاروخ «النسر الأسود» الأمريكي، بصاروخ «أفنجارد» الروسي، وصاروخ (DF-17) الصيني، فرغم أن هذه الصواريخ جميعهاً تصنف باعتبارها صواريخ فرط صوتية، بيد أن هذه الأنظمة الصاروخية تبدو مصممة لأغراض استراتيجية متباينة، فبينما يعد نظام «أفانغارد» الروسي سلاحأً نووياً استراتيجياً، يتكون من مركبة ثقيلة مسلحة نووياً، تطلق من خلال صواريخ باليستية عابرة للقارات مثبتة، بسرعة تصل لـ 20 ماخ، يستهدف بالأساس ضمان اختراق الدفاعات للخصوم وتعزيز قدرة موسكو النووية على الردع. في المقابل، يبدو صاروخ (DF-17) الصيني منافساً رئيسياً لصاروخ «النسر الأسود» الأمريكي، فكلاهما يعد نظاماً صاروخياً متنقلاً، ومزودان بأسلحة تقليدية، ورغم ذلك تبقى هناك اختلافات جوهرية بينهما، فالصاروخ الصيني مصمم بالأساس لاستهداف السفن وحاملات الطائرات، ويشكل مكوناً جوهرياً في استراتجية (A2/AD) الصينية، بمدى يتراوح بين (1118 – 1553) ميلاً، وسرعة تصل لـ 5-10 ماخ. بينما تبدو أهداف الصاروخ الأمريكي أكثر اتساعاً وأكثر تركيزاً على البنية التحتية المحصنة والثابتة، بنطاق يصل لـ 1725 ميلاً، وسرعة قصوى قد تصل لـ 17 ماخ. بالتالي، مقارنةً بروسيا والصين، لا تزال الولايات المتحدة متأخرة من حيث ترسانتها التشغيلية الأسرع من الصوت، وبينما تركز الأنظمة الروسية على القدرات النووية لتعزيز قدرتها على الردع، تستهدف الأنظمة الصينية الأسرع من الصوت التركيز على الهيمنة الإقليمية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، في المقابل، تركز المقاربة الأمريكية على الضربات الدقيقة التقليدية، ما يعني الحاجة لدقة أعلى تعوض غياب الرؤوس النووية.
نظام «النسر الأسود» وقدرات منع الوصول/ منع الدخول الصينية
تسعى الولايات المتحدة من خلال تطويرها لنظام «النسر الأسود» تعزيز قدرتها على اختراق الدفاعات المتقدمة للخصوم، لا سيما استراتيجية منع الوصول/ منع الدخول (A2/AD) الصينية. حيث تستهدف هذه الاستراتيجية، التي طورتها بكين، إنشاء منطقة منيعة، عبر استخدام شبكة مكثفة من أجهزة الاستشعار بعيدة المدى والدفاعات الجوية لمنع القوات الأمريكية من العمل بالقرب من البر الصيني. لذا تعول الولايات المتحدة على نظام «النسر الأسود» لاختراق الدفاعات الصينية وتقويض استراتيجية (A2/AD)، وذلك من خلال توظيف سرعة النظام الصاروخي الأمريكي الجديد وقدرته الفائقة على المناورة، والتي قد تمكنه من اختراق الدفاعات الصينية واستهداف المكونات الحيوية لاستراتيجية منع الوصول/ منع الدخول. وبالتالي، من خلال تطويرها لنظام «النسر الأسود» تستطيع الولايات المتحدة شن ضربة ثانية تستهدف المنشآت العسكرية الصينية الحيوية التي تتمتع بحماية كبيرة. فحال اندلاع أي مواجهات بين واشنطن وبكين، ستضطر الولايات المتحدة إلى الاحتفاظ بحاملات طائراتها في نطاق خارج أنظمة (A2/AD)، كما تستطيع الصين إلحاق إضرار جسيمة بالقواعد الجوية الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن مع جاهزية نظام «النسر الأسود»، ومن خلال تمركزه خارج نطاق أنظمة (A2/AD) الصينية، تشير التقارير الغربية إلى إمكانية استخدام واشنطن لهذا النظام الصاروخي الجديد بشكل فعال ضد شبكة أنظمة الدفاع الصينية.
