يشهد الفكر العسكري العالمي، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تحوّلاً عميقاً يُعيد رسم معايير التفوّق والردع. فلم تعد القوة العسكرية تُقاس فقط بمدى امتلاك الدول لأحدث المنظومات التكنولوجية أو بحجم موازناتها الدفاعية، بل باتت تُقاس بقدرتها على تحقيق «الكفاءة العملياتية المستدامة»؛ أي الجمع بين الفاعلية والتكلفة المقبولة والقدرة على الاستمرار في بيئات صراعٍ معقّدة ومتغيّرة. وفي هذا الإطار، برزت ظاهرة التقنيات منخفضة التكلفة كإحدى أهم المقاربات المبتكرة في الاقتصاد الدفاعي المعاصر. فهي لا تمثل مجرّد خيارٍ مرحلي لتخفيف الأعباء المالية، بل تعبّر عن فلسفة استراتيجية متكاملة تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين التكنولوجيا والاقتصاد، وبين الجودة والكم، وبين الذكاء الصناعي والمرونة اللوجستية داخل المنظومات الدفاعية.
لقد نشأت هذه الفلسفة في سياق أزمةٍ هيكلية مزمنة عرفها العالم الصناعي منذ عقود، أُطلق عليها اسم «تأثير المقص» (Scissor Effect)، أي اتساع الفجوة بين الارتفاع المستمر في تكاليف منظومات التسليح من جهة، وثبات أو بطء نمو الموازنات الدفاعية من جهة أخرى. وقد نبّه إلى هذه المعضلة المديرُ السابق لشركة لوكهيد مارتن نورمان أوغستين في ثمانينيات القرن الماضي، حين حذّر من أنّ استمرار هذا الاتجاه سيقود حتماً إلى مرحلةٍ تصبح فيها كلفة إنتاج مقاتلةٍ واحدة كافية لاستنزاف ميزانية الدفاع بأكملها.

وبالفعل، تجسّد هذا السيناريو خلال العقدين الأخيرين بصورة واضحة؛ إذ تجاوزت بعض البرامج الدفاعية العملاقة، مثل المقاتلة F-35، حاجز التريليون دولار، لتُصبح كلفة الوحدة الواحدة منها توازي ميزانية دولة صغيرة. وأمام هذا الواقع المقلق، بدأ يتزعزع الافتراض التاريخي الذي ربط التفوّق العسكري بالتفوّق التكنولوجي البحت. فقد كشفت النزاعات الحديثة وعلى رأسها الحرب الأوكرانية حدود هذا التصوّر، عندما واجهت المنظومات الغربية المتقدمة أسلحة منخفضة الكلفة ومرنة التشغيل تمكّنت من تقويض فاعليتها الميدانية وفرض معادلات جديدة للقوة.
وهكذا، لم تعد المسألة تتعلق بامتلاك التقنية الأحدث، بل بامتلاك القدرة على المواءمة بين الكفاءة الاقتصادية والجاهزية العملياتية، وهو ما يجعل من التقنيات منخفضة التكلفة ليس فقط خياراً مالياً عقلانياً، بل تحوّلاً استراتيجياً يعيد صياغة فلسفة الحرب الحديثة وطرق إدارتها.
ومن جهةٍ أخرى، قدّمت دول مثل تركيا وروسيا نموذجاً بديلاً يقوم على الكمّ والمرونة والتصنيع المحلي وتوظيف التقنيات منخفضة الكلفة. هذا النموذج لا يستند فقط إلى ضروراتٍ مالية أو ضغوطٍ ناجمة عن العقوبات، بل إلى رؤية استراتيجية تعتبر العدد والمرونة والقدرة على الاستبدال السريع عناصر حاسمة في استدامة العمليات العسكرية. فبدلاً من تراكم الأنظمة الباهظة قليلة العدد، تستثمر هذه الدول في منظوماتٍ يمكن إنتاجها على نطاقٍ واسع وتكييفها بسرعة مع المتغيرات الميدانية، مستفيدةً من التقاطع بين القطاعين المدني والعسكري، ومن مكتسبات الثورة الصناعية الرابعة في مجالات الطباعة ثلاثية الأبعاد، البرمجيات والمكونات التجارية الجاهزة (Commercial off-the-shelf)، والذكاء الاصطناعي منخفض الكلفة.
