شهدت الصناعات العسكرية خلال العقود الأخيرة تطوراً هائلاً في تقنيات تصنيع الذخائر الذكية، مما دفع العديد من الدول إلى الاستثمار بكثافة في الذخائر الموجهة بدقة. أدى الاعتماد المتزايد، في الجيوش الحديثة، عليها خاصة في أعقاب حرب تحرير الكويت، إلى اعتقاد بعض المحللين أن هذه الذخائر في طريقها إلى إلغاء الحاجة إلى الذخائر التقليدية، نظراً لدقتها العالية وكفاءتها في تقليل الخسائر الجانبية.
يثير هذا التوجه تساؤلات حول جدوى التخلي الكامل عن الذخائر غير الذكية، خاصة في ظل التكلفة العالية للأسلحة الذكية والقيود التشغيلية التي قد تواجهها في بعض البيئات القتالية. تهدف هذه الدراسة إلى مناقشة مزايا وعيوب كلا النوعين من الذخائر، وتحليل الحاجة إلى تحقيق توازن بينهما لضمان فعالية عسكرية مستدامة.
خلفية التوجه نحو الذخائر الذكية
تُعد الذخائر الموجهة بدقة (Precision Guided Munitions) من الإنجازات الكبرى في التكنولوجيا العسكرية الحديثة، وأصبحت عنصراً أساسياً في الحروب الحديثة، بفضل دقتها العالية، وفعاليتها في إصابة الأهداف، دون الحاجة إلى كميات كبيرة من الذخائر. وقد تزايدت أهميتها بشكل واضح، بدءاً من حرب الخليج الأولى عام 1991، عندما أثبتت فعاليتها الفائقة مقارنة بالذخائر التقليدية. في الماضي، كان تدمير هدف واحد يتطلب استخدام عدد كبير من القنابل غير الموجهة، مما يزيد من الأضرار الجانبية، ويستنزف الموارد العسكرية. على سبيل المثال، خلال الحرب العالمية الثانية، كانت دقة القصف الجوي محدودة، بسبب القيود التقنية في ذلك الوقت. وفقاً للمؤرخ العسكري نورمان ديفيز، في كتابه «Europe at War 1939–1945 No Simple Victory»، احتاجت القوات الجوية الأمريكية في المتوسط إلى 108 طائرات لإسقاط 648 قنبلة لضمان إصابة هدف محدد بنسبة 96%. بالإضافة إلى ذلك، بلغت نسبة القنابل التي أصابت الهدف ضمن نطاق 1000 قدم حوالي 7% فقط من إجمالي القنابل التي ألقاها سلاح الجو الثامن الأمريكي خلال الحرب. في حرب فيتنام، كانت تتطلب إصابة هدف واحد حوالي 30 طلعة جوية. بينما تطور الأمر في حرب الخليج، حيث كان بإمكان طائرة واحدة تحقيق نفس النتيجة، بدقة شبه كاملة، باستخدام قنبلتين موجهتين بالليزر (Laser Guided Bombs). ووفقاً لأندرو ليبر في مقاله عن التكنولوجيا العسكرية التي استخدمت في حرب الخليج كانت طلعة جوية واحدة كافية لتدمير نحو 16 هدفاً مختلفاً، مما يبرز فعالية ودقة القنابل الموجهة بالليزر.
كان من ضمن العوامل الرئيسية التي ساهمت في التحول نحو الذخائر الذكية التطور التكنولوجي، التقدم في أنظمة التوجيه، مثل التوجيه بالليزر والتوجيه بالأقمار الصناعية (GPS)، مما حسّن دقة الضربات العسكرية. كما ساهم في ذلك سعي الدول إلى تقليل الخسائر البشرية والأضرار الجانبية وتحقيق النتائج المرغوبة بأفضل الوسائل، كتقليل عدد الطلعات الجوية وأعداد الذخائر المطلوبة لتحقيق الأهداف، للحد من الضغوط السياسية والإعلامية، إضافة إلى اعتبارات سياسية وإنسانية أخرى. إضافة لذلك، كان لقدرة الذخائر الذكية الفائقة على استهداف الأفراد والمنشآت الحساسة بدقة متناهية، تحقيقاً لميزة التكيف مع طبيعة الحروب الحديثة التي يغلب عليها الطبيعة اللاتماثلية غير التقليدية، مثل عمليات مكافحة الإرهاب والتمرد، تلك الميزة التي تسعى الجيوش الحديثة لامتلاكها. وأبرزت تلك الطبيعة الحاجة إلى ذخائر ذكية قادرة على استهداف هذه التهديدات بدقة متناهية لتعزيز فعاليتها في العمليات العسكرية.