لكن في المقابل، تمكنت الصين من تعزيز قدراتها في مجال الطيران الأسرع من الصوت، بدايةً من صاروخها الباليستي متوسط المدى (DF-17)، المزود بمركبة انزلاقية تفوق سرعة الصوت، والذي تم تشغيله منذ عام 2020، مروراً بنظام (DF-27)، الذي يتميز بمدى أطول يمتد من 5000 – 8000 كيلومتر، ما يمنح بكين مدى استراتيجياً نووياً أو تقليدياً، كما أنه قادر على تهديد هاواي وجوام، بل وأجزاء من ألاسكا، وكذا صواريخ (DF-21D) و(DF-26) ذات القدرة المزدوجة، وصاروخ (YJ-21) الذي تم إطلاقه عام 2022، والذي عزز قدرة الضربات الصينية المضادة للسفن، وصولاً لنظام القصف المداري الجزئي (FOBS)، الذي كشف عن قدرة بكين على الدورات حول العالم وضرب الأهداف من اتجاهات غير متوقعة. ومع التوجهات الصينية الحثيثة لدمج قدرات الذكاء الاصطناعي، يتوقع أن يعزز ذلك من قدرة الأسلحة الصينية الأسرع من الصوت، باعتبارها ركيزة أساسية لاستراتيجيتها الخاصة بمنع الوصول / منع الدخول، الأمر الذي ربما يشكل تحدياً كبيراً بالنسبة للنظام الأمريكي الجديد «النسر الأسود»
نظام «النسر الأسود» وتوازنات القوى في منطقة الإندوباسيفيك
جاء إعلان الولايات المتحدة عن تطويرها لنظامها الصاروخي الجديد بالتزامن مع تطلعات الجيش الأمريكي لنشر أسلحة تفوق سرعتها سرعة الصوت قادرة على تجاوز الدفاعات الجوية المتقدمة ومواجهة استراتيجة الصين «منع الوصول / منع الدخول» في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي هذا السياق، أعلنت الولايات المتحدة نشر صاروخها الجديد الفرط صوتي «النسر الأسود» في أستراليا، للمشاركة في التدريبات العسكرية المشتركة (Talisman Sabre) لعام 2025، وهو ما اعتبرته بعض التقارير الآسيوية محاولة من قبل واشنطن لتشديد الطوق الصاروخي حول الصين، وتوظيف المدى الأسرع من الصوت لردع الخطوط الأمامية لبكين، وإعادة تشكيل ديناميكيات الردع في مواجهة الصين في منطقة الإندوباسيفيك. وتشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة تخطط لنشر نسخة من صاروخ «النسر الأسود» على متن غواصاتها من فئة «فرجينيا»، ومدمراتها من فئة «زوموالت»، وذلك بحلول عام 2028، في محاولة لتعزيز بنية الضربات بعيدة المدى التي يتبناها البنتاغون في منطقة الإندوباسيفيك، وهو ما يتماشي مع تكتيكات «إطلاق النار والانطلاق»، والتي تشكل أدوات فعالة لتعزيز الردع دون تكبد تكاليف دبلوماسية نتيجةً للتمركز الدائم، حيث يساعد نظام «النسر الأسود» على تعزيز وجود أمريكي متقدم ومستدام في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع التكيف مع متطلبات هذه المنطقة القابلة للتصعيد.
