قامت العديد من شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية بإبرام عقود ضخمة مع وزارة الدفاع الأمريكية، وكذلك نظيرتها الإسرائيلية. وتراجعت شركة ألفابت، المالكة لشركة جوجل، في مطلع 2025، عن وعدها بعدم استخدام الذكاء الاصطناعي لأغراض دفاعية وأمنية، مثل تطوير الأسلحة وأدوات المراقبة، وهو الأمر الذي يثير التساؤل حول أخلاقية وقانونية مثل هذا الإجراء، خاصة وأن هذه الشركات تجمع بيانات المواطنين حول العالم، وتقوم بتوظيفها في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وهو ما يطرح تساؤلاً حول إمكانية انتهاك الخصوصية، وتوظيف البيانات لأغراض عسكرية، أو لأغراض التجسس. وسوف يسعى التحليل إلى رصد تاريخ العلاقة بين شركات التكنولوجيا ووزارة الدفاع الأمريكية، ثم الإشارة إلى أبرز أشكال العلاقة بين الجانبين، وأسباب هذه العلاقة الصاعدة، وأخيراً، التداعيات المترتبة على مثل هذا التعاون، خاصة فيما يتعلق بتأثيره سلباً على الحقوق والحريات، أو حتى ارتكاب جرائم حرب، خاصة إذا ما تسببت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تزايد سقوط الضحايا من المدنيين بدلاً من الحد منها.
يعود نشأة وادي السيليكون إلى وزارة الدفاع الأمريكية، ففي خمسينيات القرن العشرين، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية في الاستثمار في شركات التكنولوجيا في المنطقة، بهدف منافسة التفوق التكنولوجي للاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. وقد جعل ذلك الحكومة الأمريكية أول داعم رئيسي لوادي السيليكون. وفي المقابل، لعبت مقاطعة سانتا كلارا، التي أطلق عليها لأول مرة اسم وادي السيليكون في عام 1971، دوراً حاسماً في إنتاج أسلحة الحرب الباردة، والعديد من الابتكارات المهمة، مثل الرادار والإنترنت، وجميع الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التابعة للبحرية الأمريكية، والجزء الأكبر من أقمارها الاستطلاعية وأنظمة التتبع، ومجموعة واسعة من الإلكترونيات الدقيقة التي أصبحت مكونات أساسية للأسلحة عالية التقنية، مثل المقاتلات. فلم تكن الطائرات مثل المقاتلة التكتيكية «إف – 16» قادرة على الطيران، ناهيك عن الاشتباك، بدون الترانزستورات والدوائر المتكاملة والمعالجات الدقيقة التي جمعت وعالجت بيانات الطيران، وربطت الطائرة بأنظمة القيادة والتحكم والاتصالات الخارجية، ووجهت القنابل والصواريخ «الذكية» إلى أهدافها.
ونتيجة لهذه الشراكة، حقق وادي السيليكون عائدات ضخمة من عقود الدفاع. في عهد الرئيس رونالد ريجان، حصلت مقاطعة سانتا كلارا على ما يقرب من 5 مليارات دولار سنوياً من العقود العسكرية، مما جعلها ثالث أكبر مستفيد من عقود البنتاجون بين الشركات الأمريكية. بحلول نهاية الحرب الباردة، أبلغت أكبر تسع شركات مقاولات عسكرية في المنطقة وحدها عن أكثر من 11 مليار دولار في عقود الدفاع. وكانت شركة «أيه إم دي» (AMD) في عقد التسعينات من القرن العشرين خامس أكبر مورد مباشر للدوائر المتكاملة إلى البنتاجون.
شراكات بصيغ متعددة
تحتفظ وكالات مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومكتب السجون الفيدرالي وإدارة الهجرة والجمارك، ووزارة الدفاع الأمريكية، وإدارة مكافحة المخدرات الأمريكية، بآلاف الصفقات مع شركات «أمازون» و»ديل» و«فيسبوك»، و«جوجل» و«إتش بي» و«آي بي إم». ومنذ عام 2016، أبرمت مايكروسوفت وحدها أكثر من 5000 عقد من الباطن مع وزارة الدفاع. وتأتي شركتا «أمازون» و«جوجل» في المرتبتين التاليتين من حيث الحجم، بحوالي 350 و250 عقداً على التوالي.