إلى جانب العوامل السابقة، لعبت التطورات في الذكاء الاصطناعي دوراً متزايداً في تعزيز قدرات الذخائر الذكية، حيث أدى دمج أنظمة التعلم الآلي والتحليل الفوري للبيانات إلى تحسين دقة الاستهداف وتقليل الأخطاء التشغيلية. كما ساهم تنويع مصادر التقنية، من خلال الاستفادة من التقدم في الصناعات المدنية مثل تقنيات الاستشعار والاتصالات، في رفع كفاءة أنظمة التوجيه المستخدمة في الذخائر الحديثة، إضافة إلى تحسين قدرتها على جمع المعلومات والتكيف مع ظروف المعركة المتغيرة، مما جعلها أكثر فاعلية في تحقيق الأهداف العسكرية بأقل خسائر ممكنة. أدت تلك العوامل مجتمعة إلى بروز الذخائر والأسلحة الذكية كخيار مفضل لدى مختلف الجيوش القادرة على تحمل تكاليفها.
تحديات الذخائر الذكية
رغم نجاح الذخائر الذكية، فإن الاعتماد الكامل عليها يواجه عدة تحديات، منها التكلفة العالية، فبطبيعة الحال، تفوق تكلفة الذخائر الذكية نظيرتها التقليدية بكثير، فبينما تصل تكلفة القنبلة الموجهة بالليزر أو بنظام GPS، وفقاً لأقل التقديرات المالية، إلى مئات الآلاف من الدولارات، فإن القنابل التقليدية تكلف جزءاً بسيطاً من هذا المبلغ، مما يجعل استخدامها على نطاق واسع خياراً غير مفضل وغير عملي في بعض السيناريوهات القتالية التي تتطلب تغطية مساحات مستهدفة كبيرة. ومن ناحية أخرى، ورغم التقدم الفائق للتقنية المستخدمة في الأسلحة والذخائر الذكية، فإنه لا توجد تقنية تعمل بكفاءة بنسبة 100% دائماً، وقد تؤدي الأخطاء البرمجية أو الأعطال الميكانيكية المصاحبة لها إلى فقدان فعاليتها، والبحث عن حلول أخرى. على سبيل المثال، تستخدم القوات الجوية الأمريكية صواريخ AGM-88E Advanced Anti-Radiation Guided Missile AARGM، والتي تُعتبر أكثر تطوراً من الإصدار السابق AGM-88B High-speed Anti-Radiation Missile، إلا أن سعرها يزيد عليه بعشرة أضعاف، مما يجعل استخدامها مكلفاً للغاية. كذلك، تعتمد القوات الجوية الأسترالية (RAAF) على الذخائر الموجهة المتطورة، والتي تتطلب استثمارات كبيرة ليس فقط في إنتاجها، ولكن أيضاً في عمليات الصيانة والتحديث المستمرة، مثل تحديث البرمجيات وترقية المنصات الجوية لضمان تكاملها مع هذه الذخائر المتقدمة. كما تستثمر القوات المسلحة البريطانية والفرنسية في صواريخ Storm Shadow/SCALP EG، التي تُعد من بين أغلى الصواريخ الجوالة، حيث تصل تكلفتها إلى أكثر من مليوني دولار للصاروخ الواحد، مما يضع هذه القوات أمام تحديات موازنة بين الفعالية التشغيلية والتكلفة المالية المرتفعة.
رغم الثورة في دقة الاستهداف وتقليل الخسائر الجانبية، فإن الذخائر الذكية ليست محصنة ضد التدابير المضادة التي يمكن استخدامها لتعطيل فعاليتها. من الأمثلة على ذلك، اعتماد الأسلحة الموجهة على أنظمة استشعار متقدمة مثل الليزر، الرادار، أو نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، يجعلها عرضة لتقنيات التشويش أو الخداع الإلكتروني التي يمكن أن تحد من دقتها أو تجعلها غير فعالة تماماً في بعض السيناريوهات. وفي الحرب الدائرة حالياً في أوكرانيا، أفادت تقارير ميدانية أن روسيا استخدمت أنظمة تشويش إلكترونية مثل R-330Zh Zhitel وTirada-2 للتشويش على أنظمة GPS التي تستخدمها الطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة الأوكرانية، مما أدى إلى تراجع دقة الضربات الأوكرانية.
إلى جانب التحديات المرتبطة بالتكلفة والاعتمادية والتصدي للوسائل المضادة الإلكترونية، تبرز تحديات أخرى قد تؤثر في فعالية الذخائر الذكية في ساحات القتال الحديثة. فمن الناحية القانونية والأخلاقية، يثير الاعتماد على هذه الذخائر، لا سيما تلك التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، تساؤلات حول المسؤولية عن الأضرار الجانبية واحترام القانون الدولي الإنساني، خاصة فيما يتعلق بالتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية. كما أن مخاطر الخروج عن السيطرة تبقى مصدر قلق، لاحتمال أن يؤدي الاعتماد المفرط على الأنظمة المستقلة إلى اتخاذ قرارات غير متوقعة أو غير مرغوبة، الأمر الذي قد يزيد من المخاطر التشغيلية. كما أن الظروف البيئية القاسية، مثل الأحوال الجوية السيئة والتضاريس المعقدة، قد تؤثر في أنظمة التوجيه والاستشعار، مما يحد من دقة وفعالية الذخائر الذكية في بعض الحالات.