إنّ هذا التحوّل لا يقتصر على بُعدٍ تقني أو صناعي فحسب، بل يمتد إلى بُعدٍ فلسفي أعمق يعيد تعريف مفهوم «القيمة الدفاعية». فإذا كانت العقيدة العسكرية التقليدية ترى أن «الأفضل» يعني «الأغلى» و«الأعقد»، فإن العقيدة الجديدة تؤكد أن «الأفضل» هو ما يحقق الغاية المرجوّة بأقل الموارد الممكنة، دون الإخلال بالأمن العملياتي أو الكفاءة القتالية. ومن ثمّ، يغدو الاقتصاد الدفاعي الحديث بحثاً دائماً عن التوازن الديناميكي بين التكنولوجيا المتقدمة والقدرات المرنة، بين «القوة المكلفة» و«القوة الاقتصادية».
في ضوء ذلك، تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف الخلفية الفلسفية والمقاربات العملية للتقنيات منخفضة التكلفة في مجال الدفاع، مع تحليل التحديات التي تواجه تطبيقها، واستشراف الآفاق المستقبلية التي تتيحها.

الفلسفة والمقاربات
تقوم الفلسفة الجوهرية للتقنيات منخفضة التكلفة على مبدأ إعادة هندسة العلاقة بين الكلفة والوظيفة دون المساس بجوهر القدرة القتالية. فالمسألة ليست في إنتاج «سلاح رخيص»، بل في إنتاج «سلاح كفؤ» يعيد النظر في كيفية توزيع الموارد والجهد التقني عبر دورة حياة المنتج. وتقوم هذه الفلسفة على أربع ركائز متكاملة: الكفاءة في التكاليف، اقتصاديات الحجم، الابتكار البخيل، والتبسيط الهيكلي.
1. الكفاءة في التكاليف
يعني ذلك حذف العمليات غير المضافة للقيمة وتقصير دورات الإنتاج والتدريب والصيانة. على سبيل المثال، سمحت أنظمة المحاكاة الحديثة، مثل محاكي طيران CH-47F، بتقليص ساعات تدريب الطيارين بنسبة 40 %، ما وفر ملايين الدولارات مع الحفاظ على مستوى الكفاءة. تتبنّى هذه المقاربة منطق «الهندسة الرشيقة» (Lean Engineering) المأخوذ من الصناعة المدنية، والذي يهدف إلى تقليص الهدر الزمني والمادي عبر التبسيط والإنتاج المتسلسل.
2. اقتصاديات الكم
كلما زاد كم الإنتاج انخفضت كلفة الوحدة الواحدة. هذه القاعدة التي حكمت الصناعات المدنية لعقود بدأت تجد طريقها إلى التصنيع العسكري. فشركة AeroVironment الأمريكية، المنتجة لطائرات Switchblade المسيّرة، تعتمد نموذج إنتاج متسلسل يحقق وفورات كبيرة عند التصنيع بكميات كبيرة، مع الحفاظ على قابلية التعديل وفق متطلبات العميل.
3. الابتكار المقتصد
تقوم هذه المقاربة على تصميم منتجات تؤدي الوظائف الأساسية دون إضافات مكلفة. المقاتلة التركية بدون طيار Bayraktar TB2 مثال نموذجي؛ فهي تستخدم مكونات مدنية جاهزة وتكنولوجيا بسيطة نسبياً، لكنها أثبتت فاعلية عالية في أوكرانيا وليبيا وأذربيجان. الفكرة ليست في التفوق التقني المطلق، بل في تحقيق «تكافؤ وظيفي» بتكلفة أقلّ وبمرونة أكبر.
4. التبسيط وإعادة الهيكلة
تتحول المنظومات الدفاعية من نماذج مغلقة عالية التخصيص إلى أنظمة معيارية قابلة للتوسيع والتحديث. هذا المبدأ، الذي يُعرف باسم «التصميم المعياري المفتوح» Modular Open Systems Architecture، يمكّن من بناء منصات يمكن تحديثها ببرمجيات أو وحدات جديدة دون الحاجة إلى إعادة تطوير النظام بأكمله. المثال الفرنسي في فرقاطات Gowind يوضح هذه المقاربة، إذ يمكن تجهيز السفينة بوحدات مختلفة حسب المهام المطلوبة (مضادة للغواصات أو للدفاع الجوي)، ما يقلل التكاليف ويزيد فرص التصدير.