ومن الأمثلة على التعاون بين الأجهزة الدفاعية وشركات التكنولوجيا، قيام وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (داربا)، إحدى أقسام وزارة الدفاع، إلى جانب وكالات استخباراتية أمريكية أخرى، في عام 1998، بتقديم تمويل إلى طلاب الدراسات العليا في جامعة ستانفورد، سيرجي برين ولاري بايج، لإنشاء شركة جوجل. ويوضح هذا المثال كيف تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر لتمويل شركات في وادي السيليكون. وكانت أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وتحديداً وكالة الاستخبارات الأمريكية ووكالة الأمن القومي، تأمل أن يتمكن أبرز عالمين من علماء الحاسوب في البلاد من استخدام المعلومات غير السرية وبيانات المستخدمين، ودمجها مع ما سيُعرف لاحقاً بالإنترنت، لبدء إنشاء مشاريع تجارية هادفة للربح تلبي احتياجات الشركات التجارية ومجتمع الاستخبارات، وذلك في إطار مشروع يعرف باسم «أنظمة البيانات الرقمية الضخمة» (Massive Digital Data Systems). وهدف المشروع إلى إرساء أسس نظام شامل للمراقبة الجماعية يجمع بين القطاعين العام والخاص، ويمكن من إيجاد طرق لتتبع الأفراد والجماعات عبر الإنترنت.
وتم تقديم مشروع أنظمة البيانات الرقمية الضخمة إلى عدة عشرات من كبار علماء الحاسوب في جامعات مثل ستانفورد، ومعهد كاليفورنيا للتقنية (CalTech)، ومعهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، وكارنيجي ميلون، وهارفارد، وغيرها، وذلك من خلال «ورقة بيضاء» شرحت ما تأمل وكالة الاستخبارات المركزية، ووكالة الأمن القومي، ووكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة «داربا»، وغيرها من الوكالات في تحقيقه. وكان من المخطط أن يتم تمويل هذا البحث وإدارته بشكل رئيسي من قبل وكالات علمية غير سرية، مثل المؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، مما يتيح إمكانية توسيع هذا المشروع في القطاع الخاص، إذا نجح في تحقيق ما كانت تطمح إليه أجهزة الاستخبارات. وفي ضوء ما سبق، يمكن فهم أسباب توجيه اتهامات إلى شركة جوجل بأنها أنشأت «باباً خلفياً» لأجهزة الاستخبارات الأمريكية للولوج إلى أنظمتها والاطلاع على البيانات الخاصة بالمستخدمين التي تملكها، خاصة بعدما تم الكشف عن أن وكالة الأمن القومي الأمريكية تمكنت من اختراق بيانات المستخدمين لدى جوجل في العام 2013، وفقاً لتسريبات سنودن.
وهناك شكل آخر من التعاون اتخذته العلاقة بين الجانبين، فقد أقدمت أجهزة الاستخبارات على تأسيس بعض شركات التكنولوجيا، ونقل ملكيتها إلى شركات أخرى مستقلة في وداي السيليكون. وعلى سبيل المثال، فإن وكالة الاستخبارات المركزية، قامت بتأسيس «شركة واجهة» لرأس المال الاستثماري التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية في وادي السيليكون، وهي «إن كيو تل» (In-Q- Tel)، والتي قامت بتمويل شركة خاصة ظاهرياً أخرى، تسمى «كيهول كوربوريشين» (Keyhole Corporation)، والتي قامت بتطوير تقنية الخرائط «جوجل إيرث»، والتي تمكن المستخدمين من الوصول إلى مستوى الشارع، مع إضافة طبقات مثل الطرق والجسور والمحطات النووية والمدارس والشركات وغيرها. وقامت «إن كيو تل» (In-Q-Tel) ببيع «كيهول كوربوريشين» إلى شركة جوجل، لتقوم الأخيرة بإطلاق برنامج «جوجل إيرث» بعد عملية الاستحواذ هذه. كما تفاوضت جوجل مؤخراً على اتفاقية مع شركة «جيوآي كوربوريشين» (GeoEye Corporation) للحصول على حق الوصول الحصري إلى الصور من قمرها الصناعي الجديد الذي تبلغ تكلفته 502 مليون دولار، والذي تم بناؤه لتزويد مجتمع الاستخبارات والمستخدمين المدنيين بأعلى دقة للصور الفضائية الملونة التجارية في السوق المفتوحة. كما تم تمويل القمر الصناعي من قبل الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية (NGA) ومكتب الاستطلاع الوطني. ويكشف ما سبق عن عمق وحجم العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية والدفاعية الأمريكية من جانب وشركات التكنولوجيا من جانب آخر.