أهمية الذخائر التقليدية – غير الذكية
رغم التطور التكنولوجي، لا تزال الذخائر التقليدية تلعب دوراً مهماً في الحروب، حيث توفر بعض المزايا التي لا يمكن تجاهلها، يأتي انخفاض التكلفة مقارنة بنظيراتها الذكية وسهولة الإنتاج وتدني الحاجة إلى تقنيات تصنيع متطورة، في مقدمة تلك المزايا. كما لا يمكن إنكار أن الذخائر غير الذكية أثبتت فعاليتها في العمليات واسعة النطاق، فعند مواجهة أعداد كبيرة من القوات المعادية، قد يكون استخدام الذخائر التقليدية أكثر كفاءة من الذخائر الذكية، خاصة في الضربات الواسعة مثل حصائر النيران (Carpet Bombing) عندما تضطر القوات لإسقاط كمية كبيرة من القنابل على منطقة واسعة بهدف تدمير جميع الأهداف داخلها دون تمييز. وفقاً للمعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مؤسسة بحثية بريطانية، تطلق روسيا نحو 10 آلاف قذيفة يومياً، بينما تطلق أوكرانيا ما بين 2000 إلى 2500 قذيفة يومياً. وهناك ميزة عدم اعتماد الأسلحة غير الذكية على أنظمة توجيه حساسة، مما يجعلها أكثر مقاومة للتعطيل الناتج عن التشويش الإلكتروني أو الأعطال التقنية.
التوجه نحو مزيج متوازن من الذخائر
باعتبار التحديات والمزايا لكل من الذخائر الذكية ونظيرتها غير الذكية، يعتبر التوجه نحو تحقيق التوازن والجمع بينهما وفقاً لطبيعة العمليات العسكرية، توجهاً منطقياً لكافة الجيوش. يجب أن يشمل هذا التوجه تبني عدة محاور مثل تبني تطوير ذخائر هجينة منخفضة التكلفة والعمل على تطوير قنابل تقليدية مزودة بأنظمة توجيه بسيطة لزيادة دقتها دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة. كما يتطلب هذا التوجه الاحتفاظ بمخزون من الذخائر التقليدية لضمان توفرها في حالات الطوارئ أو في النزاعات التي تتطلب كثافة نارية عالية. ويأتي محور تطوير العقائد والأساليب القتالية مكملاً للمحاور السابقة، فينبغي تحديد الاستخدام الأمثل لكل نوع وتبني استخدام الذخائر الذكية في الضربات الدقيقة ضد أهداف استراتيجية، بينما تُستخدم الذخائر التقليدية عندما لا تكون الدقة المطلقة ضرورية. ثم يأتي المحور اللوجستي، فعند إقرار الكميات من الذخائر الذكية المراد تخزينها، يجب مراعاة الاعتبارات اللوجستية، مثل اشتراطات وسهولة النقل، ويكون ذلك بمحاولة تجنب إضافة أعباء على طاقات النقل المتيسرة لنقل الذخائر الاعتيادية قدر الإمكان. ينطبق ذلك على اشتراطات وقيود التخزين والصيانة لكل نوع من الذخائر، بحيث يتم اجراء التعديلات المطلوبة فيها للتوافق مع متطلبات تخزين وصيانة الذخائر الذكية ضمن الحد الممكن الأدنى، بما يضمن جاهزية القوات وقدرتها على الاستجابة السريعة في مختلف السيناريوهات القتالية بأقل التكاليف الممكنة.
وختاماً، أصبحت الذخائر الذكية عنصراً حاسماً في الحروب الحديثة، حيث توفر دقة عالية وكفاءة قتالية متزايدة، لكنها ليست حلاً مثالياً لكل السيناريوهات العسكرية بسبب تكلفتها العالية وإمكانية تعطيلها بالتدابير المضادة. لا تزال الذخائر التقليدية تلعب دوراً مهماً، لا سيما في النزاعات واسعة النطاق والبيئات التي قد تعيق عمل الأسلحة الذكية. لذا، فإن المزج بين الذخائر الذكية والتقليدية يضمن مرونة العمليات العسكرية ويحافظ على الفعالية القتالية في مختلف الظروف.
إعداد: اللواء المتقاعد/ خالد علي السميطي