إلى جانب هذه الركائز التقنية، يرتبط نجاح المقاربة منخفضة الكلفة بقدرة الصناعة الدفاعية على الانفتاح على الاقتصاد المدني. فمفهوم «الابتكار المفتوح» (Open Innovation) يتيح دمج الجامعات والشركات الناشئة في عملية التطوير، مما يُخفض النفقات ويُسرّع الابتكار. مثال ذلك ما فعلته شركة Leonardo الإيطالية عبر إنشاء مختبراتها Leonardo Labs، التي تعمل على دمج أبحاث الذكاء الاصطناعي المدنية في التطبيقات الدفاعية، أو برنامج Action PME الفرنسي الذي دعم شركات صغيرة لتطوير طائرات استطلاع منخفضة الكلفة مثل (NX-70) بالتعاون مع وزارة الدفاع.

من المقاربات الحديثة أيضاً «التصميم الافتراضي» والهندسة الرقمية (Digital Twin) ، فقد مكّن هذا النهج من تقليص الزمن بين التصميم والإنتاج بنسبة تتجاوز 40 % في بعض المشاريع. المثال البارز هو XQ-58A Valkyrie الأمريكية، التي انتقلت من مرحلة «التعاقد» إلى «الاستلام والتشغيل» في غضون عامين ونصف فقط، بفضل اعتمادها على النمذجة الافتراضية والبرمجيات التجارية الجاهزة. وهكذا يصبح «الزمن» نفسه عنصراً اقتصادياً يُحسب ضمن الكلفة الكلية.
هذه الفلسفة تُحدث ما يمكن تسميته بـ«التحول المزدوج»: على المستوى الصناعي، تكسر احتكار الشركات العملاقة وتفتح المجال أمام شركات ناشئة أكثر مرونة؛ وعلى المستوى المفاهيمي، تُعيد تعريف «القيمة الدفاعية» بناءً على الجدوى التشغيلية والمرونة وليس فقط على التعقيد التكنولوجي.
إنّ تطبيق هذه المقاربات في البيئة العسكرية يستلزم موازنة دقيقة بين وفورات التكلفة والحفاظ على الجاهزية، إذ يُعدّ الدفاع مجالاً بالغ الحساسية لا يحتمل الإخفاق. ومن ثمّ، فإن نقل مناهج خفض التكاليف من القطاع المدني إلى المجال العسكري يقتضي إحداث تحوّلٍ جوهري في الثقافة المؤسسية، وفي الأطر التنظيمية التي تحكم عمليات الشراء والإنتاج، بما يضمن تحقيق الكفاءة دون المساس بمتطلبات الأمان والاستعداد القتالي. وسنُفصّل ذلك في السطور القادمة.
التحديات والآفاق
رغم وضوح المزايا الاقتصادية لهذه الفلسفة، إلا أن تطبيقها العملي يواجه مجموعة من التحديات التقنية والتنظيمية والثقافية. يمكن تصنيفها إلى أربعة محاور أساسية: الصيانة والاعتمادية، سلاسل التوريد، الفجوات العملياتية، والعوائق المعيارية.
1. الصيانة والاعتمادية
كثيراً ما تتحول المدخرات قصيرة الأمد إلى تكاليف مؤجلة، عندما تُهمَل اعتبارات دورة الحياة الكاملة للمنظومات. فالتقليل المفرط من المكونات أو استخدام مواد غير مصممة للاستخدام العسكري قد يؤدي إلى أعطال متكررة أو ضعف في الأداء الميداني. لذا يجب تبنّي منهج «الكفاءة عبر دورة الحياة» (Life-Cycle Efficiency) الذي ينظر إلى الكلفة الشاملة وليس إلى سعر الشراء فقط.
2. هشاشة سلاسل التوريد
الاعتماد المتزايد على البرمجيات والمكونات المدنية الجاهزة (COTS) يخلق هشاشة استراتيجية في حال توقّف خطوط إنتاج أو تغير المواصفات. الحرب في أوكرانيا كشفت أن نقص شرائح إلكترونية بسيطة يمكن أن يوقف إنتاج أسلحة معقدة. لذا توصي مراكز التفكير الدفاعي بإنشاء احتياطات صناعية وطنية وتطوير سياسات تصنيع محلي للمكونات الحساسة.
3. الفجوات العملياتية والإدراكية
تفضيل الكلفة على الأداء قد يؤدي إلى «تآكل المتطلبات» (Requirement Creep)، أي تنازل تدريجي عن معايير الأداء. كما أن الصورة النمطية السلبية عن «الرخص» تضعف قبول هذه الأنظمة في المؤسسات العسكرية التي تساوي عادة بين «الغالي» و»الجيد». تجاوز هذا التحدي يتطلب إصلاحاً في الثقافة التنظيمية وتعزيزاً للتقييم القائم على الفاعلية الفعلية لا على الانطباع.
4. العوائق التنظيمية والمعيارية
المعايير الصارمة التي تفرضها مؤسسات مثل الناتو أو هيئات الطيران المدني تزيد أحياناً من التكلفة دون مبرر عملياتي. لذا اتجهت بعض الدول، مثل فرنسا عبر خطة Impulsion، إلى مراجعة المتطلبات التنظيمية لتسهيل دخول الشركات الصغيرة، مع الإبقاء على الحد الأدنى من معايير السلامة.
في المقابل، تفتح هذه المقاربة آفاقاً استراتيجية واسعة لإعادة هندسة «اقتصاد الدفاع». فالتكامل بين الأنظمة المتقدمة والأنظمة منخفضة الكلفة يُعيد التوازن إلى مفاهيم الردع والمرونة. في بيئة تتسم بتعدد التهديدات وتزايد الحروب منخفضة الكثافة، يصبح الجمع بين الطبقة العليا (High-end) والطبقة الدنيا (Low-end) ضرورة لا ترفاً. المثال الأوكراني أبرز هذا التزاوج بوضوح: صواريخ دقيقة غربية تعمل جنباً إلى جنب مع مئات الطائرات والذخائر المحلية منخفضة الكلفة لتحقيق تفوق ميداني مرن.
من الناحية الاقتصادية، يفرض «مبدأ الرد بالمثل الاقتصادي» نفسه: فلا يمكن إنفاق ملايين الدولارات لإسقاط طائرة مسيّرة لا تتجاوز قيمتها بضعة آلاف. وبالتالي، يصبح تطوير دفاعات منخفضة الكلفة ضد التهديدات الرخيصة أحد مرتكزات الأمن الحديث. الحرب باتت اليوم اقتصاداً بقدر ما هي تكنولوجيا؛ والنجاح فيها يتطلب مزيجاً من الفاعلية والسعر المقبول.
إضافة إلى ذلك، يبرز بُعدٌ آخر هو «اقتصاد الحرب»، أي قدرة الدولة على مواصلة الإنتاج والتعويض السريع في حالة صراع ممتد. المنظومات منخفضة الكلفة تُعدّ هنا شبكة أمان صناعية تقلل الضغط على الموارد وتضمن استمرارية الإمداد في حال الحصار أو الانقطاع. هذا ما تسعى إليه دول الاتحاد الأوروبي حالياً عبر مشاريع للتصنيع المشترك وإعادة توطين الصناعات الدفاعية.
أما على الصعيد القانوني، فمسألة «التكنولوجيا المزدوجة» تشكّل تحدياً متزايداً. فالكثير من المكونات المستخدمة في هذه الأنظمة كالمستشعرات أو الشرائح الذكية لها استخدامات مدنية وعسكرية معاً. ويؤدي ضعف الرقابة إلى تسربها أحياناً إلى جهات غير نظامية أو إرهابيين. لذلك يجب وضع أنظمة تتبع ورقابة دقيقة للمكونات عالية الحساسية، وتطوير إطار دولي مشترك للرقابة على تصدير المكونات لا على المنظومات فقط.
الآفاق المستقبلية للتقنيات منخفضة التكلفة في مجال الدفاع واسعة، ويمكن تلخيصها في أربعة مسارات رئيسية:
1. المسار التقني: اعتماد النماذج الرقمية المفتوحة، والذكاء الاصطناعي منخفض الكلفة، والطباعة ثلاثية الأبعاد لتسريع الدورات الإنتاجية وخفض الكلفة الإجمالية.
2. المسار التنظيمي: إعادة تصميم أطر المشتريات الدفاعية لتكون أكثر مرونة وتشاركية، وإدماج الشركات الصغيرة في منظومات الإنتاج الكبرى.
3. المسار الاستراتيجي: بناء مزيج دفاعي يجمع الكم والنوع ويؤمن القدرة على الرد السريع والتعويض الذاتي.
4. المسار الثقافي: نشر ثقافة «الكفاءة لا الكمال» داخل المؤسسات العسكرية، وتبني تقييمات تركز على النتائج لا على الشكل أو السعر.
الخاتمة
إنّ صعود التقنيات منخفضة التكلفة في مجال الدفاع لا يمثل مجرّد ظاهرة اقتصادية عابرة أو توجهاً مؤقتاً لتجاوز أزمة الموازنات، بل هو تحوّل معرفي واستراتيجي عميق يعيد تعريف مفهوم القوة العسكرية ذاته. لقد انتقل العالم من منطق «التفوق المطلق» الذي كان يرتكز على امتلاك أنظمة معقّدة وباهظة، إلى منطق «الكفاءة التكيفية» الذي يوازن بين الكلفة والفعالية والسرعة في الاستجابة. هذه النقلة الفكرية تُبرز أن الذكاء التنظيمي والتخطيط الاقتصادي لم يعودا أقل أهمية من الابتكار التقني الصرف، بل أصبحا شرطين أساسيين لاستدامة القوة في زمن تتسارع فيه دورات الصراع والتكنولوجيا على حد سواء.
لقد كشفت النزاعات الحديثة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، أن الكلفة لم تعد مجرد متغير مالي، بل متغير استراتيجي يحدّد إمكانات الردع، والاستمرار في الحرب، وإدارة الموارد على المدى الطويل. فحين تُجبر الدول الكبرى على إنفاق ملايين الدولارات لاعتراض طائرات مسيّرة لا تتجاوز قيمتها بضعة آلاف، تتعرى حدود النموذج القديم القائم على الهيمنة التقنية الباهظة. بالمقابل، تقدم المقاربة منخفضة التكلفة نموذجاً أكثر واقعية وعدالة في توزيع القوة، إذ تمنح الدول الصغيرة أو المتوسطة قدرةً على تطوير أدوات ردع فعالة، وتعزز من تنافسية الصناعات المحلية، وتدفع الابتكار في اتجاه أكثر انفتاحاً ومرونة.
غير أن نجاح هذه الفلسفة يتوقف على مدى قدرة الدول على إدارة مفارقاتها الداخلية: كيف يمكن خفض الكلفة دون خفض الموثوقية؟ وكيف يمكن تسريع الابتكار دون التضحية بالسلامة التنظيمية؟ وكيف يمكن تحقيق اقتصاد دفاعي فعّال دون فتح الباب أمام الانفلات أو الانتشار غير المنضبط للتكنولوجيا؟ الإجابة تكمن في بناء حوكمة دفاعية ذكية تجمع بين المرونة والانضباط، وتدمج الشركات الصغيرة في بيئة صناعية آمنة، وتعيد تعريف أولويات البحث والتطوير بما يخدم الكفاءة التشغيلية أكثر من استعراض التفوق الرمزي.
في العمق، يشير هذا التحول إلى بداية عصر جديد في التفكير العسكري يُمكن وصفه بـ«عصر الكفاءة الذكية Smart Efficiency Era، حيث تتحول الجيوش من مؤسسات استهلاك تكنولوجي إلى منصات إنتاج ابتكاري قادرة على التحديث الذاتي، وحيث يصبح الذكاء الصناعي والرقمي وسيلة لتقليل التكاليف بقدر ما هو وسيلة لزيادة القدرات. فالحرب المعاصرة لم تعد فقط منافسة في السلاح، بل منافسة في إدارة الموارد والابتكار والوقت.
ختاماً، يمكن القول إن مستقبل الدفاع سيتحدد بقدرة الدول على تحقيق توازن ديناميكي بين التكنولوجيا العالية والكلفة المنخفضة، بين الجودة والكم، وبين التفوق التقني والاستدامة الاقتصادية. في هذا الإطار، لا يكفي أن تمتلك الدولة السلاح الأكثر تطوراً، بل يجب أن تمتلك النظام الصناعي والتنظيمي الأكثر ذكاءً وقدرة على التجديد السريع. تلك هي روح الثورة الدفاعية الجديدة التي يمكن تلخيصها في معادلة بسيطة، ولكن عميقة:
إنّ القوة الحقيقية لا تكمن في امتلاك الأغلى ثمناً، بل في القدرة على إنتاج الأفضل أداءً بسرعةٍ، وبكلفةٍ معقولة وبصورةٍ مستدامة تضمن استمرارية التفوق التشغيلي والعملياتي على المدى البعيد.
الأستاذ الدكتور وائل صالح مستشار بمركز تريندز للبحوث والاستشارات