من ناحية أخرى، تعمل الأسلحة الفرط صوتية على إعادة هيكلة قواعد الردع، وضغط الجدول الزمني لاتخاذ قرارات سريعة من قبل الخصوم، كما جعلت هذه الأسلحة شبكات الدفاع الصاروخي التقليدية عتيقة بدرجة كبيرة، بسبب عدم قدرة هذه الشبكات على مواجهتها. إذ بمقدور هذه الأنظمة التهرب من تتبع الرادار، واختراق أكثر الدروع الصاروخية تطوراً، فضلاً عن القدرة على ضرب اهداف الخصوم بشكل سريع.
ومن هذا المنطلق، سيكون لدمج الأسلحة الأسرع من الصوت في الترسانات البحرية انعكاسات مهمة على مستقبل الحروب البحرية، لا سيما في منطقة المحيطين الهندي الهادئ، التي تشكل الساحة الرئيسية لأي مواجهة محتملة بين الولايات المتحدة والصين، فقد دشنت هذه الأنظمة عصراً جديداً من المنافسة البحرية، حيث تسود السرعة والدقة والمفاجأة على مسارات هذه الحروب، وتحدي أنظمة الدفاع التقليدية، وإجبار القوى الدولية على إعادة النظر في استراتيجياتها البحرية. مع ذلك، كشفت بعض التقارير الغربية عن مخاطر استراتيجية ربما تفرزها الطبيعة التقليدية وغموض الرأس الحربي للنظام الصاروخي «النسر الأسود»، فالخصم الذي سيكتشف إطلاق هذا الصاروخ لن يكون لديه الوقت الكافي والقدرة على التحديد الدقيق بشأن ما إذا كان الرأس الحربي الذي يحمله الصاروخ تقليدياً أم نووياً، الأمر الذي قد يدفع الخصم نحو رد نووي على هجوم أمريكي تقليدي، ومن ثم زيادة خطر التصعيد النووي.
من ناحية أخرى، يشكل نظام «النسر الأسود» إشكالية أخرى بالنسبة للجيش الأمريكي، حيث يعد هذا النظام من أغلى الذخائر التقليدية في الترسانة الأمريكية، فقد بلغ إجمالي ميزانية الجيش لبرنامج هذا الصاروخ في عام 2025 حالي 1.3 مليار دولار، كما ارتفعت التكلفة المقدرة لإطلاق أول نموذج أولي لبطارية صاروخ «النسر الأسود» من 2.54 مليار دولار في يناير 2024، إلى حوالي 2.69 مليار دولار في يناير 2025، ما يعني ارتفاعاً كبيراً لهذا الصاروخ مقارنة بالصواريخ المشابهة له، فعلى سبيل المثال تبلغ تكلفة الصاروخ الباليستي من طراز «Trident II D5»، الذي يطلق من الغواصات، حوالي 31 مليون دولار. وتثير التكلفة المرتفعة لهذا النظام العديد من التساؤلات بشأن مدى قدرة الولايات المتحدة على نشر صواريخ فرط صوتية بأعداد كافية لردع الخصوم.
في الختام، أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن القدرات المتنامية لروسيا والصين في مجال الأسلحة فرط الصوتية يثير الكثير من الارهاصات بشأن فاعلية الردع الأمريكي الموسع، ورغم مساعي الولايات المتحدة لاستعادة التوزان من خلال تزويد ترسانتها الخاصة بخيارات الضربات الدقيقة الأسرع من الصوت، بيد أن التأخير في تطوير هذه القدرات ربما يعمل على ترسيخ الميزة التنافسية لموسكو وبكين، ما قد يجعل واشنطن قوة رد فعل في مجال كانت تهيمن عليه سابقاً. ولا تقتصر المخاطر على البعد العسكري فقط، لكنها تتضمن أيضاً الأبعاد الجيوسياسية، فالطرف الذي سيتمكن من حسم المنافسة في مجال القدرات الفرط صوتية، سيحظى بمصداقية الردع والهيمنة خلال السنوات المقبلة، ما قد يفضي إلى إعادة تشكيل موازين القوى العالمية.
عدنان موسى
مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة










