A 4444

صعود التقنيات العسكرية منخفضة التكلفة

يشهد‭ ‬الفكر‭ ‬العسكري‭ ‬العالمي،‭ ‬منذ‭ ‬مطلع‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين،‭ ‬تحوّلاً‭ ‬عميقاً‭ ‬يُعيد‭ ‬رسم‭ ‬معايير‭ ‬التفوّق‭ ‬والردع‭. ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬تُقاس‭ ‬فقط‭ ‬بمدى‭ ‬امتلاك‭ ‬الدول‭ ‬لأحدث‭ ‬المنظومات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬أو‭ ‬بحجم‭ ‬موازناتها‭ ‬الدفاعية،‭ ‬بل‭ ‬باتت‭ ‬تُقاس‭ ‬بقدرتها‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬‮«‬الكفاءة‭ ‬العملياتية‭ ‬المستدامة»؛‭ ‬أي‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الفاعلية‭ ‬والتكلفة‭ ‬المقبولة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬بيئات‭ ‬صراعٍ‭ ‬معقّدة‭ ‬ومتغيّرة‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬برزت‭ ‬ظاهرة‭ ‬التقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬كإحدى‭ ‬أهم‭ ‬المقاربات‭ ‬المبتكرة‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الدفاعي‭ ‬المعاصر‭. ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تمثل‭ ‬مجرّد‭ ‬خيارٍ‭ ‬مرحلي‭ ‬لتخفيف‭ ‬الأعباء‭ ‬المالية،‭ ‬بل‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬فلسفة‭ ‬استراتيجية‭ ‬متكاملة‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تعريف‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬وبين‭ ‬الجودة‭ ‬والكم،‭ ‬وبين‭ ‬الذكاء‭ ‬الصناعي‭ ‬والمرونة‭ ‬اللوجستية‭ ‬داخل‭ ‬المنظومات‭ ‬الدفاعية‭.‬

لقد‭ ‬نشأت‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬أزمةٍ‭ ‬هيكلية‭ ‬مزمنة‭ ‬عرفها‭ ‬العالم‭ ‬الصناعي‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬أُطلق‭ ‬عليها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬تأثير‭ ‬المقص‮»‬‭ (‬Scissor Effect‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬اتساع‭ ‬الفجوة‭ ‬بين‭ ‬الارتفاع‭ ‬المستمر‭ ‬في‭ ‬تكاليف‭ ‬منظومات‭ ‬التسليح‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وثبات‭ ‬أو‭ ‬بطء‭ ‬نمو‭ ‬الموازنات‭ ‬الدفاعية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬وقد‭ ‬نبّه‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة‭ ‬المديرُ‭ ‬السابق‭ ‬لشركة‭ ‬لوكهيد‭ ‬مارتن‭ ‬نورمان‭ ‬أوغستين‭ ‬في‭ ‬ثمانينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬حين‭ ‬حذّر‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬استمرار‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬سيقود‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬مرحلةٍ‭ ‬تصبح‭ ‬فيها‭ ‬كلفة‭ ‬إنتاج‭ ‬مقاتلةٍ‭ ‬واحدة‭ ‬كافية‭ ‬لاستنزاف‭ ‬ميزانية‭ ‬الدفاع‭ ‬بأكملها‭.‬

وبالفعل،‭ ‬تجسّد‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬خلال‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬بصورة‭ ‬واضحة؛‭ ‬إذ‭ ‬تجاوزت‭ ‬بعض‭ ‬البرامج‭ ‬الدفاعية‭ ‬العملاقة،‭ ‬مثل‭ ‬المقاتلة‭ ‬F-35،‭ ‬حاجز‭ ‬التريليون‭ ‬دولار،‭ ‬لتُصبح‭ ‬كلفة‭ ‬الوحدة‭ ‬الواحدة‭ ‬منها‭ ‬توازي‭ ‬ميزانية‭ ‬دولة‭ ‬صغيرة‭. ‬وأمام‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬المقلق،‭ ‬بدأ‭ ‬يتزعزع‭ ‬الافتراض‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬ربط‭ ‬التفوّق‭ ‬العسكري‭ ‬بالتفوّق‭ ‬التكنولوجي‭ ‬البحت‭. ‬فقد‭ ‬كشفت‭ ‬النزاعات‭ ‬الحديثة‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الحرب‭ ‬الأوكرانية‭ ‬حدود‭ ‬هذا‭ ‬التصوّر،‭ ‬عندما‭ ‬واجهت‭ ‬المنظومات‭ ‬الغربية‭ ‬المتقدمة‭ ‬أسلحة‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬ومرنة‭ ‬التشغيل‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬تقويض‭ ‬فاعليتها‭ ‬الميدانية‭ ‬وفرض‭ ‬معادلات‭ ‬جديدة‭ ‬للقوة‭.‬

وهكذا،‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬المسألة‭ ‬تتعلق‭ ‬بامتلاك‭ ‬التقنية‭ ‬الأحدث،‭ ‬بل‭ ‬بامتلاك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المواءمة‭ ‬بين‭ ‬الكفاءة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والجاهزية‭ ‬العملياتية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬التقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬خياراً‭ ‬مالياً‭ ‬عقلانياً،‭ ‬بل‭ ‬تحوّلاً‭ ‬استراتيجياً‭ ‬يعيد‭ ‬صياغة‭ ‬فلسفة‭ ‬الحرب‭ ‬الحديثة‭ ‬وطرق‭ ‬إدارتها‭.‬

ومن‭ ‬جهةٍ‭ ‬أخرى،‭ ‬قدّمت‭ ‬دول‭ ‬مثل‭ ‬تركيا‭ ‬وروسيا‭ ‬نموذجاً‭ ‬بديلاً‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬الكمّ‭ ‬والمرونة‭ ‬والتصنيع‭ ‬المحلي‭ ‬وتوظيف‭ ‬التقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭. ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬لا‭ ‬يستند‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬ضروراتٍ‭ ‬مالية‭ ‬أو‭ ‬ضغوطٍ‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬العقوبات،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬استراتيجية‭ ‬تعتبر‭ ‬العدد‭ ‬والمرونة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الاستبدال‭ ‬السريع‭ ‬عناصر‭ ‬حاسمة‭ ‬في‭ ‬استدامة‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭. ‬فبدلاً‭ ‬من‭ ‬تراكم‭ ‬الأنظمة‭ ‬الباهظة‭ ‬قليلة‭ ‬العدد،‭ ‬تستثمر‭ ‬هذه‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬منظوماتٍ‭ ‬يمكن‭ ‬إنتاجها‭ ‬على‭ ‬نطاقٍ‭ ‬واسع‭ ‬وتكييفها‭ ‬بسرعة‭ ‬مع‭ ‬المتغيرات‭ ‬الميدانية،‭ ‬مستفيدةً‭ ‬من‭ ‬التقاطع‭ ‬بين‭ ‬القطاعين‭ ‬المدني‭ ‬والعسكري،‭ ‬ومن‭ ‬مكتسبات‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الرابعة‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الطباعة‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد،‭ ‬البرمجيات‭ ‬والمكونات‭ ‬التجارية‭ ‬الجاهزة‭ (‬Commercial off-the-shelf‭)‬،‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬منخفض‭ ‬الكلفة‭.‬

إنّ‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬بُعدٍ‭ ‬تقني‭ ‬أو‭ ‬صناعي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬بُعدٍ‭ ‬فلسفي‭ ‬أعمق‭ ‬يعيد‭ ‬تعريف‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬القيمة‭ ‬الدفاعية‮»‬‭. ‬فإذا‭ ‬كانت‭ ‬العقيدة‭ ‬العسكرية‭ ‬التقليدية‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأفضل‮»‬‭ ‬يعني‭ ‬‮«‬الأغلى‮»‬‭ ‬و«الأعقد‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬العقيدة‭ ‬الجديدة‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الأفضل‮»‬‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يحقق‭ ‬الغاية‭ ‬المرجوّة‭ ‬بأقل‭ ‬الموارد‭ ‬الممكنة،‭ ‬دون‭ ‬الإخلال‭ ‬بالأمن‭ ‬العملياتي‭ ‬أو‭ ‬الكفاءة‭ ‬القتالية‭. ‬ومن‭ ‬ثمّ،‭ ‬يغدو‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الدفاعي‭ ‬الحديث‭ ‬بحثاً‭ ‬دائماً‭ ‬عن‭ ‬التوازن‭ ‬الديناميكي‭ ‬بين‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬المتقدمة‭ ‬والقدرات‭ ‬المرنة،‭ ‬بين‭ ‬‮«‬القوة‭ ‬المكلفة‮»‬‭ ‬و«القوة‭ ‬الاقتصادية‮»‬‭. ‬

في‭ ‬ضوء‭ ‬ذلك،‭ ‬تسعى‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬إلى‭ ‬استكشاف‭ ‬الخلفية‭ ‬الفلسفية‭ ‬والمقاربات‭ ‬العملية‭ ‬للتقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدفاع،‭ ‬مع‭ ‬تحليل‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬تطبيقها،‭ ‬واستشراف‭ ‬الآفاق‭ ‬المستقبلية‭ ‬التي‭ ‬تتيحها‭.‬

الفلسفة‭ ‬والمقاربات

تقوم‭ ‬الفلسفة‭ ‬الجوهرية‭ ‬للتقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬إعادة‭ ‬هندسة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الكلفة‭ ‬والوظيفة‭ ‬دون‭ ‬المساس‭ ‬بجوهر‭ ‬القدرة‭ ‬القتالية‭.‬‭ ‬فالمسألة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬‮«‬سلاح‭ ‬رخيص‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬إنتاج‭ ‬‮«‬سلاح‭ ‬كفؤ‮»‬‭ ‬يعيد‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬توزيع‭ ‬الموارد‭ ‬والجهد‭ ‬التقني‭ ‬عبر‭ ‬دورة‭ ‬حياة‭ ‬المنتج‭. ‬وتقوم‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬على‭ ‬أربع‭ ‬ركائز‭ ‬متكاملة‭: ‬الكفاءة‭ ‬في‭ ‬التكاليف،‭ ‬اقتصاديات‭ ‬الحجم،‭ ‬الابتكار‭ ‬البخيل،‭ ‬والتبسيط‭ ‬الهيكلي‭.‬

1‭. ‬الكفاءة‭ ‬في‭ ‬التكاليف

يعني‭ ‬ذلك‭ ‬حذف‭ ‬العمليات‭ ‬غير‭ ‬المضافة‭ ‬للقيمة‭ ‬وتقصير‭ ‬دورات‭ ‬الإنتاج‭ ‬والتدريب‭ ‬والصيانة‭. ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬سمحت‭ ‬أنظمة‭ ‬المحاكاة‭ ‬الحديثة،‭ ‬مثل‭ ‬محاكي‭ ‬طيران‭ ‬CH-47F،‭ ‬بتقليص‭ ‬ساعات‭ ‬تدريب‭ ‬الطيارين‭ ‬بنسبة‭ ‬40‭ %‬،‭ ‬ما‭ ‬وفر‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الكفاءة‭. ‬تتبنّى‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬منطق‭ ‬‮«‬الهندسة‭ ‬الرشيقة‮»‬‭  (‬Lean Engineering‭) ‬المأخوذ‭ ‬من‭ ‬الصناعة‭ ‬المدنية،‭ ‬والذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تقليص‭ ‬الهدر‭ ‬الزمني‭ ‬والمادي‭ ‬عبر‭ ‬التبسيط‭ ‬والإنتاج‭ ‬المتسلسل‭.‬

2‭. ‬اقتصاديات‭ ‬الكم

كلما‭ ‬زاد‭ ‬كم‭ ‬الإنتاج‭ ‬انخفضت‭ ‬كلفة‭ ‬الوحدة‭ ‬الواحدة‭. ‬هذه‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬الصناعات‭ ‬المدنية‭ ‬لعقود‭ ‬بدأت‭ ‬تجد‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬التصنيع‭ ‬العسكري‭. ‬فشركة‭ ‬AeroVironment‭ ‬الأمريكية،‭ ‬المنتجة‭ ‬لطائرات‭ ‬Switchblade‭ ‬المسيّرة،‭ ‬تعتمد‭ ‬نموذج‭ ‬إنتاج‭ ‬متسلسل‭ ‬يحقق‭ ‬وفورات‭ ‬كبيرة‭ ‬عند‭ ‬التصنيع‭ ‬بكميات‭ ‬كبيرة،‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬قابلية‭ ‬التعديل‭ ‬وفق‭ ‬متطلبات‭ ‬العميل‭.‬

3‭. ‬الابتكار‭ ‬المقتصد

تقوم‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬على‭ ‬تصميم‭ ‬منتجات‭ ‬تؤدي‭ ‬الوظائف‭ ‬الأساسية‭ ‬دون‭ ‬إضافات‭ ‬مكلفة‭. ‬المقاتلة‭ ‬التركية‭ ‬بدون‭ ‬طيار‭ ‬Bayraktar TB2‭ ‬مثال‭ ‬نموذجي؛‭ ‬فهي‭ ‬تستخدم‭ ‬مكونات‭ ‬مدنية‭ ‬جاهزة‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬بسيطة‭ ‬نسبياً،‭ ‬لكنها‭ ‬أثبتت‭ ‬فاعلية‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وليبيا‭ ‬وأذربيجان‭. ‬الفكرة‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬التفوق‭ ‬التقني‭ ‬المطلق،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬‮«‬تكافؤ‭ ‬وظيفي‮»‬‭ ‬بتكلفة‭ ‬أقلّ‭ ‬وبمرونة‭ ‬أكبر‭.‬

4‭. ‬التبسيط‭ ‬وإعادة‭ ‬الهيكلة

تتحول‭ ‬المنظومات‭ ‬الدفاعية‭ ‬من‭ ‬نماذج‭ ‬مغلقة‭ ‬عالية‭ ‬التخصيص‭ ‬إلى‭ ‬أنظمة‭ ‬معيارية‭ ‬قابلة‭ ‬للتوسيع‭ ‬والتحديث‭. ‬هذا‭ ‬المبدأ،‭ ‬الذي‭ ‬يُعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬التصميم‭ ‬المعياري‭ ‬المفتوح‮»‬‭ ‬Modular Open Systems Architecture،‭ ‬يمكّن‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬منصات‭ ‬يمكن‭ ‬تحديثها‭ ‬ببرمجيات‭ ‬أو‭ ‬وحدات‭ ‬جديدة‭ ‬دون‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تطوير‭ ‬النظام‭ ‬بأكمله‭. ‬المثال‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬فرقاطات‭ ‬Gowind‭ ‬يوضح‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة،‭ ‬إذ‭ ‬يمكن‭ ‬تجهيز‭ ‬السفينة‭ ‬بوحدات‭ ‬مختلفة‭ ‬حسب‭ ‬المهام‭ ‬المطلوبة‭ (‬مضادة‭ ‬للغواصات‭ ‬أو‭ ‬للدفاع‭ ‬الجوي‭)‬،‭ ‬ما‭ ‬يقلل‭ ‬التكاليف‭ ‬ويزيد‭ ‬فرص‭ ‬التصدير‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬هذه‭ ‬الركائز‭ ‬التقنية،‭ ‬يرتبط‭ ‬نجاح‭ ‬المقاربة‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬بقدرة‭ ‬الصناعة‭ ‬الدفاعية‭ ‬على‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬المدني‭. ‬فمفهوم‭ ‬‮«‬الابتكار‭ ‬المفتوح‮»‬‭ (‬Open Innovation‭) ‬يتيح‭ ‬دمج‭ ‬الجامعات‭ ‬والشركات‭ ‬الناشئة‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التطوير،‭ ‬مما‭ ‬يُخفض‭ ‬النفقات‭ ‬ويُسرّع‭ ‬الابتكار‭. ‬مثال‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬شركة‭ ‬Leonardo‭ ‬الإيطالية‭ ‬عبر‭ ‬إنشاء‭ ‬مختبراتها‭ ‬Leonardo Labs،‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬دمج‭ ‬أبحاث‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬المدنية‭ ‬في‭ ‬التطبيقات‭ ‬الدفاعية،‭ ‬أو‭ ‬برنامج‭ ‬Action PME‭  ‬الفرنسي‭ ‬الذي‭ ‬دعم‭ ‬شركات‭ ‬صغيرة‭ ‬لتطوير‭ ‬طائرات‭ ‬استطلاع‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬مثل‭  (‬NX-70‭) ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭.‬

من‭ ‬المقاربات‭ ‬الحديثة‭ ‬أيضاً‭ ‬‮«‬التصميم‭ ‬الافتراضي‮»‬‭ ‬والهندسة‭ ‬الرقمية‭ (‬Digital Twin‭) ‬،‭ ‬فقد‭ ‬مكّن‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬من‭ ‬تقليص‭ ‬الزمن‭ ‬بين‭ ‬التصميم‭ ‬والإنتاج‭ ‬بنسبة‭ ‬تتجاوز‭ ‬40‭ % ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المشاريع‭. ‬المثال‭ ‬البارز‭ ‬هو‭ ‬XQ-58A Valkyrie‭ ‬الأمريكية،‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬التعاقد‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬الاستلام‭ ‬والتشغيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬عامين‭ ‬ونصف‭ ‬فقط،‭ ‬بفضل‭ ‬اعتمادها‭ ‬على‭ ‬النمذجة‭ ‬الافتراضية‭ ‬والبرمجيات‭ ‬التجارية‭ ‬الجاهزة‭. ‬وهكذا‭ ‬يصبح‭ ‬‮«‬الزمن‮»‬‭ ‬نفسه‭ ‬عنصراً‭ ‬اقتصادياً‭ ‬يُحسب‭ ‬ضمن‭ ‬الكلفة‭ ‬الكلية‭.‬

هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬تُحدث‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ«التحول‭ ‬المزدوج‮»‬‭: ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الصناعي،‭ ‬تكسر‭ ‬احتكار‭ ‬الشركات‭ ‬العملاقة‭ ‬وتفتح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬شركات‭ ‬ناشئة‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة؛‭ ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬المفاهيمي،‭ ‬تُعيد‭ ‬تعريف‭ ‬‮«‬القيمة‭ ‬الدفاعية‮»‬‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬الجدوى‭ ‬التشغيلية‭ ‬والمرونة‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬التعقيد‭ ‬التكنولوجي‭.‬

إنّ‭ ‬تطبيق‭ ‬هذه‭ ‬المقاربات‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬العسكرية‭ ‬يستلزم‭ ‬موازنة‭ ‬دقيقة‭ ‬بين‭ ‬وفورات‭ ‬التكلفة‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬الجاهزية،‭ ‬إذ‭ ‬يُعدّ‭ ‬الدفاع‭ ‬مجالاً‭ ‬بالغ‭ ‬الحساسية‭ ‬لا‭ ‬يحتمل‭ ‬الإخفاق‭. ‬ومن‭ ‬ثمّ،‭ ‬فإن‭ ‬نقل‭ ‬مناهج‭ ‬خفض‭ ‬التكاليف‭ ‬من‭ ‬القطاع‭ ‬المدني‭ ‬إلى‭ ‬المجال‭ ‬العسكري‭ ‬يقتضي‭ ‬إحداث‭ ‬تحوّلٍ‭ ‬جوهري‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬المؤسسية،‭ ‬وفي‭ ‬الأطر‭ ‬التنظيمية‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬عمليات‭ ‬الشراء‭ ‬والإنتاج،‭ ‬بما‭ ‬يضمن‭ ‬تحقيق‭ ‬الكفاءة‭ ‬دون‭ ‬المساس‭ ‬بمتطلبات‭ ‬الأمان‭ ‬والاستعداد‭ ‬القتالي‭. ‬وسنُفصّل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬السطور‭ ‬القادمة‭.‬

التحديات‭ ‬والآفاق

رغم‭ ‬وضوح‭ ‬المزايا‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لهذه‭ ‬الفلسفة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬تطبيقها‭ ‬العملي‭ ‬يواجه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التحديات‭ ‬التقنية‭ ‬والتنظيمية‭ ‬والثقافية‭. ‬يمكن‭ ‬تصنيفها‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬محاور‭ ‬أساسية‭: ‬الصيانة‭ ‬والاعتمادية،‭ ‬سلاسل‭ ‬التوريد،‭ ‬الفجوات‭ ‬العملياتية،‭ ‬والعوائق‭ ‬المعيارية‭.‬

1‭. ‬الصيانة‭ ‬والاعتمادية

كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تتحول‭ ‬المدخرات‭ ‬قصيرة‭ ‬الأمد‭ ‬إلى‭ ‬تكاليف‭ ‬مؤجلة،‭ ‬عندما‭ ‬تُهمَل‭ ‬اعتبارات‭ ‬دورة‭ ‬الحياة‭ ‬الكاملة‭ ‬للمنظومات‭. ‬فالتقليل‭ ‬المفرط‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬أو‭ ‬استخدام‭ ‬مواد‭ ‬غير‭ ‬مصممة‭ ‬للاستخدام‭ ‬العسكري‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬أعطال‭ ‬متكررة‭ ‬أو‭ ‬ضعف‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬الميداني‭. ‬لذا‭ ‬يجب‭ ‬تبنّي‭ ‬منهج‭ ‬‮«‬الكفاءة‭ ‬عبر‭ ‬دورة‭ ‬الحياة‮»‬‭ (‬Life-Cycle Efficiency‭)  ‬الذي‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الكلفة‭ ‬الشاملة‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬سعر‭ ‬الشراء‭ ‬فقط‭.‬

2‭. ‬هشاشة‭ ‬سلاسل‭ ‬التوريد

الاعتماد‭ ‬المتزايد‭ ‬على‭ ‬البرمجيات‭ ‬والمكونات‭ ‬المدنية‭ ‬الجاهزة‭ (‬COTS‭) ‬يخلق‭ ‬هشاشة‭ ‬استراتيجية‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬توقّف‭ ‬خطوط‭ ‬إنتاج‭ ‬أو‭ ‬تغير‭ ‬المواصفات‭. ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬كشفت‭ ‬أن‭ ‬نقص‭ ‬شرائح‭ ‬إلكترونية‭ ‬بسيطة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوقف‭ ‬إنتاج‭ ‬أسلحة‭ ‬معقدة‭. ‬لذا‭ ‬توصي‭ ‬مراكز‭ ‬التفكير‭ ‬الدفاعي‭ ‬بإنشاء‭ ‬احتياطات‭ ‬صناعية‭ ‬وطنية‭ ‬وتطوير‭ ‬سياسات‭ ‬تصنيع‭ ‬محلي‭ ‬للمكونات‭ ‬الحساسة‭.‬

3‭. ‬الفجوات‭ ‬العملياتية‭ ‬والإدراكية

تفضيل‭ ‬الكلفة‭ ‬على‭ ‬الأداء‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تآكل‭ ‬المتطلبات‮»‬‭ (‬Requirement Creep‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬تنازل‭ ‬تدريجي‭ ‬عن‭ ‬معايير‭ ‬الأداء‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬السلبية‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الرخص‮»‬‭ ‬تضعف‭ ‬قبول‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬تساوي‭ ‬عادة‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الغالي‮»‬‭ ‬و»الجيد‮»‬‭. ‬تجاوز‭ ‬هذا‭ ‬التحدي‭ ‬يتطلب‭ ‬إصلاحاً‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬التنظيمية‭ ‬وتعزيزاً‭ ‬للتقييم‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الفاعلية‭ ‬الفعلية‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الانطباع‭.‬

4‭. ‬العوائق‭ ‬التنظيمية‭ ‬والمعيارية

المعايير‭ ‬الصارمة‭ ‬التي‭ ‬تفرضها‭ ‬مؤسسات‭ ‬مثل‭ ‬الناتو‭ ‬أو‭ ‬هيئات‭ ‬الطيران‭ ‬المدني‭ ‬تزيد‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬التكلفة‭ ‬دون‭ ‬مبرر‭ ‬عملياتي‭. ‬لذا‭ ‬اتجهت‭ ‬بعض‭ ‬الدول،‭ ‬مثل‭ ‬فرنسا‭ ‬عبر‭ ‬خطة‭ ‬Impulsion،‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬المتطلبات‭ ‬التنظيمية‭ ‬لتسهيل‭ ‬دخول‭ ‬الشركات‭ ‬الصغيرة،‭ ‬مع‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬معايير‭ ‬السلامة‭.‬

في‭ ‬المقابل،‭ ‬تفتح‭ ‬هذه‭ ‬المقاربة‭ ‬آفاقاً‭ ‬استراتيجية‭ ‬واسعة‭ ‬لإعادة‭ ‬هندسة‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬الدفاع‮»‬‭. ‬فالتكامل‭ ‬بين‭ ‬الأنظمة‭ ‬المتقدمة‭ ‬والأنظمة‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬يُعيد‭ ‬التوازن‭ ‬إلى‭ ‬مفاهيم‭ ‬الردع‭ ‬والمرونة‭. ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬تتسم‭ ‬بتعدد‭ ‬التهديدات‭ ‬وتزايد‭ ‬الحروب‭ ‬منخفضة‭ ‬الكثافة،‭ ‬يصبح‭ ‬الجمع‭ ‬بين‭ ‬الطبقة‭ ‬العليا‭ (‬High-end‭)  ‬والطبقة‭ ‬الدنيا‭ (‬Low-end‭) ‬ضرورة‭ ‬لا‭ ‬ترفاً‭. ‬المثال‭ ‬الأوكراني‭ ‬أبرز‭ ‬هذا‭ ‬التزاوج‭ ‬بوضوح‭: ‬صواريخ‭ ‬دقيقة‭ ‬غربية‭ ‬تعمل‭ ‬جنباً‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬مئات‭ ‬الطائرات‭ ‬والذخائر‭ ‬المحلية‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬لتحقيق‭ ‬تفوق‭ ‬ميداني‭ ‬مرن‭.‬

من‭ ‬الناحية‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬يفرض‭ ‬‮«‬مبدأ‭ ‬الرد‭ ‬بالمثل‭ ‬الاقتصادي‮»‬‭ ‬نفسه‭: ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬إنفاق‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬لإسقاط‭ ‬طائرة‭ ‬مسيّرة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬قيمتها‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭. ‬وبالتالي،‭ ‬يصبح‭ ‬تطوير‭ ‬دفاعات‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬ضد‭ ‬التهديدات‭ ‬الرخيصة‭ ‬أحد‭ ‬مرتكزات‭ ‬الأمن‭ ‬الحديث‭. ‬الحرب‭ ‬باتت‭ ‬اليوم‭ ‬اقتصاداً‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬تكنولوجيا؛‭ ‬والنجاح‭ ‬فيها‭ ‬يتطلب‭ ‬مزيجاً‭ ‬من‭ ‬الفاعلية‭ ‬والسعر‭ ‬المقبول‭.‬

إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬يبرز‭ ‬بُعدٌ‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬اقتصاد‭ ‬الحرب‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬قدرة‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬الإنتاج‭ ‬والتعويض‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬صراع‭ ‬ممتد‭. ‬المنظومات‭ ‬منخفضة‭ ‬الكلفة‭ ‬تُعدّ‭ ‬هنا‭ ‬شبكة‭ ‬أمان‭ ‬صناعية‭ ‬تقلل‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬الموارد‭ ‬وتضمن‭ ‬استمرارية‭ ‬الإمداد‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬الحصار‭ ‬أو‭ ‬الانقطاع‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬تسعى‭ ‬إليه‭ ‬دول‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬حالياً‭ ‬عبر‭ ‬مشاريع‭ ‬للتصنيع‭ ‬المشترك‭ ‬وإعادة‭ ‬توطين‭ ‬الصناعات‭ ‬الدفاعية‭.‬

أما‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬القانوني،‭ ‬فمسألة‭ ‬‮«‬التكنولوجيا‭ ‬المزدوجة‮»‬‭ ‬تشكّل‭ ‬تحدياً‭ ‬متزايداً‭. ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬المكونات‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأنظمة‭ ‬كالمستشعرات‭ ‬أو‭ ‬الشرائح‭ ‬الذكية‭ ‬لها‭ ‬استخدامات‭ ‬مدنية‭ ‬وعسكرية‭ ‬معاً‭. ‬ويؤدي‭ ‬ضعف‭ ‬الرقابة‭ ‬إلى‭ ‬تسربها‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬جهات‭ ‬غير‭ ‬نظامية‭ ‬أو‭ ‬إرهابيين‭.‬‭ ‬لذلك‭ ‬يجب‭ ‬وضع‭ ‬أنظمة‭ ‬تتبع‭ ‬ورقابة‭ ‬دقيقة‭ ‬للمكونات‭ ‬عالية‭ ‬الحساسية،‭ ‬وتطوير‭ ‬إطار‭ ‬دولي‭ ‬مشترك‭ ‬للرقابة‭ ‬على‭ ‬تصدير‭ ‬المكونات‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬المنظومات‭ ‬فقط‭.‬

الآفاق‭ ‬المستقبلية‭ ‬للتقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدفاع‭ ‬واسعة،‭ ‬ويمكن‭ ‬تلخيصها‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬مسارات‭ ‬رئيسية‭:‬

1‭. ‬المسار‭ ‬التقني‭:‬‭ ‬اعتماد‭ ‬النماذج‭ ‬الرقمية‭ ‬المفتوحة،‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬منخفض‭ ‬الكلفة،‭ ‬والطباعة‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد‭ ‬لتسريع‭ ‬الدورات‭ ‬الإنتاجية‭ ‬وخفض‭ ‬الكلفة‭ ‬الإجمالية‭.‬

2‭. ‬المسار‭ ‬التنظيمي‭:‬‭ ‬إعادة‭ ‬تصميم‭ ‬أطر‭ ‬المشتريات‭ ‬الدفاعية‭ ‬لتكون‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬وتشاركية،‭ ‬وإدماج‭ ‬الشركات‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬منظومات‭ ‬الإنتاج‭ ‬الكبرى‭.‬

3‭. ‬المسار‭ ‬الاستراتيجي‭:‬‭ ‬بناء‭ ‬مزيج‭ ‬دفاعي‭ ‬يجمع‭ ‬الكم‭ ‬والنوع‭ ‬ويؤمن‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الرد‭ ‬السريع‭ ‬والتعويض‭ ‬الذاتي‭.‬

4‭. ‬المسار‭ ‬الثقافي‭:‬‭ ‬نشر‭ ‬ثقافة‭ ‬‮«‬الكفاءة‭ ‬لا‭ ‬الكمال‮»‬‭ ‬داخل‭ ‬المؤسسات‭ ‬العسكرية،‭ ‬وتبني‭ ‬تقييمات‭ ‬تركز‭ ‬على‭ ‬النتائج‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الشكل‭ ‬أو‭ ‬السعر‭.‬

الخاتمة

إنّ‭ ‬صعود‭ ‬التقنيات‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الدفاع‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬مجرّد‭ ‬ظاهرة‭ ‬اقتصادية‭ ‬عابرة‭ ‬أو‭ ‬توجهاً‭ ‬مؤقتاً‭ ‬لتجاوز‭ ‬أزمة‭ ‬الموازنات،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تحوّل‭ ‬معرفي‭ ‬واستراتيجي‭ ‬عميق‭ ‬يعيد‭ ‬تعريف‭ ‬مفهوم‭ ‬القوة‭ ‬العسكرية‭ ‬ذاته‭. ‬لقد‭ ‬انتقل‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬منطق‭ ‬‮«‬التفوق‭ ‬المطلق‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرتكز‭ ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬أنظمة‭ ‬معقّدة‭ ‬وباهظة،‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬‮«‬الكفاءة‭ ‬التكيفية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يوازن‭ ‬بين‭ ‬الكلفة‭ ‬والفعالية‭ ‬والسرعة‭ ‬في‭ ‬الاستجابة‭. ‬هذه‭ ‬النقلة‭ ‬الفكرية‭ ‬تُبرز‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬التنظيمي‭ ‬والتخطيط‭ ‬الاقتصادي‭ ‬لم‭ ‬يعودا‭ ‬أقل‭ ‬أهمية‭ ‬من‭ ‬الابتكار‭ ‬التقني‭ ‬الصرف،‭ ‬بل‭ ‬أصبحا‭ ‬شرطين‭ ‬أساسيين‭ ‬لاستدامة‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬تتسارع‭ ‬فيه‭ ‬دورات‭ ‬الصراع‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

لقد‭ ‬كشفت‭ ‬النزاعات‭ ‬الحديثة،‭ ‬من‭ ‬أوكرانيا‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬أن‭ ‬الكلفة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬مجرد‭ ‬متغير‭ ‬مالي،‭ ‬بل‭ ‬متغير‭ ‬استراتيجي‭ ‬يحدّد‭ ‬إمكانات‭ ‬الردع،‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬وإدارة‭ ‬الموارد‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬الطويل‭. ‬فحين‭ ‬تُجبر‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬إنفاق‭ ‬ملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬لاعتراض‭ ‬طائرات‭ ‬مسيّرة‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬قيمتها‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف،‭ ‬تتعرى‭ ‬حدود‭ ‬النموذج‭ ‬القديم‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬الهيمنة‭ ‬التقنية‭ ‬الباهظة‭. ‬بالمقابل،‭ ‬تقدم‭ ‬المقاربة‭ ‬منخفضة‭ ‬التكلفة‭ ‬نموذجاً‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭ ‬وعدالة‭ ‬في‭ ‬توزيع‭ ‬القوة،‭ ‬إذ‭ ‬تمنح‭ ‬الدول‭ ‬الصغيرة‭ ‬أو‭ ‬المتوسطة‭ ‬قدرةً‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬أدوات‭ ‬ردع‭ ‬فعالة،‭ ‬وتعزز‭ ‬من‭ ‬تنافسية‭ ‬الصناعات‭ ‬المحلية،‭ ‬وتدفع‭ ‬الابتكار‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬أكثر‭ ‬انفتاحاً‭ ‬ومرونة‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬نجاح‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬يتوقف‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬مفارقاتها‭ ‬الداخلية‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬خفض‭ ‬الكلفة‭ ‬دون‭ ‬خفض‭ ‬الموثوقية؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬تسريع‭ ‬الابتكار‭ ‬دون‭ ‬التضحية‭ ‬بالسلامة‭ ‬التنظيمية؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬اقتصاد‭ ‬دفاعي‭ ‬فعّال‭ ‬دون‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬أمام‭ ‬الانفلات‭ ‬أو‭ ‬الانتشار‭ ‬غير‭ ‬المنضبط‭ ‬للتكنولوجيا؟‭ ‬الإجابة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬حوكمة‭ ‬دفاعية‭ ‬ذكية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬المرونة‭ ‬والانضباط،‭ ‬وتدمج‭ ‬الشركات‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬صناعية‭ ‬آمنة،‭ ‬وتعيد‭ ‬تعريف‭ ‬أولويات‭ ‬البحث‭ ‬والتطوير‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬الكفاءة‭ ‬التشغيلية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬استعراض‭ ‬التفوق‭ ‬الرمزي‭.‬

في‭ ‬العمق،‭ ‬يشير‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬بداية‭ ‬عصر‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬العسكري‭ ‬يُمكن‭ ‬وصفه‭ ‬بـ«عصر‭ ‬الكفاءة‭ ‬الذكية‭ ‬Smart Efficiency Era،‭ ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬الجيوش‭ ‬من‭ ‬مؤسسات‭ ‬استهلاك‭ ‬تكنولوجي‭ ‬إلى‭ ‬منصات‭ ‬إنتاج‭ ‬ابتكاري‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التحديث‭ ‬الذاتي،‭ ‬وحيث‭ ‬يصبح‭ ‬الذكاء‭ ‬الصناعي‭ ‬والرقمي‭ ‬وسيلة‭ ‬لتقليل‭ ‬التكاليف‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬وسيلة‭ ‬لزيادة‭ ‬القدرات‭. ‬فالحرب‭ ‬المعاصرة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬فقط‭ ‬منافسة‭ ‬في‭ ‬السلاح،‭ ‬بل‭ ‬منافسة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الموارد‭ ‬والابتكار‭ ‬والوقت‭.‬

ختاماً،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬مستقبل‭ ‬الدفاع‭ ‬سيتحدد‭ ‬بقدرة‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬توازن‭ ‬ديناميكي‭ ‬بين‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬العالية‭ ‬والكلفة‭ ‬المنخفضة،‭ ‬بين‭ ‬الجودة‭ ‬والكم،‭ ‬وبين‭ ‬التفوق‭ ‬التقني‭ ‬والاستدامة‭ ‬الاقتصادية‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الإطار،‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تمتلك‭ ‬الدولة‭ ‬السلاح‭ ‬الأكثر‭ ‬تطوراً،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تمتلك‭ ‬النظام‭ ‬الصناعي‭ ‬والتنظيمي‭ ‬الأكثر‭ ‬ذكاءً‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬التجديد‭ ‬السريع‭. ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬روح‭ ‬الثورة‭ ‬الدفاعية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬تلخيصها‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬بسيطة،‭ ‬ولكن‭ ‬عميقة‭:‬

إنّ‭ ‬القوة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لا‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬امتلاك‭ ‬الأغلى‭ ‬ثمناً،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬الأفضل‭ ‬أداءً‭ ‬بسرعةٍ،‭ ‬وبكلفةٍ‭ ‬معقولة‭ ‬وبصورةٍ‭ ‬مستدامة‭ ‬تضمن‭ ‬استمرارية‭ ‬التفوق‭ ‬التشغيلي‭ ‬والعملياتي‭ ‬على‭ ‬المدى‭ ‬البعيد‭.‬

الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬وائل‭ ‬صالح‭ ‬مستشار‭ ‬بمركز‭ ‬تريندز‭ ‬للبحوث‭ ‬والاستشارات‭

Youtube
WhatsApp
Al Jundi

الرجاء استخدام الوضع العمودي للحصول على أفضل عرض