وبالإضافة إلى ما سبق، اتخذت العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية والدفاعية من جانب وشركات الذكاء الاصطناعي من جانب آخر، شكلاً ثالثاً، وهو الاستثمار المشترك. فقد قامت شركة «إن كيو تل»، و«جوجل فينتشيرز» (Google Ventures)، الذراع الاستثماري لشركة جوجل العملاقة على الإنترنت، باستثمار ما يقل قليلاً عن 10 ملايين دولار لكل منهما في شركة «ريكوردد فيوتشرز» (Recorded Future)، وهي شركة تمتلك تقنية تراقب الإنترنت في الوقت الفعلي للتنبؤ بالأحداث المستقبلية. تستفيد جوجل من هذه التقنيات لتعزيز قدرتها على جمع وفهرسة البيانات المتاحة للجمهور لأغراض الإعلان والاستخدام الاستهلاكي، في حين تركز وكالة الاستخبارات المركزية ووكالات الاستخبارات الأخرى بشكل متزايد على تحليل المعلومات المتاحة للجمهور لدعم «الاستخبارات مفتوحة المصدر». وتعد هذه هي المرة الأولى التي تستثمر فيها جوجل ومؤسسة مرتبطة بجهاز الاستخبارات في نفس الشركة في وقت واحد، على الأقل بشكل علني.
كما يلاحظ أن شركات التكنولوجيا لم تتوقف عند حدود تطوير نظم داعمة لتطبيقات عسكرية، بل دخلت بشكل مباشر في شراكات عسكرية مع شركات دفاعية، فقد دخلت شركة «ميتا»، المالكة لفيسبوك، كشريك مع شركة الدفاع الأمريكية الناشئة «أندوريل» (Anduril)، بهدف تطوير تقنيات متقدمة في مجالي الواقع المعزز والذكاء الاصطناعي، ضمن مشروع أوسع لوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» تصل ميزانيته إلى 22 مليار دولار، يركز على تعزيز القدرات القتالية والتكتيكية للجنود الأمريكيين من خلال أجهزة ذكية قابلة للارتداء. وستعمل «ميتا» على تطوير برمجيات متطورة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، في حين تتولى «أندوريل» تصميم الأجهزة الميدانية التي تتضمن خوذات ونظارات بتقنيات الواقع الممتد، تتيح للجنود رصد الطائرات المسيّرة من مسافات بعيدة، وكشف أهداف مختفية عن الأنظار في بيئات قتالية معقدة، إضافة إلى تشغيل أسلحة متقدمة مدعومة بأنظمة ذاتية التحكم.
ومن جهة أخرى، دخلت «أوبن إيه آي» في شراكة مع «أندوريل»، في ديسمبر 2024، لدمج تقنيتها في الذكاء الاصطناعي ضمن الأنظمة المضادة للطائرات المسيّرة التي تنتجها شركة صناعة الأسلحة، ما يمثل أهم دفعة للشركة المطورة للذكاء الاصطناعي نحو قطاع الدفاع حتى الآن. ومن المقرر أن تعتمد «أندوريل» على تكنولوجيا «أوبن إيه آي» لتعزيز قدراتها في الكشف عن «التهديدات الجوية» من الطائرات المسيّرة، التي أصبحت جزءاً محورياً من الحروب الحديثة. وتعتزم «أوبن إيه آي» استخدام بيانات «أندوريل» لتدريب برمجياتها على هذه الأنظمة الدفاعية.
أسباب الشراكة المتزايدة
يمكن القول إن أحد الأسباب التي تدفع الولايات المتحدة إلى التوسع في الاعتماد على شركات التكنولوجيا العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي هو اتجاهها بشكل متزايد إلى تطوير منظومات أسلحة مختلفة تعتمد على الذكاء الاصطناعي. ومن ذلك على سبيل المثال، الطائرة المقاتلة الشبحية من الجيل الخامس «إف – 35». صحيح أنه ليس هناك جديد فعلياً في تزويد المقاتلات بإلكترونيات وأجهزة استشعار وقنوات اتصال على متنها، غير أن المقاتلة مصممة أيضاً لتحتوي على مقعد لشخص واحد في قمرة القيادة، وبالتالي فإن دور مساعد الطيار سيتم تنفيذه بواسطة خوارزميات الذكاء الاصطناعي، والتي ستتولى بعض المهام التي كانت تُسند عادةً إلى الطيار البشري. ومن هذه الأدوار التي ستلعبها المقاتلة دمج المعلومات الاستخباراتية المتفرقة القادمة من مجموعة متنوعة من أجهزة الاستشعار ومصادر المعلومات الأخرى لخلق وعي ظرفي كامل للطيار البشري. وتعرف قدرة خوارزميات البرمجيات على دمج البيانات من قنوات متعددة باسم «دمج المستشعرات» (Sensor Fusion).
وتم بالفعل تجربة استخدام الذكاء الاصطناعي بنجاح كمساعد طيار على متن طائرة «يو – 2» (U-2)، وهي من أقدم الطائرات في سلاح الجو الأمريكي. في هذه التجربة، تولى الذكاء الاصطناعي مهام الملاحة التكتيكية وتشغيل أجهزة الاستشعار، بينما تمكن الطيار البشري من التركيز على قيادة الطائرة، والموافقة على إطلاق الأسلحة، واعتماد التعديلات على خطط الطيران، والتواصل مع البشر الآخرين. وبالتالي، تحوّلت إحدى أقدم القاذفات إلى أوائل الطائرات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعني أن تقنيات الذكاء الاصطناعي قابلة للدمج في أجيال مختلفة من الطائرات، كما يوضح المثال السابق.
ومن جهة أخرى، يتم توظيف الذكاء الاصطناعي كذلك في إنشاء قنوات للتعاون بين الإنسان والآلة، إذ يمكن للمقاتلة «إف – 35» أن ترافقها طائرة مسيّرة مستقلة تُعرف باسم «الجناح الجوي الوفي» (Loyal Wingman)، مثل الطائرة المسيرة «إكس كيو – 58 آي فالكيري» (XQ-58A Valkyrie). وسيساعد الذكاء الاصطناعي المقاتلة «إف – 35» في التحكم بهذه الطائرة المسيّرة، والتي ستعمل على توسيع نطاق أجهزة الاستشعار للمقاتلة، وزيادة مدى الاشتباك القتالي لها، كما تشمل مهامها استطلاع الطريق أمام الرادارات المعادية، واختبار الدفاعات الجوية للعدو وإرباكها، وجذب النيران بعيداً عن المقاتلة، ومسح السماء بحثاً عن التهديدات الجوية، وتمرير بيانات الاستهداف إلى الطائرات المأهولة، وتنفيذ مهام الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وربما حمل أسلحة إضافية. وستكون طائرة فالكيري المسيرة نفسها مزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ويكشف ما سبق أسباب اهتمام الشركات الدفاعية حول العالم بتطوير شراكات مع شركات التكنولوجيا، خاصة تلك العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي، نظراً لأن هذه الشركات تمتلك من التكنولوجيات المتطورة التي قد تساهم في تطوير المنظومات التي تحتاج إليها الجيوش، خاصة مع الاتجاه لتوسيع الاعتماد على الأسلحة المسيرة.
ومن جهة أخرى، بات من الواضح أن هناك سباقاً للتسلح بين القوى الكبرى. وامتد هذا السباق إلى مجال دمج الذكاء الاصطناعي في منظومات الأسلحة المختلفة. وعلى سبيل المثال، فإن روسيا تطور مقاتلاتها للجيل الخامس للعمل بالذكاء الاصطناعي، فضلاً عن ربطها بالطائرات المسيرة. فقد أكد مصدر في صناعة الطائرات الروسية، في عام 2018، أنه سوف يتم تزويد المقاتلة «سو – 57» ببرامج الذكاء الاصطناعي، والتي ستحتوي على منظومة قيادة وأجهزة تسديد تنتقل إلى نظام أوتوماتيكي لاستخدامها القتالي، أي أنه سيتم دُمج مساعد الذكاء الاصطناعي في المقاتلة لتقديم الدعم للطيار خلال «عمليات الطيران الروتينية» وفي سيناريوهات القتال، كما تعتزم روسيا دعم مقاتلتها الشبحية من الجيل الخامس، بنظام الطائرات المسيرة «إس – 70 أوخوتنيك» (S-70 Okhotnik)، والتي ستكون بمثابة جناح جوي للمقاتلة «سو – 57»، وتهدف إلى تعزيز القدرات القتالية للطائرات المأهولة. وفي هذا السباق المحموم، فإن الولايات المتحدة تسعى للريادة فيه من خلال الدخول في شراكات واسعة مع شركات التكنولوجيا.
مخاوف أخلاقية وحقوقية
هناك مخاوف من أن يؤدي توسع التعاون بين شركات الذكاء الاصطناعي والأجهزة الأمنية والدفاعية إلى تداعيات واسعة على حقوق الإنسان، تتمثل في انتهاك خصوصية الأفراد، أو ارتكاب جرائم حرب في حالة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات القتل أثناء المعارك، بالإضافة إلى وجود مخاوف من إمكانية أن يكون لشركات الذكاء الاصطناعي تأثير على توجهات الناخبين. ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1. انتهاكات الخصوصية للأفراد: كما سلفت الإشارة، كان هناك اتفاق مبدئي بين الحكومة الأمريكية وشركة جوجل منذ البداية على تطوير آليات تمكن من مراقبة تفاعلات الأفراد على الإنترنت، وبصورة تخدم المصالح الأمنية والتجارية للطرفين.
ويتم اتهام الصين عادة بأنها توظف الذكاء الاصطناعي في تنفيذ عمليات مراقبة واسعة النطاق، إذ إن دمج نظم الذكاء الاصطناعي في مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، والكاميرات، وتقنية التعرف إلى الوجه، يتيح للسلطات الصينية تتبع المعارضين والمنتقدين للحكومة، وتحديد تصريحاتهم ومواقعهم. وهناك بنية تحتية قائمة فعلاً، وقادرة على دمج المعلومات من مصادر متعددة وتحليلها في الوقت الفعلي لصالح الجهات الحكومية. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للدول الغربية، فقد ظهرت تقارير تتحدث عن انتهاكات للخصوصية في الولايات المتحدة، بما في ذلك قيام وزارة الأمن الداخلي بمراقبة وسائل التواصل الاجتماعي بموجب عقود حكومية مع متعاقدين من القطاع الخاص، والذين يروّجون لقدرتهم على فحص ملايين المنشورات واستخدام الذكاء الاصطناعي لتلخيص نتائجهم لصالح الزبائن الرئيسيين الذين يتعاملون معهم، بما في ذلك الوكالات الحكومية. وأكدت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أنها تستخدم أدوات رقمية لتحليل منشورات وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالأفراد المتقدمين للحصول على تأشيرات أو بطاقات إقامة دائمة. ويقوم برنامج المراقبة بالبحث عن أي مؤشرات على «خطاب متطرف» أو «أنشطة معادية للسامية». وأثار هذا الإعلان تساؤلات حول كيفية تعريف هذه المصطلحات، وما إذا كان يمكن استخدام الانتقادات العلنية لبعض الدول لتصنيف المتقدمين على أنهم «متعاطفون مع الإرهاب».
ومن الجدير بالذكر أنه الوعي الأوسع بممارسات المراقبة الجماعية التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الأمريكية لم يؤد إلى تغيير قانوني حاسم يوقف هذه الممارسات. لذا، فإن العديد من المفكرين الغربيين باتوا يعتقدون بأن هناك وهماً بوجود خط واضح يفصل بين الدول الديمقراطية وأعدائها في ممارسات الرقابة الواسعة على المواطنين، إذ إنه باسم الأمن وحماية الأمن الوطني، تستمر ممارسات المراقبة في الدول الغربية في الحد من الحريات المدنية.
2. التورط في ارتكاب جرائم حرب: قامت شركات التكنولوجيا الأمريكية بالدخول في مشاريع مشتركة مع الحكومة الإسرائيلية لإمدادها بالحوسبة السحابية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. ويتمثل إحدى هذه المشروعات في «مشروع نيمبوس» (Project Nimbus)، والذي تصفه الحكومة الإسرائيلية باعتباره مشروعاً رائداً متعدد السنوات والأول من نوعه في الحكومة الإسرائيلية، ويقوده المحاسب العام لوزارة المالية من خلال إدارة المشتريات الحكومية بالتعاون مع الوكالة الوطنية الرقمية الإسرائيلية، والمديرية الوطنية الإسرائيلية للإنترنت، ووزارة الدفاع، وقوات الدفاع الإسرائيلية وشركاء آخرين في الحكومة، أي أن المشروع ذات طبيعة عسكرية. وعلى الرغم من ذلك، زعمت أمازون وجوجل، وهما المقاولان الرئيسيان في المشروع، بأنه مشروع مدني بحت، لكنَّ تحقيقاً أجرته مجلة وايرد (Wired) الأمريكية، المتخصصة في مجال التكنولوجيا، أظهر أن جيش الدفاع الإسرائيلي كان عنصراً أساسياً في مشروع نيمبوس منذ بدايته، حيث أرسى تصميم المشروع وكان من أهم مستخدميه.
وتوفر شركة جوجل للمشروع السابق تقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، والتي ستمنح الجيش الإسرائيلي بقدرات أكبر في التعرّف على الوجوه، والتصنيف الآلي للصور، وحتى القدرة على تحليل المشاعر داخل الصور والكلام والكتابة. وستزيد تلك الإمكانيات من قدرات الجيش الإسرائيلي على الرقابة الصارمة للفلسطينيين.
وحتى قبل توقيع صفقة مشروع نيمبوس المثيرة للجدل مع إسرائيل، كانت شركة جوجل تدرك أنها لا تستطيع التحكم فيما ستفعله إسرائيل وجيشها بتكنولوجيا الحوسبة السحابية المتطورة، وفقاً لتقرير داخلي سري حصلت عليه صحيفة «ذا أنترسيبت»، إذ لن تكون شركة جوجل قادرة على مراقبة، أو منع إسرائيل من استخدام برامجها لإلحاق الأذى بالفلسطينيين فحسب، بل يشير التقرير أيضاً إلى أن العقد قد يُلزم الشركة بعرقلة التحقيقات الجنائية التي تجريها دول أخرى في استخدام إسرائيل لتقنية جوجل، وهو أمر لم يسبق له مثيل في صفقات جوجل مع دول أخرى. وأصبحت مسألة المسؤولية القانونية أكثر أهمية لجوجل مع دخول إسرائيل العام الثالث لما يُعتبر على نطاق واسع، وفقاً لصحف غربية، إبادة جماعية في غزة، حيث يضغط المساهمون على شركة جوجل لإجراء التحقيقات اللازمة حول ما إذا كانت تقنيتها تساهم في انتهاكات حقوق الإنسان أم لا.
وهناك مؤشرات متزايدة في أن إسرائيل قامت بتوظيف برامج الذكاء الاصطناعي من إنتاج شركات مايكروسوفت وجوجل وميتا خلال معاركها ضد قطاع غزة. على سبيل المثال، دمجت إسرائيل الذكاء الاصطناعي مع تقنيات التعرف على الوجه للتعرف على الوجوه المشوهة جزئياً أو المصابة، ولتحديد أهداف للغارات الجوية، كما طورت نموذجاً لغوياً باللغة العربية لتشغيل روبوت دردشة قادر على تحليل الرسائل النصية والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي وبيانات أخرى.
وشاركت مجموعة من جنود الاحتياط العاملين في شركات مثل جوجل ومايكروسوفت وميتا في هذه المشروعات بالتعاون مع وحدة 8200، فيما أصبح يعرف بـ»الاستوديو»، وهو مركز للابتكار وتطوير مشروعات الذكاء الاصطناعي.
كما تحدثت تقارير عن استخدام نماذج ذكاء اصطناعي من «مايكروسوفت»، فضلاً عن نموذج (GPT-4) من شركة «أوبن إيه آي» (OpenAI) في إطار برنامج عسكري إسرائيلي لاختيار أهداف القصف خلال حرب إسرائيل على قطاع غزة. وأدى استخدام هذه الأدوات أحياناً إلى حالات خطأ في التعرف على الأفراد والاعتقال، وأدى كذلك إلى سقوط ضحايا مدنيين، بحسب المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين، ما أثار تساؤلات أخلاقية حول توظيف هذه التقنيات، ومسؤولية الشركات المنتجة لهذه التكنولوجيا عن أي انتهاكات تحدث.
وكشفت تقارير استقصائية إعلامية غربية، وذلك بالاعتماد على مصادر داخل الوحدة 8200 أن الأخيرة استخدمت منصة «أزور» (Azure) لتخزين تسجيلات ملايين المكالمات التي يتم إجراؤها كل يوم في غزة والضفة الغربية، وأن «الوحدة 8200» استخدمت المعلومات الاستخباراتية المستمدة من مستودع ضخم من المكالمات الهاتفية المحفوظة في السحابة للبحث وتحديد أهداف القصف في غزة. ويلاحظ أن العاملين في شركة مايكروسوفت في إسرائيل، والذين يديرون العلاقة مع «الوحدة 8200» هم أنفسهم خدموا في الوحدة، أو أنهم كانوا جنود احتياط فيها. وبحسب الملفات المسربة التي اطلعت عليها جريدة الجارديان البريطانية، كانت مايكروسوفت بمن فيهم كبار المسؤولين التنفيذيين، على علم بأن الوحدة 8200 تخطط لنقل كميات كبيرة من البيانات الاستخباراتية الحساسة والسرية إلى «أزور». ووصل حجم البيانات المخزنة في خوادم «أزور» السحابية، في يوليو 2025، إلى أكثر من 11 ألف تيرابايت، أو ما يصل إلى 200 مليون ساعة من التسجيلات الصوتية.
ويبدو أنه من خلال «أزور» أو من خلال تطبيقات مماثلة للذكاء الاصطناعي، رصدت إسرائيل، على سبيل المثال، مكالمات إبراهيم بياري، أحد كبار قادة حماس في شمال قطاع غزة، وميّزت صوته من خلال الذكاء الاصطناعي، والتي قدمت كذلك تقديراً لموقعه التقريبي أثناء المكالمات، ونفذت إسرائيل غارات جوية، في 31 أكتوبر 2023، أسفرت عن مقتله، واستشهاد أكثر من 125 فرداً من المدنيين، ما يكشف عن عدم مبالاة إسرائيل بسقوط هذا الكم الهائل من المدنيين، وهو ما يخالف إحدى قواعد قانون الدولي الإنساني، وهو مبدأ التناسب، والذي ينص على أهمية العمل على حد من الضرر الناجم عن العمليات العسكرية على السكان والأعيان المدنية.
ولم يتم إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في تنفيذ عمليات قتل عشوائي ضد الفلسطينيين وحسب، ولكن تم توظيفه لمنع نشر صور جرائم حرب ضدهم. على سبيل المثال، خلال الحرب الجارية في قطاع غزة، مارست شركة «ميتا» تمييزاً منهجياً ضد الفلسطينيين من خلال حذف محتواهم، حتى عندما يقومون بتوثيق جرائم حرب ارتكبت ضدهم، وتقليل أولوية منشوراتهم وحساباتهم، وهي ممارسة تُعرف باسم «الحظر الخفي» (Shadow-Banning). في المقابل، انتهكت ميتا سياساتها الخاصة، وسمحت بمحتوى يحرض على العنف وخطاب الكراهية ضد الفلسطينيين عبر منصاتها.
3. التأثير على توجهات الناخبين: كثر الحديث حول كيفية توظيف مواقع التواصل الاجتماعي من جانب الجهات الأجنبية للتأثير على توجهات الناخبين، غير أن الانتخابات الأمريكية، في عام 2022، كشفت عن ملمح آخر، وهو تورط شركات التكنولوجيا المحلية في الترويج لمرشحين بعينهم. ومن ذلك قيام منصتي جوجل وفيسبوك بتقييد نشر الأخبار المتعلقة بفضيحة لابتوب هانتر بايدن، ابن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قبيل انتخابات 2020، وذلك لمنع هذا الخبر من التأثير على فرص الرئيس بايدن في الفوز بالانتخابات، بل وقام فريق الرئيس بايدن بالزعم كذباً بأنها حملة تضليل معلوماتي روسية، وذلك على الرغم من صدق كل المعلومات المتعلقة بالحاسوب، وما وجد عليه من ملفات تدين هانتر في قضايا فساد. واعترف مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، بأنه تلقى طلباً من مكتب التحقيقات الفيدرالي لتقييد نشر هذه المعلومات على منصته، وذلك على أساس أنها حملة تضليل معلوماتي. وقد تلقى هذا الإخطار قبل قيام صحيفة نيويورك بوست بتفجير سبق صحفي حول هذا الموضوع في أكتوبر 2020. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مكتب التحقيقات كان يمتلك اللابتوب الخاص بهنتر منذ ديسمبر 2019، أي أنه تورط عمداً في تكذيب خبر صحيح ومارس تأثيراً على شركة فيسبوك، والتي انصاعت له. ومع ذلك، فإن شركة فيسبوك متهمة، هي وشركة جوجل، بأنها متعاطفة مع الديمقراطيين.
فقد وجدت دراسة أن شركة جوجل أرسلت تنبيهات للمستخدمين الليبراليين للتصويت خلال جولة الإعادة لانتخابات مجلس الشيوخ الأمريكي في جورجيا عام 2020، وذلك على الأرجح لتعزيز إقبال الناخبين على التصويت لصالح الديمقراطيين. كما أرسلت شركة فيسبوك تنبيهات التصويت لجمهور محدد منذ عام 2008 على الأقل. ووجدت الدراسة أن التنبيهات زادت العدد الإجمالي للأصوات المدلى بها بمقدار 340 ألف صوت في عام 2010. ويكشف ما سبق أن شركات التكنولوجيا بات بإمكانها تحويل ملايين الأصوات إلى المرشحين المفضلين لشركات وادي السيليكون، وهو ما يمثل تدخلاً غير مشروع في مسار الانتخابات.
الختام
يكشف العرض السابق أن الولايات المتحدة باتت تقوم بتطوير أسلحة مختلفة تعمل بالذكاء الاصطناعي، وأنها تسعى لتبوؤ مكانة متقدمة من خلال الشراكة مع القطاع الخاص في وادي السيليكون، والذي طالما كان يقوم بتقديم الدعم للمشاريع العسكرية الأمريكية منذ زمن الحرب الباردة. وتكتسب هذه الجهود أهمية في ظل قيام الدول الكبرى الأخرى، لاسيما روسيا، بتطوير منظومات قتالية تعمل بالذكاء الاصطناعي. ونظراً لأن شركات الذكاء الاصطناعي باتت تمتلك القدرة على تخزين كم هائل من البيانات، وتحليلها باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتقوم بمشاركة هذه البيانات مع الحكومة الأمريكية، فإن البعض يخشى من أن يؤدي ذلك إلى انتهاك الحقوق والحريات، كما أن توظيف الذكاء الاصطناعي في العمليات القتالية يمكن أن يترتب عليه ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما يتضح من مجريات الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة.
د. شادي عبدالوهاب منصور أستاذ مشارك في كلية الدفاع الوطني